الفصل الرابع والعشرون
امتلأ الشّارع بالنّاس من كلّ مكان، الرّجال والشّباب خرجوا مسرعين لمعرفة ما يحدث، بينما البنات والنّساء ظلّلن يتابعن الأحداث من النوافذ دون أن يفهمن شيئًا.
دقائق وعاد الجميع بحزن وألم، والنّساء والبنات كلّهن حيرة ورغبة في معرفة الأسباب، ارتاح الجميع في مقاعدهم ليخبرهم أحمد في أسى:- أنّ حادثة ما سارت مع ابنة الجيران (حنين) ونُقلت للمستشفى أمس وللأسف لفظت أنفاسها الأخيرة منذ قليل وأمّها وأهلها منهارين، رحمها الله وعافانا من نار الفراق، أدعو لها بالرّحمة ولأهلها بالصّبر. حزنَ الجميع لمَّا سمعوا وخاصّةً زهرة ونور فقد كانت حنين زميلتهما بالجامعة، منذ شهرين تمت خطبتها لمعيد بالقسم، تم تحديد زفافها وكانت ستتزوج بعد شهر، وعقد قرانها كان من أيّام قليلة، وتعجبًا ممَّا حدث وبدا عليهما الحزن والتوتر. كان اليّوم حزين على الجميع، ذهبت منال وزوجة حسين للعزاء، بينما أوصتهما زهرة بمعرفة تفاصيل الحادث فهي تشعر بلغز ما في الأمر وتريد أن تفهم ما حدث لصديقتها، كانت تود الذهاب هي ونور لكن أحمد منعهما. ظلّت زهرة قلقة تنتظر عودتهما، فهي تكره الانتظار ولا تتحمل؛ غضبت نور من قلقها وتوترها فقد وترت الجميع، وطلبت منها أن تهدأ وتنتظر عودتهم من العزاء، وصلت منال فأسرعت زهرة إليها تحثها علي إخبارها بما علمت.
تحدثت زهرة بتوتر وقلق:- أنا قلقة جدًّا، هيا يا جدتي رجاء احكي بسرعة، كيف ماتت حنين؟ التقطت منال أنفاسها وجلست مرددة: -اصبري يا زهرة، لا حول ولا قوة إلا بالله، ادعي لها بالرّحمة ولأمّها بالصّبر، ولا داعي للكلام ابنتي الأمر صعب جدًّا، حسبي الله ونعم الوكيل في كلّ ظالم. اقتربت زهرة من جدتها وقالت في توسل: - أرجوكِ يا جدتي، بالله عليكِ أخبريني، أنا تعبت من التّفكير والانتظار، لن أهدأ ألّا إذا علمت، حنين كانت صديقتي، أنا أيضًا أشعر بنار من فقدها أخبريني.
هزت منال رأسها بأسى مرددة:- الأمر لله، أعلم أنّكِ عنيدة ولن تتركيني حتّى أخبركِ، فاسمعي ما حدث (حنين كانت تجهز لزفافها، خرجت لشراء مستلزمات لها، والدتها كانت ستخرج معها، لكن حدثت ظروف ولم تخرج معها، لأوّل مرّةٍ تخرج حنين وحدها وتركب تاكسي وللأسف السائق خدرها وأخدها لمكان بعيد واعتدى عليها ومعه آخر، نزفت فنقلوها ورموها أمام المستشفى، لكن ماتت رحمة من الله) رحلت حنين لكن تركت النار لأمّها والحزن للجميع، اللّهم استرنا جميعا وألهمنا الصّبر.
كانت زهرة ونور تبكيان بشّدةٍ، وزهرة تُردد:- هل أصبحنا في غابة؟! لا أتّخيل ما حدث، آه يا حنين آه يا حبيبتي رحمك الله، يا رب صبرًا.
استطردت منال بحزن: - المصيبة الأكبر أنّ ابنة عمّها هي من استأجرت الشّابين لفعل الجريمة؛ أعمتها غيرتها من حنين وحقدها عليها، فاتفقت على خطف حنين وأخافتها، وقد هربت ابنة عمّها مع زميلها الذي شاركها في تخطيط الجريمة عندما علمت بموت حنين، الحقد أعمى القلوب رحمتك يا ربّ بنا، ما الّذي حدث؟! اللّهم لطفك بما جرت به المقادير، والدها أصابته جلطة وفي حالة خطرة بالمستشفى وأمّها في حالة يرث لها، ليتولاهما الله برحمته الواسعة، وخطيبها يبحث مع الشّرطة عن المجرمين ويتوعد بالانتقام منهم . رجع الرّجال والشّباب من العزاء، فأسرعت البنات لغرفهم وهن تبكيْنَ من الصّدمة، وعندما علم أحمد أن منال حكيت لهم تفاصيل الجريمة، شعّر بضيقٍ وغضبٍ شديد، لأنّ نفسية البنات سوف تتعب والخوف سوف يسيطر عليهن، ويفقدوا الثّقة في الجميع. تأثرت منال بشدة واعتذرت منه، وأخبرته أنّ زهرة أصرت عليها لتحكي ولم تتركها منذ عودتها .
ربت أحمد على كتف منال بعطف مرددا: - لا بأس أمي، لا عليكِ، أعرف زهرة وفضولها، سوف نجد حلًا بإذن الله. مرّ يومان وزهرة حزينة لا تتكلم مع أحد؛ صدمتها كبيرة ليس فقط بموت حنين بل من غدر ابنة عمّها بها، لهذه الدرجة وصلت خيانة البشر، ملأها الخوف وشعرت أنّ الدّنيا أصبحت غابة كبيرة والنّاس وحوش تفترس بعضها البعض، ازداد الأمر سوءً عندما مات والد حنين بالمستشفى وبدأ الصّراخ يتعالى وأصبح الحزن يخيّمُ على المدينة بأكملها، تعبت نفسية زهرة أكثر؛ أخذها أحمد للفيلا هي ونور لتبتعد عن جوِّ الحزن وتتّحسن، ولكن لا فائدة، فقرّر أحمد سفر الجميع للقرية السّياحية (زهرة سمر)الّتي شيّدها منذ فترةٍ، الكلّ يحتاج تلك الرّحلة لتحسين نفسيتهم بعد هذا الحزن العميق. وصل الجميع للقرية السّياحية، المنظر رائعًا مياه البحر الصّافية الزرقاء، والشاليهات منسقة تنسيقًا رائعًا، وأشجار الزّينة والرّمال الساحرة وحمامات السّباحة مصممةً تصميمًا هندسيًا رائعًا، وعلى الشاطئ جلس المصطافين يتمتعون بجمال الطّبيعة، والأطفال يمرحون بالسّباحة ولعب الكرة، ويبنون قصورًا وبيوتًا من الرّمال، تأتي أمواج البحر وتهدمه فيضحكون ويفرحون، كلّ ذلك يعطي الكّثير من الطاقة الإيجابية والسّكينة الّتي افتقدها الجميع، فلينعموا ببعض الرّاحة من عناء الحياة. جلس الجميع يتبادلون الحديث ويتمتعون بهذا الجوّ السّاحر المريح للنّفس قبل العين، البنات جلسن يتسامرن ببعض الألعاب الورقية والألغاز والقصّص، بينما الشّباب كانوا يستمتعون بالسّباحة وألعاب الماء، تناول الجميع وجبة الغداء واستراحوا قليلًا بالاسترخاء على الشاطئ، ثّم اقترح طارق لعب الكرة وعمل فريقين بنات وشباب، لعلّ زهرة تنسى وتمرح معهم فهي تعشق كرة القدم، بدأت المباراة و اندمجت زهرة وبدأت تفرح وتمرح معهم، وتعالت ضحكاتهم وصخبهم، وأخيرا تنّفس أحمد الصّعداء بعد أن رأى ابتسامة زهرة تعود لها بعد غيابِ أيّامٍ. انتهت المباراة بفوز فريق البنات مما أدخل السّعادة لقلب زهرة. ذهب الجميع للرّاحة، وفي المسّاء لم يكن المشهد بأقل روعة فالسّماء صافية تملؤها النجوم والقمر منير، ومتعانق مع البحر كلوحة فنية ساحرة والأضواء والزّينة المعلقّة على الأشجار وبطول الطّريق للبحر تجعل الإنسان لا يقول إلّا سبحان الله المبدع، جلس الجميع لتناول العشاء على شاطيء البحر بسعادة، ثّم انصرف الشّباب والبنات للتمشية على الشاطئ، ثمّ جلسوا على الرّمال يتسامرون في سعادة، يتعّمد كريم الجلوس قريبا من نور، تفضحه نظراته لها وهي تخاف أن تتّعلق به، تعلم الفرق الكبير بينهما ماديّا واجتماعيًا، لا تريد أن تحلم كثيرًا بجانب الألم الّذي تعاني منه، ذلك السّر الّذي تخفيه حتّى عن زهرة. تمرّ بوقت عصيب جدًّا ومشكلة قد تنُهي مستقبلها كلّه لذلك دائمًا شاردة، ولا تشعر بالسّعادة الّتي تتظاهر بها، تبتسم حتّى لا تلفت الانتباه ولعلّ مصيبة فقدان حنين أتت في وقتها لتُخفي بها سر تعاستها. كان عيد ميلاد زهرة بعد أيّام؛ فبدأ أحمد يرتب مع الشّباب تجهيزات الحفلة ولكن طارق أراد أن يحدثه منفردًا ليخبره بأمر ما، نظر الشباب له وسألوا ما الأمر؟! ولكنهم انشغلوا في الزّينة والتّرتيب، حتّى انتهى أحمد وطارق من حديثهما، رجع طارق فرحا يبدو عليه السّعادة مرددًّا:- يا شباب أكثروا الزّينة والأضواء لأضعافها، فالمناسبة مناسبتان والفرحة فرحتان، حاول الشّباب الاستفسار عن السبب ولكنّه تركهم بحيرتهم وذهب، بينما اتّصل أحمد بسلوى وهالة وهيام للحضور للحفلة فهو يعتبرهم من العائلة، وأبلغهم بإرسال سيارة لإحضارهم غدًا. حاول طارق التّحدث مع زهرة بعيدًا عن الجميع، ليبلغها بحبّه ورغبته بالزّواج بها حتّى حانت له الفرصة وبدأ الحديث.
جذبها طارق بعيدا مرددا: - وأخيرًا أصبحنا وحدنا، أريدكِ في أمرًا هامًا، ما رأيكِ بي؟
تعالت ضحكات زهرة: -هذا هو الأمر المهم، لا وقت للمزاح. وهمّت زهرة بالانصراف .
استأنف طارق متأففا منها:- انتظري، أنا لا أمزح، حقًا كنت أريد أن أعرف رأيكِ بي، الموضوع باختصار أنا أحبّكِ وأريد الزّواج منكِ، هل توافقين؟
صمتت زهرة قليلًا واحمرت وجنتاها خجلًا، وهمت بالرّحيل، أمسكها طارق واقترب منها مرددا:- لن تهربي يا زهرة، أريد جوابا الآن.
ابتسمت زهرة بخجل وهزّت رأسها بالموافقة ثّم جرت بسرعة، وخلفها طارق الّذي أمسك بها مرة أخرى بسعادة وفرحة عارمة، حتّى أنّه احتضنها وظلّ يدور فرحا وكأنّه يطير بها في السّماء بجناحي الحب وليس على الأرض، تصل نور لترى ما يحدث و تصفق لهما مرددةً:- وأخيرًا سوف نفرح بكما.
تباعد الحبيبان عندما رأيا نور، وشعرت زهرة بخجل وانسحب طارق بصمت، وترك زهرة ونور تتبادلان الأحاديث والشّجار والشّد والجذب كعادتهما، حتّى تعانقَتا أخيرًا وباركت نور لزهرة ودعت لها أن يبارك الله لهما و يتم عليها سعادتها، وتمنت زهرة لها السّعادة أيضا مع كريم فهي تلاحظ اهتمامه ونظراته لها وحبّه وتتمناه زوجا لها. حاولت نور تغيّير الموضوع لكن تحت إصرار زهرة سقطت دموع نور وهي تردد: كم كنت أتّمنى كريم ولكن كُتب عليَّ التّعاسة والألم رغمًا عني، أنتِ لا تعلمين شيئًا يا زهرة؟! وبدأت نور في البكاء.