الفصل الثامن عشر
لقد أخبرهم الطّبيب بأنّ سمر حاملًا منذ شهرٍ ونصف تقريبًا، ما إن سمعوا الخبر حتّى خرَّ أحمد ساجدًا شكرًا لله، وطارت سمر من الفرحةِ واحتضنت أحمد، ونسوا وجود الطّبيب الّذي أعلن ضاحكًا:- نحن هنا. ثم جلس أحمد وسمر أمامه وهما يستمعان للتعليمات بإنصاتٍ وحرصٍ وشغفٍ وفرحةٍ عارمةٍ، ما إن خرجا من عنده حتّى تعانقا مرّةً أخرى ناسيين كلّ من حولهما، فأخيرًا تحقّق حلمهما بطفلٍ يتوج قصة حبهما ويملأ حياتهما سعادةً بعد سنين طوال، اتّصل أحمد بوالدته وأخبرها وهي بدورها زفت الخبر لمنال الّتي أعلت الزغاريد فرحًا بالخبر السّعيد، وذهب الجميع لسمر وأحمد مهنأين ومباركين لهما ومتمنين أن يتِمَ عليهما نعمته ويرزقهما مولودًا معافى . ستبقى منال مع سمر لرعايتها فقد منعها الطّبيب من المجهود والتّعب وأمرها بالرّاحة التّامة؛ فأصبحت ملازمة الفراش تتحرك بحذرٍ وحرص، وتوقفتْ عن زيارة سلوى بسبب تعبها؛ أصبحت تتّصل بها كلّ أسبوع لتطمئن على صحّتها وأحمد يرسلُ لها ما يلزمها من أموال. تمرُ شهور ويزداد معها تعب سمر أصبحت لا تنام ولا تقوى على الحركةِ، وتتنفس بصعوبةٍ مما يزيد قلق أحمد فطالما خاف على سمر من الحمل وتعبه وتذكر والدتها وزاد قلقه، فدائمًا كان يعتبر عدم حملها نعمة من الله ورحمة بهم، لخوفه أن يصيبها ما أصاب والدتها .زاد تعب سمر في الشّهر السابع وأصيبت بمرض البول السكري لكن الطّبيب يطمئنهم بأنّه أمر عارض ويحدث للكثيرات، يصّر أحمد أن يعرض سمر على أكثر من طبيبٍ، يجري لها فحوصًا هنا وهناك لكن مع الأيّام تتعب سمر ويزداد خفقان قلبها، تحتاج مستشفى عالية الدّقة للولادة؛ فوضع الجنين غير طبيعي وسيحتاج لحضانةٍ فورَ ولادته، وحالة سمر غير مستقرةٍ وتحتاجُ لتنفس اصّطناعي وأجهزة خاصة لكن الوقت لا يسعهم للسفر للخارج، اتّجهوا بها لمستشفى كبيرة بالإسكندرية، مرّت ساعات من القلق والتوتر على أحمد والأهل، ثم وضعت سمر طفلتها بسلامٍ، ونقلت الطّفلة إلى الحّضانة وسمر تحت الملاحظة، صلى أحمد شكرا لله على سلامتهما داعيَا أن يبارك الله له بهما، ويتِمَ عليهما السّلامة والعافية.استقر وضع سمر بعد أيّامٍ ودخل الجميع للاطمئنان عليها فرحين.
عادت سمر مع طفلتها زهرة للمنزل و ذبحَ أحمد الذبائحَ ووزع على الجميع وأقام عقيقةَ كبيرة للأهل والأصحاب والجيران، وتمَّ تعليق الزّينة والورود هنا وهناك فرحًا بسلامةِ سمر وزهرة، وتذّكر أحمد يوم حفلة مولد سمر وابتسمَ لتلك الذكّريات الجميلة، رحب أحمد ووالده بالضّيوف، بينما لاحظ أحمد القلق على وجه سامي، فهو ليس صديقه فقط بل ابن خالته وأخيه و رفيق دربه، فأخذه جانبًا واستفسر منه، لكن سامي أنكر وتعلّل بتعبه وإجهاده من العمل. تذكر أحمد أنّهما لم يلتقيا منذ شهور لتعب سمر وانشغاله بها، فتركه أحمد رغم علمه ويقينه بأنّ هناك خطب ما، تمنى أن يكون خيرًا. مرّت الحفلة على خير و بعد انصراف الجميع صعد أحمد لغرفة سمر وزهرة، ما إن حمل أحمد زهرة تذكر اليّوم الّذي حمل فيه سمر وهي مولودة جديدة وانتابه الشعور نفسه، فسبح لله وتعجبَ قائلا: أتذكر يوم حملتكِ وكنتِ في مثل عمر زهرة تقريبًا، يومها شعرت بالشعور ذاته الّذي أشعر به الآن نحو ابنتي، نعم أنتِ ابنتي وصغيرتي الّتي رعيتها بحب حتى كبرتِ وأصبحتِ زوجتي وحبيبتي وصديقتي ورفيقة عمري ابتسمت سمر من كلام أحمد وقالت له :
- بارك الله لنا بك وأطال بعمرك حتّى تحمل أحفادك وتشعر الشعور نفسه معهم، لا حرمنا الله من عطفك وحبك، كنت أحلم أن يعجَ البيت أطفالًا، لكن تعبي جعلني أكتفي بزهرة، وعندما تكبر وتتزوج معنا هنا تقوم هي بإنجاب خمسة أطفال كما تمنيت.
ربت أحمد على كتفها بحب مرددا: - أتمنى من الله أن يحقق لكِ حلمكِ حبيبتي وتبقين سعيدة دائمًا، لكن أغمضي عينيكِ الآن من أجل الهدية والمفاجأة.
تبسمت سمر مرددة: - أنت وزهرة أجمل هدية لي، سأظل اشكر الله ليل نهار عليها. هز أحمد رأسه مرددا: - الحمد لله على نعمه، لكن رجاء أن تغمضي إنّها ستفرحك حقًا . نفذت سمر طلبه واغمضت عيناها. واقترب منها هامسا:- افتحي عينيكِ، هذه أوراق الجمعية كما وعدتكِ بها (جمعية رعاية الأيتام).
تهلل وجه سمر فرحا قائلة: - قلبي أنت، الله عليك، أجمل هدية من أجمل أحمد في الدنيا، أنت نعمة الله لي، دائما لا تخلف أيّ وعد، أدعو الله ألا يحرمني منك ويبارك لي بك.
ثّم احتضن أحمد زهرة وسمر وظلّ يحكي لهما قصة قبل النوم، فقد اعتاد أن يأخذ سمر في أحضانه كلّ ليلةٍ كطفلةٍ صغيرةٍ ويروي لها القصّص حتّى تخلدَ للنوم .واليوم أصبحتْ معهما زهرة حبهما الّتي رويت بدعوات وأحلام وأمال ودموع، فهي عوض الله الجميل لهما، نظر أحمد لسمر وزهرة وهما نائمتين ببراءة وحمد الله وشكره على نعمه.
في الصّباح تناول أحمد الإفطار مع سمر الّتي تحمل زهرة دومًا، فزهرة لا تكف عن البكاء وسمر تخشى عليها، ثمّ قبّل أحمد سمر وزهرة واستودعهما الله، وخرج ذاهبًا لعمله وبينما هو سائق تذّكر سامي وحالته الّتي كان عليها، وتغيّره الشّديد منذ فترة، كانا لا يفترقان أبدًا ولا يخفي عنه شيئًا، تساءل أحمد ما الّذي حلَّ به وعزم على محادثته اليّوم ومعرفة ما يحدث معه، لعلّه في مشكلةٍ ويخجلُ أن يشركه معه، ما إن وصل أحمد المكتب حتّى اتّصل بسامي محاولًا إخراجه من صومعته مستجديًا منه أيّ كلمة توحي بما يدور برأسه، معبّرًا عن قلقه لابتعاده عنه هكذا واتساع المسافات بينهما، فقبِل أن يكونا أصدقاء فهما أهل وأخوة، مع إلحاح أحمد وافق سامي أن يتقابلا في المساء، لكن القدر لم يسعفهما ففي المساء قبل خروج أحمد بدقائق ورد اتّصال من مايا باكيةً ومنهارةً، حاولت سمر أن تفهم منها ما يحدث لكن بكائها بحرقه أثارَ قلق سمر، خاصّةً بعد أن أغلقت الهاتف دون أن تبلغ سمر ما الأمر، هرعت سمر لأحمد وقصّت عليه ما حدث، ثم اتّصل بسامي لكنه لا يّرد فاّتصل بمايا لكن ردت منال عليه، فتّعجب أحمد من الأمر، فإذا بسمر تأخذ هاتفه ظنًّا أنّها مايا، لتسمع صوت منال، فتسألها مستفسرة:- ما الأمر؟. تردّدت منال في إخبار سمر صمتت قليلًا ثّم قالت:- أن مايا تشاجرت مع سامي وجاءت غاضبة إلى المنزل.
لكن مايا تجذب الهاتف من يد منال، وتنهار قائلةً: - لقد طلقني سامي يا سمر، وتصرخُ ثم تسقط مغشيًا عليها. تمسكها منال بقلق وتحاول إفاقتها ويلتف الجميع حولها ويتم غلق الهاتف، تاركين سمر بقلقها وتوترها، تصّر سمر على الذّهاب لمايا، ويرفض أحمد متعلّلا أنّها مازالت متعبة، لقد وضعت زهرة منذ أسبوع فقط، وحالتها لا تسمح بالخروج في هذا الطّقس، ريّاح وأمطار وبرودة شديدة، يصمم أحمد على رفضه، فكيف تخرج وزهرة أين تتركه؟! يغضب أحمد رافضًا رغم إلحاح سمر، الّتي تعارضه لأوّل مرة وترتدي ثيابَها مصممة على الذّهاب، في حالة بكاء هستيري فمايا أختها وصديقتها، ويجب أن تكون معها الآن. وتحت إصرارها لم يكن بوسع أحمد إلّا الموافقة على مضضٍ، خرج معها ليوصلها إلى المنزل الكّبير عائدًا بسرعة من أجل زهرة، اتّصل أحمد مرارًا بسامي الّذي لا يرد، قذف أحمد الهاتف بغضبٍ مرددًا:- سحقًا لك يا سامي وسحقا لما يحدث، أتّمنى من الله أن يمرَّ الأمر على خيرٍ.
مرّتْ ساعتان اتّصل أحمد خلالهما عدّةَ مرّاتٍ بسمر لتنتهي ويذهب لها ليحضرها للبيت، حتّى فاقت زهرة وظلّت تبكي، وقتها اتّصل أحمد غاضبًا من سمر الّتي ما إن سمعت بكاء زهرة حتّى أصابها الجنون وقفزت من مكانها وأصبحت بين نارين هما: أمومتها وخوفها على طفلتها، وحبها وخوفها على مايا! حتّى طمأنتها منال بأنّها وسناء هنا مع مايا و عليها الانصراف حالا من أجل زهرة، فذهب حسين بسيارته وأوصلها لمنزلها، استقبلها أحمد عابسًا بينما هرعت سمر لزهرة، حاملةً أيها في حضنها لتطعمها وتشعرها بالدفء والحنان وتعوضها ساعات غيابها معتذرة لها، ظلت سمر تحملها حتّى هدأت وخلدت للنوم فاتّجهت سمر لأحمد الّذي طال عبوسه فرفض التحدث إلى سمر، بل عزم على النّوم في حجرة أخرى تاركًا سمر في حزنها وندمها .
فلأوّل مرّة يغضب أحمد منها بل يخاصمها هكذا ويكف عن الكلام معها، ظلّت سمر تبكي بغرفتها حتّى أشرقتْ الشّمس، وخرجت تجهز الإفطار لأحمد الّذي استيقظ باكرًا وارتدى ملابسه وخرج دون أن ينطق أي كلمة أو يتناول الإفطار معها كعادته، ما أن رأته سمر يخرج حتّى أجهشتْ بالبكاء واتجهت للنافذة تراقبه حتّى خرج بسيارته، لكنّه لم يلتفت كعادته ويلوح لها بيده مما زاد من حزنها .دخلت سمر غرفتها محاولة أن تنام، فقد شعرت بالتّعب والإرهاق، ساعات من القّلق حتّى غفت عليها، لم يتّصل أحمد كعادته بها فور وصوله أو كلّ ساعتين ليطمئن عليها هي وزهرة، كان يدعي القسوة رغم قلقه و سمر أيضًا لم تتّصل به، وما بين قلقه وعناده معها، ظّل طوال اليوم خارج البيت حتّى الغداء لم يذهب لتناوله بالمنزل بل اكتفي ببعض السندوتشات بالمكتب .اتّصل والده طالبا منه القدوم للمنزل لمناقشه أمر مايا وسامي، لم يستطع الرفض فأنهى عمله وذهب إليه وباله مشغول بسمر وزهرة، استمع للقصّة من مايا:- لقد طلقني سامي، وللأسف لم تكن المرّة الأولى بل الثانية، فقد أخفيت عن الجميع مشاكلنا وصراعاتنا لقد تبدّل سامي، وأصبح يسكر ويشرب الخمر، ويأتي بعد فجر كلّ يوم سكرانا ليتشاجر معي، ويسمع الجيران أصواتنا كلّ يوم. حاولت معه ليعود عن طريق الضّياع لكن دون جدوى، بل يتمادى بإهانتي وضربي وطردي، والمرّة الأولى للطّلاق ذهبت لوالديه فأصلحا بيننا وكلموه وحاولوا معه كثيرًا، ووعدتهما ألّا يعلم أحد من أهلي بما حدث حتّى لا تتغير صورة زوجي و يتعكر صفو النّفوس، ولكن فاض الكيل، وهذه المرّة رجع البيت ومعه فتاة بأحضانه وعندما ثرت وغضبت، ضربني وطلقني ورماني بطفليه خارج الشّقة، بملابس النوم دون عقل، لقد ضّل عن طريقه واتبع الهوى، ودمّر بيته ومستقبله. كان أحمد مصدومًا مما سمعه عن صديقه! سامي الّذي كان أعز صديق وأخ له، الّذي كان يخجل أن يحدث مايا أو غيرها؟!، يصّل به الحال لهذا، عربدة وخمور وضربٍ كلّ ذلك خلال عدّة أشهر، انشغل أحمد بتعب سمر وحملها، ليفاجأ بغرقِ صديقِ عمره في بحر الرذيلة أي مصيبة هذه؟! كانت الصدمة كبيرة للجميع .
أنهى أحمد حديثه مع العائلة، متفقا مع عمّه ووالده أن يقابل سامي ويصّلوا لحلٍ لهذه الكارثة الّتي حلّت بهم واستأذن منهم للذّهاب للمنزل، فقد زاد قلقه على سمر وزهرة، فليس من عادتها أن لا تتّصل به خصوصًا مع تأخره، دخل أحمد المنزل ليجد الظّلام الحالك يخيّم على المكان وكأنّ المنزل مهجورًا، يشعل الأنوار ويتّجه بسرعة للغرفة ليجد زهرة تبكي و سمر غارقة في عرقها، وحرارتها مرتفعة جدًّا.