الفصل العشرون

بعد إجراء الفحص والأشعة، طلبت سمر من أحمد أن تذهب لمايا ساعةً فقط لتطمئن عليها، لم يرد أحمد فهو مشغول وشارد يفكر في ما رأى بالحلم، وفي صحة سمر ويتمنى ألا يفقدها، فبدونها لا حياة له، حتّى أعادت سمر الطلب منه، فانتبه لها وتردّد في رفضه خاف أن تغضب سمر فتتعب، فوافقَ بشرط ساعة فقط من أجلِ زهرة ومن أجلِ صحتِها فهي تحتاج للرّاحة .بينما توجهَ هو لسامي أيضًا ليضع حدًا لتلك المشكلة العالقة، أستمع أحمد لسامي وهو شارد الذّهن مشغول بأشعة وتحاليل سمر، فجأةً يثور سامي على أحمد: أنت السبب يا أحمد،ابتعدت عني كثيرًا، كنت لي أخًا وصديقًا، كنا لا نفترق وفجأة أخرجتني من دائرة اهتمامك وأنت تعلم بانطوائي ووحدتي بدونك، كنت أعتبرك وطنًا لي تركتني للضيّاع وحدي، وانشغلتَ عني بزوجتك وابنتك وطردتني من حياتك، فجأةً وجدتني وحيدًا بلا أخ أو صديق، توهت و تخبطت هنا وهناك، أطلقت على كلّ عابر صديق و انجرفت خلف أصدقاء السوء لقلّة خبرتي وجاريتهم لأكون متحضرًا وليس معقدًا، جاريتهم تقليدًا ولم أكن سعيدًا أبدًا. بات ضميري يؤنبني حتّى مات بالبطيء أصبحت أسير خلف القّطيع، الوحدة والجوع للاهتمام دفعني للرّذيلة؛ فعلت كلّ ما لا يخطر ببالك يا صديقي، خمور ومخدرات وزنا. كنت لا أبالي وكأنني انتقم من نفسي دمرت حالي، فعلت كل ما كنت أنفر منه وأصفه بالحرام. وكأنني كنت جائع وارتويت من كلّ متاع الحياة حتّى شبعت ولم أكتف، أصبحت بلا أخلاق ولا مبادئ. ومايا أيضا أهملتني مثلك، احتجت إليها ولم أجدها، انشغلت عني بالأطفال وأبحاثها، رغم أنّها تركت العمل لرعاية الأطفال، لم تترك أبحاثها كانت تراسل الجامعة بألمانيا عبر الانترنت وتجهّز للماجستير، أنتما الاثنان خذلتموني وتركتموني وحدي. فجأة وجدتني بلا وطن، فقدت اتزاني وضعت يا صديقي، أعلم أنّني مريض عانيت من قسوة أبي وغضبه وتدليل أمّي المفرط، ممّا أضعف شخصيّتي وأصابني بالانطواء حتّى وجدتك ووجدت مايا،لا أنكر أنّكما منحتموني الحياة والعطاء بلا حدود، كنتما كرمانة الميزان لي، لكن إهمالكما سبب لي اختلال توازن وضعفت شخصيتي من جديد. كنت بحاجةٍ ماسةٍ لاهتمامٍ مضاعفٍ منكما ولم أكن أطلبه أبدا افتقدتك وفقدت نفسي معك.
الاهتمام لا يُطلب يا صديقي، الاهتمام إذا طُلب أصبح كالدّواء يعالج المرض ولكنّه مؤقت ما أن ينفذ حتّى تطلب غيره،الاهتمام الّذي يُطلب لا يُشبع ولا يٌغني من جوع. وانفجرَ سامي بالبكاء هنا اقترب أحمد وحاول ضمّه لحضنه وتهدئته، لكنّه نهره بقوةٍ وأزاحه بعيدًا مردّدا: لم يعد ينفع يا صديقي؛ فالميت لن يعود للحياة، فات الأوان يا صديقي، صعب الآن أن نعود، المشكلة بعدما افترقنا كنت تعلم أنّني أمر بأسوأ المراحل النفّسية ولم تحاول حتّى الاطمئنان عليًّ، مر شهر وأنا وحدي بعد أن تركتني مايا وأنت لم تهتم ولم تحاول زيارتي أو السؤال عن حالي حتّى باتّصال واحد. حاول أحمد أن يشرح له ظروفه ومرض سمر، ولكن سامي كان يرفض أن يسمع ولم يهتم، ظلّ يلومه ويتهمه يعتقد أنّه ضحيّة وأن أحمد سبب ما حدث، وأنّه أهمله و تخلى عنه، حتّى ورد اتّصال لأحمد من المستشفى ليسقط من يده الهاتف بعد تلك المكالمة؛ وينهار باكيًا. هنا يقترب سامي بفزعٍ ويسأل أحمد عمّا يحدث، يحاول أحمد تمالك نفسه ويقول: سمر مريضة جدا يا سامي، وأنا أخفي الأمر حتّى عنها واتحمل ألمَها وحدي، والآن اتّصل الطّبيب يؤكد ضرورة إجراء عمليه لها قريبًا .
ربت سامي على كتفه مرددا:- أنا أسف جدا،لا أعلم بكل ذلك، تحاملت عليك بكلامي ونسيت أن لك حياتك وهمك، لا تغضب مني ولانفعالي عليك، هون عليك يا صديقي، بأذن الله ستتعافى سمر.
وفي بيت العائلة، تجلس سمر مع مايا تستمع منها وتشكو لها ظلمَ سامي وتغيّره عليها، وتغيّر أخلاقه للنّقيض وكأنّه تحوّل من ملاكٍ إلى شيطان، ومحاولاتها معه للعلاج النّفسي، والعلاج من الإدمان الّذي وصل له، لكنّه لم يتجاوب مع العلاج ولم يهتم بها ولا بوالديه، وسقط في هاوية الضّياع .
انهارت مايا باكية وهي تردّد:- لقد أحببته يا سمر، أحببته وكنت أتحمل منه و مستعدة لتحمّل أضعافِ ما تحملت منه، لكن أولادي كيف سيتحملون ذلك، هل أنتظر ليصل بهما الحال ويصبحان مثله؟! رفضه للعلاج أو تغيره يمزقني ويقهرني، لكنّني تعبت وأخاف على أولادي كثيرًا، أحاول أن أنقذهما من الضيّاع. لن أتحمل فقدهما يا سمر لذلك أخذت قرار الطّلاق ولا مفر منه، مهما حاول أن نعود فلا أمل ولا جدوى، الانفصال مؤلم وصعب عليَّ ولكنّه الحل الصّحيح لنا لا طاقة لي بضيّاع أولادي. وسأعود لألمانيا أكمل دراستي وأهتم بأطفالي هناك، دعواتك لي باختيار الأفضل.
كانت سمر تهوّن على مايا مصابها وألمها وتصبرها بكلمات حنونة مثلها، وتدعو لها بالفرج من ضيقها وأن يرعاها الله ويرشدها للخير. في هذا الوقت اتّصل أحمد بسمر يبلغها أنّه بانتظارها خارج المنزل، ولتنزل سريعًا لقد تأخروا على زهرة. ودعت سمر مايا وسلَمت على الجميع، وغادرت لتجدَ أحمد بانتظارها في السّيارة، ركبت بجواره سريعًا وانطلقا لمنزلهما حيث زهرة وسناء بانتظارهما، وقد أعدت سناء الطّعام، وأصّر أحمد عليها تناول الطّعام معهما، أخذت سمر زهرة و اتّجهت للغرفة لإطعامها والاهتمام بها بعد أن تركتها طويلا اليّوم، بينما طلب أحمد من سناء أن تبقى اللّيلة مع زهرة لترتاح سمر قليلا، شعرت سناء بحزنٍ عميقٍ من كلامِ أحمد معها فسألته عن الأشعة والتّحاليل، صمت قليلًا يفكرُ في الأمر، فلم يعد ينفع أن يخفى أمر مرض سمر، لابد من إجراء عملية لها وسيعلم الجميع عاجلًا أم أجلًا. نزلت الدموع من عيون أحمد وارتمى بحضن والدته وحكى لها ما يخبئه ويتحمله قلبه من ألم وخوف على حببته وزوجته، لم تتمالك سناء نفسها عندما سمعت كلام أحمد وبكت بشّدةٍ، فلم تكن سمر مجرد زوجه لابنها، إنّها ابنتها الّتي ربتها وحبّها لها قدرَ حبّها لابنها أحمد تمامًا، هنا دخلت سمر فجأةً .
ارتبك أحمد بشّدةٍ خوفًا أن تكون سمر سمعت حديثهما، ثمّ سرعان ما وجد سببًا مقنعًا لسمر قال لها مبررا دموع سناء: - لقد تذكرت أمّي والدي رحمه الله؛ لذلك بكت وبكيت معها، تعلمين منذ وفاته العام الماضي وأنا أحاول إقناع أمّي أن تنتقل للعيش معنا هنا لكنّها ترفض، لكن اليّوم اقتنعت أخيرًا وستظّل معنا لتهتم بزهرة معكِ.
فرحت سمر وضمت سناء بشّدةٍ:- وأخيرًا يا أمّي سوف ينير بيتنا، ويمتلئ بهجة وسعادةً بوجودكِ، تعلمين كم تمنيت ذلك، ما أجمل الأخبار وأحلاها اللّيلة!.
شكرتْ سمر سناء وأحمد لهذا الخبر الجميل وذهبت معها تجهزُ لها الغرفة، تنفسَ أحمد الصّعداء بعد اقتناع سمر بكلامه، وحمد الله في سره أن مرَّ الأمر بسلاٍم. ظلّ أحمد شاردًا يفكر ويحدث نفسه، كيف سيخبر سمر فهو لا يقوى على إخبارها ولا يعرف كيف سيكون حالها! ولا يتّخيل أن يرى الخوف بعيونها أو يشعر بألمها أمامه، الأمر صعب عليه جدا، ظلّ يدعو الله أن يقويه ويحفظ له زوجته وقرة عينه.
في الصّباح بينما سناء وسمر يعدان الإفطار، رنَّ الهاتف، ردَّ أحمد فإذ بوالد سمر الحاج عبد القادر اتّصل ليطمئن عليهم بعد أن علم بتعب سمر، وذهابهما للمستشفى أمس فقد كان مسافرًا واليّوم عاد فجرًا، وظلّ قلق بعد علمه بما حدث حاول أحمد أن يطمئنه، لكن قلب الأب وخوفه على ابنته حتّى بعد أن تحدث لسمر وسمع صوتها، لم يهدأ باله وحضر بنفسه للاطمئنان عليها، كانت سمر تشعرُ بسعادةٍ عارمةٍ فعشقها العائلة، والحب والدفء والحنان تملئها أملاً وتمنحها رضا وراحةً لا يمكن وصفها .بحضور والدتها منال ووالدها، وحسين وزوجته وابنه الصّغير(طارق) اكتملت سعادة قلبها البريء فهي تملك قلب طفلة تفرحها أبسط الأشياء وما أعظم عندها من تجمع العائلة والحديث الشّيق معهم! واكتملت فرحتها باتّصال حسن من ألمانيا فهو يمكث هناك للعلاج وكلّ شهرين يأتي لزيارتهم ثمّ يعود، لم يكن يتمنى الغربة، لكن مرضه حكم عليه بذلك فتأقلم مع الوضع رويدًا حتّى اعتاد كما اعتاد الألم والمرض والعلاج والعمليّات الّتي تتكرر كلّ فترة، لعله من شّدة التّعب فقد الإحساس بالتّعب وأصبح لا يبالي .وما خفف من غربته وجود سارة وجاسر وطفليهما معه وزيارات عمّه لهم كلّ فترةٍ ونزوله مصر بين الحين والأخر؛ لينعمَ بدفء عائلته وحبّهم له فيستمدُ الأملَ ويتناول إكسير الحياة ليعود ليكمل مسيرة علاجه و حياة فُرضت عليه. كان أحمد مشغول البال اتّصل بجاسر والطّبيب بألمانيا وأرسل له أشعة وتحاليل سمر، ليحدد موعد إجراء الجراحة ويرتّب أوراق السّفر،كلّ ذلك دون إعلامِ سمر، ولكن عليه إخبار الجميع الآن. عمَ الحزن المنزل وباتت الدموع لا تفارقهم والدعاء في كلّ صّلاةٍ لا يتوقف، أمّا أحمد فظلّ يفكر في حيلة ذكيّة ليقنع سمر بالسّفر، دون أن تشك بالأمر حتّى وجد الفكرة الرائعة، ما إن وصلت تذاكر السّفر اتّجه أحمد لسمر فرحا ومهللا:- أخيرًا سوف نسافرُ لنعيدَ ذكريّات شهر العسل يا حبيبتي، جاسر أرسلَ لنَا دعوات أنا وأنت وزهرة والمفاجأة مايا وأطفالها سيسافرون معنا بعد أن وافق سامي بصعوبة، كان قلق أن تذهب مايا ولا تعود، لكن اقتنع بأهميّة ابتعادهما فترةً حتّى تهدأ الأمور وتتّحسن العلاقة بينهما، ما رأيكِ في هذه الأخبار الرائعة يا أميرتي؟ ألّا أستحق مكافأة كبيرة؟.
ردت سمر متفاجئة: - كلّ هذه المفاجآت، مهلًا حتّى أستوعب، أيّ رحلةٍ و أيّ دعوةٍ ومن سيسافر معنا؟ أشعر بأنّ هناك سّرًا بالأمر، وكأنّ زوجي قرّةَ عيني هو صاحب الخطة، يبتسم أحمد ويعلن برأته:-
المهم أن نستعد ونجهز الأمتعة، وسوف تكون أجمل رحلة مع وردة قلبي وزهرة حياتي، ذهبت سناء مع سمر لتجهيز الحقائب، وجلس أحمد يبكي وحده لم يكن الأمر سهلًا عليه، رغم تظاهره بالقّوة لكن عندما تخيّل سمر تدخل غرفة العمليّات وحدها، زاد ألمه لمَا ستشعر به من ألم وأخذ يبعد الأفكار عنه بالاستغفار والدعاء .
في المطار سلمت سمر على الجميع وغادرت ومعها أحمد وزهرة و مايا وأطفالها، بينما هي لا تعلم أن الجميع سيلحقون بهم بعد ساعات فلم يقبل أحد ترك سمر في هذا الوضع، وهي تجري عمليّة خطيرة كتلك وحدها، حتّى لو معها زوجها وأخيها حسن لكنّهم وافقوا طوعًا للّحاق بهم لرغبة أحمد في سّرية الأمر، حرصًا على نفسية سمر .مرّت ساعات طوال من وصولهما بعد ترحيب سارة وجاسر وحسن والاحتفاء بهم، حان موعد النوم، وقتها أخبرَ أحمد سمر بأنّه يريد إجراء فحوصات طبيّة للجميع ككشف دوري للاطمئنان على صحّتهم بما أنّهم هنا بألمانيا فلديه طبيب صديق هنا .