الفصل التاسع عشر
يصاب أحمد بهلعٍ وفزعٍ شّديدٍ فيسرع للهاتف ودموعه تسبقه، يتّصل بطّبيب صديق له يحضر الطّبيب للمنزل ليكشف على سمر، يطلب من أحمد نقلها فورًا للمستشفى فهي تعاني من حمى النّفاس وحرارتها لا تنخفض وأصابها نزيف حاد فالأمر خطير، أسرع أحمد مع الطّبيب إلى المستشفى بينما اتّصل الطّبيب صديق أحمد بوالد أحمد وأخبره، أسرع الجميع إلى المستشفى في قلقٍ وخوفٍ، اقتربت سناء وأخذت زهرة من يد أحمد الّذي يرتجف قلقًا على زوجته وحبيبته ودموعه تنهمر رافضة التّوقف، يكاد يصرخ من ألمه وشعوره بالذّنب يكاد يقتله، لقد ترك وردته تذبل دون أن يرعاها كما وعدها من قبل، الصراعات بداخله بين نار خوفه على سمر وشعوره بالذنب من خصامه لها وتركها دون سؤال منه طوال اليوم، مرّت ساعات دون أن يخرج الطّبيب ممّا زاد توترهم، ما بين كل عدة دقائق كان يردد أحمد كلمة (يا ربّ)،حتّى خرجت الممّرضة أخيرًا لتخبرهم بأنّها بخير، ولكن ستُنقل للعناية المركّزة حتّى تستّقر حالتها وعندما خرجوا بها على السّرير المتّحرك؛ أسرع الجميع يطمأنوا عليها بينما انهار أحمد وأمسك بها في حالة بكاء هستيري، أبعده الطّبيب ووالده وحاولوا تهدئته قليلًا لكنّه كان يشعر باقتلاع قلبه منه وضيق تنفسه، كاد يفقد وعيه ويسقط على الأرض لولا أن أمسكه صديقه، وأجلسه وأحضر له كأس من الماء في هذه اللّحظة أذن الفجر وذهب أحمد معهم للصّلاة. صلى وهو مكسور ويغمره دموعه الّتي لا تتوقف وهو يدعو لحبيبته بالشّفاء والنجاة من الخطر .بعد الصّلاة ارتاح وهدأ من داخله وتذكر زهرة فهي لم تتناول أي شيء من ساعات طويلة، طلب من صديقه أن يذهب لطبيب أطفال بالمستشفى ليكتب لها أي لبن بديل، ففعل ذلك وأحضره لها وأخذت منال ترضعها وأحمد ينظر لها وكلّه حزن وألم على سمر. مرّت ساعات ولم تستعيد سمر وعيها، رغم نقل الدّم لها، فجسدها النّحيل لا يقوى على تحمل كلّ هذا الألم لكن دعوات أحمد والجميع لها لا تتوقف .اتّصلت سلوى بأحمد عند قلقها لعدم اتّصال سمر بها، وعندما علمت بمرض سمر أرادت القدوم لرؤيتها لكن أحمد منعها فلا داعي للمشاكل مع أهلها هنا، فقط طلب منها الدعاء لسمر. مرّ يومان حتّى استعادت سمر وعيها أخيرا، بعد أن تقلب أحمد على نيران الألم والخوف وتنّفس الجميع الصّعداء بعد طول انتظار وحمدوا الله، بينما خرّ أحمد ساجدًا شكرا لله على عودة سمر سالمة له .واقترب منها يقبّلُ يدها وجبينها معتذرًا منها على إهماله لها والتّقصير بحقها، لكنّها ما زالت ضعيفة وهزيلة لا تقوى على الكلام فقد اختلطت دموعها ودموع أحمد وأشارت لزهرة، يحملها أحمد لها لتقبّلها بشوقٍ ولهفةٍ. ظلّت سمر عدّة أيّام بالمستشفي حتّى استقر وضعها، لكن الطّبيب طلب أشعة على القلب، ممّا أثار قلق أحمد الّذي ظلّ متوترًا حتّى ظهرت نتيجة الأشعة، للأسف ارتفاع حرارة سمر وعدم إسعافها سريعًا سبب مرض بالقلب .كانت صدمة أحمد كبيرة عندما أخبره الطّبيب؛ انهار باكيًا ومتألمًا ممّا سمع منه وتّمنى لو كان هو مكانها، وتذّكر نزولها في البرد القارص والشّتاء لترى مايا، ولكن لا يقوى على لومها وعتابها لقد ظلّ يحمد الله ويدعو لها، إنّه القدر وعليه أن يرضى، ما حدث مجرد أسباب ولا ألف حذر يمنع القدر. ظلّ يفكر كيف سيخبر سمر بالأمر، حتّى راودته فكرة واتّفق مع الطّبيب ألّا يخبر أحدًا بمرض سمر حتّى هي، وسيخبرها إنّها تحتاج الرّاحة التّامة وسيعلل ذلك بضعف جسدها، فلو عرفت ستتعب نفسيتها كثيرًا وتؤثر سلبا على صحتها، حتّى إنّ الدواء سيبدل العلب ويخبرها أنّه فيتامينات ضرورية أثناء الرّضاعة ومهمة لها ولزهرة، وسيعطيها العلاج بيده ليضمن أنّها تتناوله بانتظام . وافق الطّبيب بعد إلحاح أحمد عليه مشددًا على أهمية العلاج والرّاحة والكشف الدوري والأشعة ولا مجال للإهمال أبدًا. هز أحمد رأسه بحزن وأخبره:- لا تقلق، فكيف توصيني على روحي وقلبي؟! فالألم أصاب قلبي قبل أن يصيبها. ترك أحمد الطبيب وذهب شاردا، لقد شعر كأنّه كبر مائةَ عامٍ بحمل هذا السّر وحده، فلا يقوى على أن يخبر أحد ليشاركه فجيعته ووجعه فالموت أهون عليه من أن يُحرم من سمر، كلّما أصابه اليأس دعا الله ليقويه وليتم شفاها، ويطيل عمرها من أجله هو وزهرة .كان ينظر إلى سمر ولا يرفع عينه عنها، حتّى استغربت منه وسألته بقلق حاول أن يغير تفكيرها، حتّى لا يثير شكوكها فأخبرها أنّه اشتاق لها كثيرًا، وأنّه أخذ إجازة شهر من عمله ليبقى بجانبها هي وزهرة يرعاهما ويغمرهما حبا وحنانا؛ فرحت سمر بالخبر وتهلل وجهها. زاد اهتمام أحمد بسمر، كان يحضر لها خادمة تنظف الفيلا بينما منال تعد الطّعام كل يوم وأحمد يساعدها في رعاية زهرة، تَعلم كيف يغَير لها ملابسها ويجَهز الطّعام لها ويهدهدها لتنام. كان لا يفارقهما أبدا ويحرص على تناول سمر الدواء بيده كلّ يومٍ، حتّى جاءت تلك اللّيلة، كان أحمد وسمر يجلسان كعادتهما، يتبادلان الحديث وينعمان بالهدوء والسّكينة ومعهما زهرة الّتي تبتسم تارةً وتبكي تارةً، وبينما أحمد يروي لهما قصة الأسد الجائع كما قرّرا من قبل، ليلة قصة للأطفال من أجل زهرة وليلة قصة رومانسية من أجل سمر، وقبل أن ينتهي أحمد شعرت سمر بنغزةِ قويةٍ في قلبها ارتعش لها جسدها وارتعد معها أحمد وكاد قلبه يتوقف خوفا عليها .ألقى أحمد القصّة من يده وهرعَ بجزعٍ لسمر الّتي تتألم بشّدةٍ؛ وضع زهرة في عربتها الصّغيرة ثّم أخذ يطمئنها وأمرها بالاسترخاء في فراشها، حتّى يتّصل بالطّبيب،أمسك أحمد الهاتف بسرعة وأخذ يتّحدث بخوفٍ للطبيب عن حالة سمر وتعبها ويستمع لما يقوله الطّبيب من تعليمات عن الدواء وضرورة إحضارها غدًا للفحص والأشّعة الدورية، أغلق أحمد الهاتف واتّجه لعبوة الدّواء معطيا سمر حبة منه، داعيَا لها بالعافية والعمر الطويل ثّم جلس بجوارها واحتضنها برفقٍ وأخذ يرقيها بصوته الحنون حتّى راحت في نومٍ عميقٍ، أمّا هو فظلّ يداعب زهرة ويهدهدها في سريرها الجميل حتّى نامت كالملاك البريء. قضى أحمد ليلته ساهرًا قلقً على وضع سمر، ينظر لها وهي نائمة ويدعو الله أن لا يحرمه منها ويشفيها، تتوالى على رأسه أفكار مزعجة، تعب سمر وموتها فتتساقط دموعه بحورًا، حتّى أنّه أخذ يجهش وخشي أن يوقظ سمر فخرج للشرفة بحذر، أفرغ كلّ ما لديه من بكاء، وحين سمع صوت زهرة تزمجر قليلًا دخل مسرعًا وحملها وأخذها لخارج الغرفة؛ لتنعم سمر بنوم هادئ لترتاح من تعبها، يداعب زهرة ويطعمها ويهدئها حتّى نامت .دخل بها الغرفة على حذرٍ، ظلّ يراقب سمر وأنفاسها كلّ فترة مطمئنا عليها، حاول النّوم مرارًا فلم يستطع، فأمسك القرآن وظلّ يقرأ ليهدأ من روعه ويبعد كل فكر سلبي حتّى أذن الفجر، لكنّه لم يذهب كعادته للصّلاة في المسجد؛ خاف أن يترك سمر وزهرة وحدهما، فصّلى بالغرفة وظلّ على سجادته يدعو ويستغفر حتّى راح في النوم، فإذا به يري في حلمه والدة سمر تبتسم له من بعيد ثّم تقترب منه، بينما كان يمسك سمر بشّدة بيده اليمني ويحمل زهرة على كتفه، وهي تضحك لجدتها فاقتربت والدة سمر وأخذت سمر من يدها مبتسمة لها وضمتها بشدة وقبل أن يهَما بالرّحيل أعطته تفاحةً خضراءَ وأوصته برعايتها ثّم ذهبتا معًا، حتّى وصلا لمكان بعيد مليء بالأشجار العالية والطيّور، التفتت سمر من بعيد ولوحت بيدها له وعلى وجهها ابتسامة عذبة وكأنّها عادت طفلة من جديد. فجأةً استيقظ أحمد على صوت سمر تناديه، قام مسرعًا فسألته متعجبة من نومته هكذا على الأرض، ابتسم لها مرددا: صليت الفجر وجلست اردّد الأذكار فغفوت، طمئنيني عنكِ، كيف حالكِ اليوم؟ طمأنته سمر وأرادت أن تخرج لإعداد الإفطار، لكن أحمد رفض بشّدةٍ وأجلسها على طرف السّرير قائلا لها: ستجلسين هنا مثل الأميرة، وسأذهب أنا لإحضار كلّ ما لذ وطاب لأميرتي الحسناء ولا أريد جدال. وافقتْ سمر تحت إلحاحه وجلست تتأملُ زهرة ببراءتها وتتفقد أحوالِها، فوجدت أحمد قد أطعمها وغَير ملابسها، فابتسمت بسعادةٍ وحمدت الله على زوجها الحنون الّذي لم يشعرها أبدًا بثقلها عليه، ولا بيتمها وفقدها الحنان والأمان أبدا.معه لم تشعر يوما بفقدها أمها، ولم تشعر بأيّ احتياج نفسّي أو مادي لمن يساعدها بتربيّة زهرة أو رعايتها وابنتها، فهو سندٌ وعونٌ لها،تجد به الأمّ والأب والأخ والصّديق قبل أن يكون زوجًا لها. جلست سمر تلاعب زهرة بسعادة وهي تحمد الله كلّ لحظة سرًّا وجهرًا على نعمه عليها ورحمته بها، وعلى هبة الله لها بزوج حنون هين لين وطفلة تمنتها طويلًا ليتوج حبّها بزهرة تفوح عبيرها لتملأ حياتهما فرحا وسعادة، دعت الله أن يقَرّ عينها بزوجها وابنتها ويمَنُ عليها بالصّحة لرعايتهما .بينما سمر تستمتع بّصباحها الجميل وتنتظر أحمد ليعد الإفطار، رنَ هاتفها لتجد سلوى تتّصل لتطمئن عليها، اعتذرت سمر منها لغيابها وانشغالها عنها هذه الفترة، غضبت سلوى منها بل رفضت اعتذارها فهي من يجب أن تسأل عنها، وأخبرتها بقلقها واشتياقها لرؤيتها كثيرًا، فمنذ فترة بعيده لم يلتقيا، وعدتها سمر بزيارتها قريبًا، ردّدت سلوى اعتذارها، وقالت: - أعلم أنّني أطالبك بالمزيد وأنّني أطمع بعطائك الّذي لا ينضب، وبحبك وحنانك، لكنني أعلم أن قلبكِ لا يكف عن العطاء، اعذريني لم يعد لي غيركِ واختلط صوت سلوى بالبكاء.
قاطعتها سمر مهونة عليها بكلماتها الرقيقة وحنانها وحبّها، معترفة لها باشتياقها أيضًا لها، وبأنّها أخت وصديقة، ووعدتها بزيّارة قريبة جدًّا إن شاء الله، وستقضي معها يومًا كاملًا لتعوضّها عن طول الغيّاب.أغلقتْ سمر الهاتف في لحظة دخول أحمد بالطّعام، مبتسما مهللا:- أحلى فطور لأحلى ملكة، ملكة قلبي وحبيبة عمري. ابتسمت سمر وهي تشكر أحمد وتردّد:-أخشى أن أتعود على ذلك، ما أحلى الكسل والرّاحة .
رد أحمد مبتسما:- تدللي يا حبيبتي وأنا في خدمتك يا ملكة الفؤاد، وبدأ يغني لها،إدلل عليّ إدلل، إدلل عليّ، يا هبة ربي من السماء وأجمل هدية.
تعالت ضحكات سمر مرددة :- الله عليك، كاظم الساهر، وورود وإفطار في السّرير، اللهم لك الحمد .
رد أحمد مستنكرا: لا للكسل، هيا بنا سنتناول الإفطار في الشّرفة وسط زقزقت العصافير ونسيم الصّباح العليل وروائح الزهور وعطر الياسمين، هيا أسرعي يا وردتي الجميلة.
حملت سمر زهرة وخرجت تغمرها السّعادة، ويملأها الدفء والأمان والرّاحة، تشعر بالّسكينة وهدوء النّفس بحضور أحمد وتطيل النّظر له، تشعر أنّها تشتاق إليه وهو أمام ناظريها وتريد أن تشبع عيونها به وتحمد الله بسرها مبتسمة له .لم يكن شعور أحمد يقّلُ بل يزيد عمَّا تشعر به سمر، إنه يفتقدها وهي معه، ويذوب عشقًا بها كلّ يومٍ أكثر وأكثر ممّا قبل، يخافُ عليها بقدر حبّه وعشقِه ويحتويها بحبٍ ويحيطها بدفء قلبه وحنانه دومًا، ليته يستطيع أن يتحملَ عنها الألم ويعطيها قلبه وعمره، ما إن انتهيا من الطّعام حتّى وصلت سناء لتمكث مع زهرة بينما سمر وأحمد سيذهبان للمستشفى لإجراء بعض الفحوص لها.
في الطريق اتّصل سامي بأحمد لتتذكر سمر موضوع مايا معه، وتشعر بالحزنِ فقد شغلها مرضها عن مايا ولم تقف معها في محنتها.