الفصل الرابع
عند وصولهم باحة البيتِ، وجدُوا والدة أحمد ملقاة على الأرض وتتألم بشدة، لقد سقطت أثناء هبوطها الدرج ولا تستطيع الحركة، حاول أحمد أن يساعدها لتقف ولكنّ الألم شديد وقدمها ملتوية، اتصَّل أحمد بالطّبيب فحضر سريعا وفحصَها وأمرَها بالرّاحة التّامةِ، وأمرها أن تظلّ شهرًا على الأقلّ في السّرير دون حركة. تردّد أحمد هل يتصّل بوالدِه وهو على سفرٍ و يقلقُه أم لا؟. فقرّرَ ألّا يقلقَه ويتصّرفَ هو بالأمرِ، لكن الأمر ليس هينًا، فلا أحدَ هنَا للمساعدةِ فلم يكنْ لهم غير خالةٍ وحيدةٍ، وقد سافرتْ مع زوجِها إلى الكويت منذ سنوات، ظل أحمد يحدثُ نفسَه متسائلًا:- ماذا أفعلُ؟ هل أستطيع تحمل مسؤولية البيت وتلبية طلباته وأنا على وشك الامتحان قريبًا؟. ظّل يفكرُ بحيرةٍ طّويلًا حتّى قرّرَ أمرًا، وحدثَ نفسَه به :- سوف أقومُ بتأجيلِ الثّانوية هذا العام والأمر لله، بينما هو غارق ببحر الحيرة والتفكير تقاطعه سمر قائلة:- أحمد هل ستتصل بعمي و والدي لتخبرهما؟
بعد صمت رد أحمد: - لا لن أخبرهما فقد أسببُ لهما قلقًا وهمَا على سفرٍ، لم يتبقَ من الوقتِ الكثّير أسبوعٌ واحدٌ ويعودان، لا داعي لأن أوترهما وأزعجهما.
بقلق قالت سمر:- أخشى أن يغضب عمي منك، والمشكلة كبيرة ماذا سنفعل بأعمال المنزل؟
باستنكار رد أحمد: - بالتأكيد لست أنا من سينظّفُ ويطبخُ، أنتِ البنت الوحيدة هنا وها هي فرصتك لتبهرينا، وتتفنني بالطّبخ و تنظيم المنزل بذوقِك الرّفيعِ.
تعالت ضحكات سمر مرددة:- أنت تمزح أليس كذلك؟! فأنا لا أجيدُ أعمالَ المنزلِ، أتقن فقط تحضيرَ الشّاي لكم.
هز أحمد رأسه ضاحكا:- الشّاي فقط !إذا سوف نصاب بالأنيميا أنا وإخوتك، الأمر لله سأجرب أنا ونتعلمُ سويًا ووالدتي ستوجهنا ونتبعُ الخطوات، ليس هناك حلًا آخرًا.
ترد سمر ضاحكة: - أنت تطبخ وتغسل إذا ستكون الحاجة أحمد، عذرًا منك تخيلتك الآن، وتستمر بالضحك، ثم تردف قائلة:- لكن لحظة ودروسك وامتحاناتك! أيعقل هذا لن ينفع أبدا؟، أنا سأتعلم و أجرب والله المستعان، وأنت ركز في دروسك، الوقتُ ضيّق والامتحانات قريبًا.
رد أحمد ضاحكا:- لست مجنونًا لأترككَ تُجرّبين، لا نريدُ المجازفَة، سيحترقُ الطّعام، وقد يحترقُ البيتُ بالكاملِ، هل نسيتِ عندما فكرتِ أن تصنعي لنا الكيك، كما أخذتِ الطّريقة بالمدرسة، وقتَها احترقَ الكيك، وكاد البيتُ أن يحترقَ، لولَا سترَ الله. دخل أحمد المطبخ وعندما أمسك الوعاء ليطبخ؛ انفجرتْ سمر ضاحكةً من مظهره.
نظر لها أحمد قائلا: - لن نأكل اليوم، وسنقف نضحك هنا، هيا تحركي وساعديني، قطعِي لي البصل، وأنا سأجهز اللّحمَ، سأحضّر حساءً رائعًا لا مثيل له حتى بأكبر المطاعم، اليوم ستأكلون أشهى الطعام من يد الشيف أحمد.
أمسكت سمر البصل لتقطّعه؛ فسالتْ الدموعُ شلالات من عينيها وتوالت العطسات منها.
نظر إليها أحمد غاضبا:- كل هذه الدموع من البصل؟ اذهبي واغسلي بسرعة، لن تنفعي معي هنا، هل أطبخ وأبدع أم أهتمُ بك ِ؟! سيكون دوركِ تنظيفَ وتنظيم المنزل فقط، هيا انصرفي واتركيني لأنجز عملي.
مرَّ أسبوع كامل وأحمد يحارب في المطبخ كلّ يومٍ، وسمر وسناء تشجعانه، إلى أن وصلَ والدُ أحمد وعمّه من سفرِهما، غضبَ والده منه لإخفائه مرض والدته، لكنه سُرَّ منه أيضا لأنه يحاول تحمل عبء المسؤولية في هذه السن الصغيرة، وبما أنه وصل الآن عليه حل المشكلة فقد قرر إحضار خادمة تكون ثقة، ليسلمها مسؤولية البيت، والآن لم يتبق لأحمد من مسؤوليات غير دراسته، فحاول أحمد أن يلملمَ شتاتَ نفسِه ويُحصلَ دروسَه، لكنّهُ شّعرَ بالغرق في دوّامة كبيرة فلن يستطيع تجميع دروسه ولا تعويض ما ضاع من الوقت هذا العام؛ فعزم على تأجيل الامتحان، ولكن كيف سيخبر والده، كان والده صعب المراس، فتحدّثَ إلى عمّه ووعدَه أن يقنعَ والده، وافق والده بعد مناقشة طويلة، خصوصا بعد الظروف المريرة التى مروا بها هذا العام .
وأخيرًا قرّرَ والدُه وعمّهُ أن يستقرَا ويتفرغا لتّجارة الحبوبِ والغلالِ، فقد تعبَا من السّفر و التّرحال، ومسئولية الأولاد كبيرة على سناء وحدَها، وها هي مريضة لا حول لها ولا قوة.
كانَ أحمد يساعدُ والدَه بالحساباتِ في فترةِ العطلةِ المدرسيةِ لكن أغلب وقته كانَ يقضيه مع سمر وإخوتها، بين المرحِ واللّعبِ، وقراءة القصّص والرّوايات. وكان الحاج عبد الله والدُ أحمد يعشقُ القراءةَ أيضًا؛ فقرّرَ تجهيزَ مكتبةٍ كبيرةٍ بالمنزلِ، تضّمُ مئاتَ الكتبِ والقصّص، سعدت سمر عندما أخبرَها أحمد؛ فسوف تكونُ المكتبة بمثابةِ ثروةً أدبيّةً وترفيهيّةً لهما، فعشقهما وشغفهما بالقراءة لا حدود له. كانت والدة أحمد تفكرُ في أمرِ آخر، وهو زواج الحاج عبد القادر، وتحدّثت إلى الحاج عبد الله، لكنه عندما عرض الأمر على أخيه عبد القادر، رفض بشّدة وثار غاضبا، وطلب منه نسيان هذا الموضوع وعدم التفكير فيه البتّة. بينما كانا أحمد وسمر يتناقشان في قصة جديدة، سألها أحمد: - ما رأيكِ بالقصّة؟
ابتسمت سمر قائلة: - قصّة جميلة جدا، ولكن أحزنني موت الأمّ وأفزعني زواج الأب بعد موتها، أين الوفاء؟! كيف نسي حبه لها هكذا؟!
تنهد أحمد وهو يردد: - الوفاء ليس معناه ألا يتزّوج بعد وفاة زوجته، زواجه كان من أجل أولاده ورعايتهم، ليس له أحد يعينه لرعايتهم، أحيانًا الظّروف تجبرُنا على قرارات عقلية بحتة، لا سلطانَ للقلبٍ عليها، الوفاء هو تذكرها والدعاء لها وتربية أولادها ورعايتهم، ومهما كان حزنه عليها، لا بد أن يتجاوز الألم ويفكر بعقلانية، حتى لو مات قلبه لابد أن يعيش ويفكر بعقله، من أجل رسالته ليوصل أبناءه لبر الأمان . تعبس سمر وترد بأسى: - كلامك أخافني جدا!، هل من الممكن أن يتزوج والدي بأخرى؟!، لا أتخيل أحد مكان والدتي، لو حدث ذلك سأموت، سأظلّ أدعو الله ألا يفكر والدي في الزواج، تساقطت دموعها وأخذَ أحمد يهدئِها ويطمئنُها بأن ذلك لن يحدث، وظّل يهدأ من روعها حتّى هدأت. وفي المحلّ كان الحاج عبد القادر والحاج عبد الله يتناقشان في الأعمال والتجارة، فجأة رن هاتف الحاج عبد القادر؛ ففزع ما إن رأى هويّة المتّصل و همّ واقفًا، ممَّا أثارَ قلق أخيه الحاج عبد الله فسأله بقلق: - من المتّصل؟