الفصل التاسع
ظّل أحمد يتحدث وسمر تستمع له، أخذ بيدها وأجلسها على الأرجوحة، وطالبها بالتحدث وتبرير ما تفعله من صمت وهروب. بعد إلحاح من أحمد، حاولت سمر تجميع شتات أمرها وتمالك نفسها، وبدأت الحديث بصوتها الرقيق الهادئ، معلله ما يحدث بأنها مشغولة مع مايا، طوال اليوم وحسب، حاول أحمد أن يقنع نفسه بهذا السبب، رغم إنّه يعتقد أن بعادها بسبب ما حدث مع جاسر تمنى لو أخبرته، ليفسر لها ويريحها، فلم يعتد أن تُخفي عنه شيء، لم يكن بينهما أسرار أبدا، كانا لا يفترقان والآن لا يتحدثان لأيّام، كانت تأخذ رأيه في أبسط الأشياء واليوم ساد الصّمت بينهما، سألها عن القصّص التي قرأتها وأمنيته أن يعود يحكي لها القصص ويتناقشا معا، تسرعت سمر وأخبرته أنّها قرأت أمس كتابًا، بعنوان (الحب الأوّل)، لكنها ندمت على تسرعها، وهمَت بالابتعاد من شّدة حرجها، وتذكرت حلم أمس، كيف امتطي أحمد حصانه الأبيض وأخذها أمامه، وطارا بعيدا في عالم الحب والخيال الساحر؛ فصعدت إلى غرفتها بسرعة، وأغلقت الباب وهي تبتسم؛ وجدت أمامها مايا تسألها:- ما سر تلك السّعادة والابتسامة الجميلة. حاولت سمر تغيير الموضوع، وأعلنت موافقتها علي التغيير: - سوف أرتدي الفستان غدا بعيد مولدي.
وفي صّباح يوم عيد ميلادها، كان البيت كلّه يستعد للحفل، بينما مايا وسمر أغلقتا الباب، وجلستا تستعدان للحفلة والمفاجأة، ارتدت سمر فستانا رائعًا وتزينت كعروس مبهرة، لكنّها تخجل أن تنزل هكذا، ومايا تشدَ من أزرها وتقويها، حتّى جاء الموعد المشهود واجتمع الأهل والأصدقاء، وحان وقت نزول أميرة الحفل، بينما أحمد كان يجهز هديتها، خرجت سمر ومعها مايا، ونزلت السلم على استحياء وجسدها يرتعش من الرّهبة والخجل، نظر أحمد إليها فثبت في مكانه عندما رأى سمر تنزل كحورية البحر، بجمالها وسحرها، فهي تبدو فتاة ساحرة، ليست طفلة كما اعتاد أن يراها بل عروس، سرح أحمد في جمالها، شعرها المسدول فوق ظهرها مثل اللّيل الأسود وعيونها الواسعة كبحر غرق فيه وفستانها الوردي بلون خدودها، بدا أحمد منبهرا بها. ظّل صامتًا لم يرفع عينيه عنها طّوال الحفل، ثم تقدم ليسلمها الهدية وتمنى لها عيدا سعيدا، ما إن تلامست الأيدي حتّى غاب العاشقان في عالم الحب، ونسيا كل ما يدور حولهما، وتخيّلت سمر نفسها بين ذراعيه تتراقص، وتسمع ألحانًا للحب ونغمات يعزفها قلبها، كان حفلًا جميلًا بدا الجميع في سعادة ورضا، فمنذ فترة غاب الفرح والسّعادة وتوالت فيها المتاعب على الأسرة، فكان الحفل بمثابة استراحة وجرعة أمل للجميع. بعد الحفل، بدأت سمر تفتح الهدايا، وبدأت بهدية لأحمد، كانت عروسة جميلة ككلّ عام، ولكن هذه المرّة كانت مختلفة، ترتدي ثياب العروس ليلة زفافها وبجوارها عريسها ببذلته السوداء، كأنّهما يرقصان معا رقصة الحب، سعدت سمر بها واحتضنتها، وظّلت تدور وترقص بها طويلًا، ولم تهتم بباقي الهدايا، فتلك عندها أجمل الهدايا وأعزها إلى قلبها، نامت وهي تحتضنها في سعادة وحبٍ. في الصّباح شكرت سمر الجميع على الحفل والهدايا، وبعد تناول اﻹفطار توجهت سمر للحديقة برفقة أحمد و مايا، بينما جاسر اختفى ولم يتناول الطّعام معهم، مما جعل مايا قلقة عليه، فجأة ظهر أمامهم و سألته مايا: - أين كنت؟ فأخرج علبة صغيرة من جيبه، وأخبرها: - كنت أحضر هدية لسمر، فأمس لم استطع إحضارها، وفتح العلبة وأخرج خاتم رائع، وأمسك يد سمر فجأة وألبسها إيّاه ثم قبل يدها، ممّا أثار غيرة وغضب أحمد، حتّى أن سمر جذبت يدها بسرعة، قدم جاسر اعتذاره عن فعلة الأسبوع الماضي، هزت سمر رأسها وقالت :-لا عليك، نسيت الأمر. بينما أحمد خرج غاضبا ممّا حدث، فكم تمنى وحلم أن يقبّل يدها ويلبسها خاتم الخطوبة يومًا ما، ظّل يتساءل: - كيف يتجرأ جاسر على ذلك؟ وكيف تقبلت سمر هذا؟! هل أحبته؟ ولكن كيف ومتى؟ هل بهذه السرعة يأتي بلمح البصر ويسرق أحلامي أمام عيني؟!. ظلّ أحمد غاضبًا، مهموما أيّاما وليالي، أصبح يتجنب رؤية سمر و جاسر، حتّى لا تظهر غيرته، حضر إليه والده ليستفسر عن سبب اختفائه، لماذا لم يعد يتناول الطّعام معهم؟ أخبره أحمد أن كل شيء على ما يرام، لكنّه يجهز للجامعة، ويرتب أفكاره وأشيائه.
في هذه اللّحظة يدخل عبد القادر ليخبره باتّصال فتحي أخو زوجته، ودعوتهم جميعا إلى حفل زفاف ابنه الخميس القادم، وإصراره على حضور الجميع وقال:- ستقام وليمة كبيرة وحفل كبير، ولا أحد له غير أخته منال، ولن تكتمل فرحته إلا بوجودها معه، فأخبرني برأيك هل نذهب أم لا؟ أنا في حيرة شديدة، وخصوصًا أنّني لم أخبر منال بعد، إن علمت ستُصمم على الذهاب، أخبرني ماذا أفعل؟
فوجئ عبد الله بالخبر، وأشار على أخيه أن يذهبا معا دون منال والأولاد، فالطّريق طويل وصعب، سيكون السّفر شاقًا عليهم، لكن لابد أن تخبر منال، فهذا أخوها وواجب أن تعلم. اقتنع الحاج عبد القادر برأي عبد الله، وذهب لإخبار منال الّتي فرحت بالخبر، وصممت على الذهاب وحضور الحفل، إنّه ابن أخيها الوحيد، وواجبها أن تشاطره فرحته، مثلما تشاطرا الأحزان من قبل، وحاولت إقناع الحاج عبد القادر، الّذي أصبح في حيرة، وخصوصًا أنّه أوّل طلب لمنال فكيف يرفضه، ظّل يُفكر ويتناقش مع عبد الله بالأمر .وأخيرًا قرّرَا الذّهاب مع الجميع، واعتبارها رحلة ترفيهية للعائلة، استعد الجميع للرحلة وجهزوا أمتعتهم بفرح وسعادة، كانت سمر ملهوفة لرؤية أقاربها، ورؤية المكان الّذي نشأت فيه أمّها وخالتها منال، كانت مايا وجاسر الأكثر حماسة، وتشوقا لرؤية صعيد مصر وآثاره القديمة، فقد سمع من أصدقائهما عن معابد الأقصر وأسوان، وتمنا لو ذهبا لزيارتها، وهاهي فرصتهما الذهبّية، أتت على طبق من فضة، ليروا ويستمتعوا بالمناظر الخّلابة والآثار العتيقة .ركِبَ الجميع القطار المتّجه لصّعيد مصر، بحماس ولهفة، بينما جلس أحمد صامتًا، يراقب ضحك سمر ومايا وجاسر، فقد أصبحت سمر صديقة لهما، في حين اتسعت الفجوة بينها وبين أحمد، الّذي فضَل الانسحاب ولعب دور المشاهد لما يدور حوله، كانت أصواتهم تتعالى ويتعالى معها غيرته وألم قلبه، فقد زادت شكوكه في تعلق سمر بجاسر، فمعه تضحك وتمرح، وكلما رأت أحمد تصمت أوتهرب، ظّل يرتب استنتاجاته وشكوكه، حتّى أقنع نفسه بذلك فانتفض فجأة، كالّذي تألم من وخزه بقلبه، وخرج من المقصورة ليتنفس الصّعداء قليلا، فقد شعر باختناق حبه وموت حلمه، واحتضار مشاعره، وتهدّم قصور ظّل أعوام يبنيها شوقًا وأملًا .كاد ينفجر في البكاء، لولا أنّه لمح والده قادم من بعيد. فتمالك نفسه ولملم أحزانًه وكسرة قلبه وذهب ليساعد والده في توزيع الطعام، وصل الجميع للصّعيد واتجهوا لمنزل الحاج فتحي حيث وجدوا الولائم و الذبح والطبال والمزامير والأجواء المُبهجة والاحتفالات مقامة، كان الجو مفعمًا بالسّعادة والمرح والضّيوف يملئون المنزل وساحته مما أعجب الأولاد وأثار حماسهم، فانطلق حسن وحسين وجاسر بالرّقص، وأخذ الجميع يصفق لهم بسعادة .دخلت سمر ومنال ومايا وسناء مع النّساء في المنزل الكبير الرائع، الّذي يشبه المتاحف بزينته وأثاثه العتيق، مما أبهر مايا وسمر ودفعهما لالتقاط الصّور هنا وهناك. وتحمست مايا للرقص مع الفتيات على صوت المزمار، وأخذت سمر تلتقط لها الصّور، مرّ يومان في احتفال وولائم وسعادة، حتّى انتهت مراسم الزفاف على خير. هنا أصرّ فتحي عليهم البقاء لزيارة معالم الصّعيد فهذه فرصة قد لا تتكرر، لوعورة السّفر ومصاعب الطّريق، وتحت إصراره قرر الجميع البقاء لزيارة الآثار والمعالم السّياحية. وفي الصّباح انطلقوا في رحلتهم مع أحد المرشدين بالصّعيد الّذي أوضحَ لهم شرح لما يروا قائلًا:- على طول صعيد مصر شُيدت المعابد والأهرام والأديرة والمساجد التّاريخية والمتاحف لحفظ وعرض التّراث المصري القديم، وسوف نقوم كلّ يوم بزيارة تلك المعالم والتّمتع بها. واليوم نبدأ من هنا بسوهاج سنزور بها معبد سيتي الأوّل أومعبد أبيدوس، ومعبد رمسيس الثاني الّذي يضّم تمثال ميريت آمون، الدير الأحمر، دير الأنبا شنودة، كنيسة أبى سيفين، المسجد الصيني. سُرًّ الجميع مما رأوا، لكن مايا وجاسر كانا الأكثر انبهارًا والأكثر التقاطا للصّور وشراء التّذكارات والهدايا. وبعد يوم شاق عادوا للرّاحة ليواصلوا رحلتهم غدًا إلى المنيا .في اليوم الثّاني جهز الجميع أنفسهم فالرّحلة إلى المنيا طويلة وتحتاج لملابس فسوف يبقون هناك يومين أوأكثر ليتمكنوا من زيارة المعالم، وعندما وصلوا بدأ المرشد يصف لهم المعالم، مكثوا يومين شاهدوا بها :منطقة تلّ العمارنة الّتي تمثل عاصمة مصر في عهد الملك إخناتون، منطقة بني حسن الأثرية، منطقة تونة الجبل. بعد ذلك اتّجهوا إلى الأقصر وزاروا معبد الكرنك، معبد حتشبسوت، معبد الرمسيوم، معبد مدينة هابو، مقابر وادي الملوك والملكات، ومتحف الأقصر. وأخيرا أنهوا رحلتهم بمدينة أسوان حيث انبهروا بجزيرة فيلة -الّتي تفصل نهر النيل إلى قناتين- وشُيد عليها معبد فيلة، وزاروا معبد أبو سمبل الّذي شيّده رمسيس الثّاني، كان الجميع منبهر من عظمة الفراعنة وفخامة المعابد والآثار، وبدت السعادة واضحة علي مايا وجاسر، فكم تمنوا زيارة تلك الآثار لما سمعوه من أصدقائهم عنها، ورغم طول ووعورة الطّرق والتعب، كانوا سعداء برحلتهم الّتي امتدت لأسبوعين وانتهت أخيرًا . وغدًا سيعودون إلى مدينتهم القريبة من الإسكندرية. بعد يومان من وصولهم، يصطحب أحمد مايا وجاسر ومعهم سمر في جولة سياحية لعروس البحر الأبيض المتوسط، حيث الشواطئ الساحرة والمناظر الخلابة، والحدائق والمتنزهات، بجانب المتاحف كالمتحف الروماني، قلعة قايتباي، بجانب جوها الجميل، وهواءها العليل، استمتع الجميع باليوم وعادوا وقد تقرر سفر مايا وجاسر الأسبوع القادم. كل ذلك وأحمد يعتقد وقوع سمر في حب جاسر، وازدادت شكوكه أكثر عندما حان وقت الوداع، وانهمرت سمر في بكاء شديد، فقد اعتادت وجود مايا أختا لها، خصوصًا وهي البنت الوحيدة بالمنزل فكانت تشاركها كل شيء. وبسفرها ستعود لوحدتها من جديد، أمّا أحمد فظّن أنّها تبكي لفراق جاسر مما زاد غضبه وألمه، واتجه ليجهز السّيارة لتوصليهم للمطار مع عمّه عبد الرّحمن، الّذي كان ينوي الاستقرار بمصر، لولا تعب زوجته فجأة، لكن نيته ما زالت قائمة وسوف يحققها ذات يوم عندما تسمح الظّروف، وقد عزم على التبرع بثروته للملاجئ ودور المسنين، وتصفية البارات الّتي يمتلكها، لن يبقى غير المطعم؛ لتكون توبته نصوح ويتقبله الله. بعد سفرهم شعرت سمر بالوحدة، خصوصا لانشغال أحمد عنها وعزلته، التي عللها باقتراب موعد الجامعة وتجهيز نفسه للدراسة، لكنه كان ينوي الابتعاد عنها، وعزم على شيء أخر، فقد قرّر أن يغيب عن المنزل تماما، سيمكث مع ابن خالته (سامي) القادم من الكويت للالتحاق بالجامعة أيضا، في شقتهم المجاورة للكلية بالإسكندرية، بدلًا من أن يسافر يوميًا للجامعة ذهابًا وإيابًا، لكنّه لم يبلغ أحدًا سوى والده، لم يكن السبب تعبه من السّفر لكن الهروب من سمر، ظنّا أنّه يستطيع النّسيان وقتل مشاعره. علمت سمر بسفره وقراره، حتّى أنّه لم يودعها .ظّلت سمر تبكي بشّدة، وتتألم مما فعله، وتعجبت من تصرفه، كيف وهو رفض كلية الطب بالصّعيد، حتّى لا يبعد عنهم، فكيف استطاع أن يبتعد هكذا، ولماذا فعل ذلك؟ّ! مَرّت أيّام وسمر حزينة، لا تبتسم أبدا، وتظّل ساعات بغرفتها تبكي، حتّى الطّعام أمتنعت عنه، أصبح وجهها شاحب، وجسدها نحيل، وظهر التّعب والضّعف عليها. كان أحمد يتصّل يوميًا بوالده ووالدته، لكن يتجنّب الحديث مع سمر، مما أتعبها نفسيّا، لم تعتد غيابه عنها هكذا، بداخلها ألف سؤال ولا إجابة، هي تخجل منه لكن لا تتحمل بعاده عنها، الآن وقد اكتشفت شعورها وحبها وتأكدت منه، لماذا يبعد ويتركها تتعذب! كانت تتساءل: من أين لك بهذه القسوة يا أحمد؟! مرّ أسبوع زاد تعب سمر، حتّى جاء اتصّال من أحمد، رفعت السّماعة لترد فغلبها البكاء، وسقطت مغشيا عليها، رأتها منال فصرخت؛ واتصّلت بوالدها ليحضر الطّبيب، سمع أحمد الصّوت مما أفزعه ظّل يتصّل ولا أحد يجيب مما أقلقه، فعاد مسرعًا .