الفصل السادس عشر
طمأنها أحمد بحب:- لا تقلقي حبيبتي، والدي يطمئن علينا فقط، ولكن اختلاف التّوقيت، هو لا يعلم أن الوقت هنا متأخر. ثم قبّلها واحتضنها، و بعد أن تأكد أحمد من نوم سمر، قام ببطء حتّى لا يوقظها وتحدث إلى جاسر، للقيام بترتيبات قدوم حسن لإجراء عملية خطيرة بالقلب. في الصّباح كان أحمد لا يعرف كيف يخبر سمر، بعد تناول الإفطار ضمها بحب وقال:- حبيبتي ألم تشتاقي للأهل؟. ردت سمر بشغف:- بلى، اشتقت كثيرا لهم، هل سنعود قريبا؟ قبّلها أحمد على جبينها وهي تبتسم قائلا:- لا، لكن جهزتك لكِ مفاجأة ستعجبكِ كثيرا، سيحضرُ حسن اليوم لإجراء بعض الفحوص مع عمي وزوجته. قلقت سمر ولكن أحمد أخبرها:- أنّها مجرد فحوص للاطمئنان، لا تخافي .
صممت سمر أن تذهب معه للمطار لاستقبال حسن، حضر جاسر بسيارته، ولم يتمكن أحمد أن يخبرَه بأن سمر لا تعلم بالعمليّة، فاندفعَ جاسر مواسيا سمر:- أن شاء الله حسن سيقومُ بالسّلامة من العمليّة فلا تقلقي. انهارت سمر بالبكاءِ، ممّا أحرج جاسر وشعر بضيق من نفسه، وحاولَ أحمد تهدئتَها طول الطّريق ولكن دموعَها لا تتوقف، ما أن وصلوا المطار حتّى قفزت سمر خارج السّيارة، مسرعةً لاستقبال حسن ومنال ووالدها، ملقية نفسها في حضن منال وهي منهارة ببكاءِ شديدٍ، وبعد لحظات اتجه الجميع للمستشفى لإجراء العمليّة الّتي ظّلت ساعات، مرّت على الجميع سنوات طوال من القلق والتوتر .
وأخيرًا خرجَ حسن من غرفة العمليات سالمًا،ومتجهًا للعنايةِ المرّكزةِ. حمد الجميع الله على سلامة حسن وطلبتْ منال من سمر أن تعودَ للفندقِ لترتاحَ مع زوجها، رفضت سمر ولكن بعد إلحاحِ والدها ومنال ذهبت على مضضٍ وخلدوا إلى النوم بعد يومٍ مرهقٍ. في الصّباح اتّصل جاسر بأحمد ليتّأكد من إتمامِ حجزِ العمرة الّذي أعدها مفاجأة لسمر، وبأن موعد السّفر بعد الغد ولكن أحمد لا يعلم بما يخبره هل يلغي الرحلة أم ينتظر رأي سمر، ظّل فكره شاردًا طوال اليوم حتّى انتبه والد سمر له فأخذه جانبًا بعد صلاة المغرب وسأله عن ما يشغله؛ أخبره أحمد بالأمر، فنصحه بالذّهاب ستكون رحلةً ممتعةً وسترتاحُ سمر هناك كان حلمها دومًا العمرة والذّهاب لبيت الله، وستكون فرصة للدعاء لحسن.
كانَ أحمد مقتنعٌ ولكن يخافُ أن ترفضُ سمر، فاتجه والدها وأخذَها وتحدث معهَا في حضور منال وأحمد، تعجبَت سمر ممّا تسمعُ هل تفرحُ بزيارةِ الكعبة، أم تحزن لأن الوقت لا يسمح، فكيف ستترك أخاها بحالته هذه وتذهب!. أخذت منال ووالدها يقنعانها بالذّهاب بينما ظّل أحمد صامتًا ينتظرُ رد سمر الّتي وافقت بعد عناء، فرح أحمد بقرارِها واتّصل بجاسر مؤكدًا الحجز، في الصّباح عاد جاسر لوعيه، واطمأنت سمر عليه وسلمت على الجميع واتّجهوا للمطار ومعهم جاسر وسامي وزوجتهما ساره ومايا. بكت سمر من شّدة فرحتِها بمنظر الكعبة، وخرّ أحمد والشّباب ساجدين شكرًا لله، كان الدعاء الأكبر من الجميع من نصيب حسن، وكانت سمر تتحدث لمنال ووالدها كل يومٍ لتطمئن على حسن .بعد أداء شعائر العمرةِ عزمت سمر أن تؤدي العمرة لوالدتها رحمها الله، وقرّر الباقون أيضًا عمل عمرة لها، مما زاد سعادة سمر، فما أجملَها من هديةٍ لوالدتِها، ست عمرات لروحها الغالية. عادَ الجميع إلى مصر بعد رحلة روحانية رائعة، في الوقت نفسه عاد حسن بعد أن تحسنَ كثيرًا، لكنّه سيذهبُ لألمانيا كلّ ثلاث شهور للمتابعة الدورية، وعادت الحياة لاستقرارها بمنزل العائلة. بعد أيام من العودة اتّصلت سمر بصديقاتها سلوى وهالة
و معلمتها هيام، وطلبت منهم القدومَ لمنزلِها ليجتمعوا فقد اشتاقَت لهم كثيرًا. اجتمعتْ سمر بهم بسعادةٍ وفرحٍ، ولكن هالة كانت حزينة فقد تأخر زاوجها؛ بسبب رفض والدها ابن عمّها لخلافات بين الأسرتين لكنّها تحبه وتدعو الله أن يحققَ حلمَها به، وقد طمأنتْها سمر وأخبرتْها بأنّها دعت لها كثيرًا في العمرةِ. أمّا هيام تعيشُ في هدوء على ذكرى حبيبها رحمه الله وتعتبر أولاد إخوتها أولادها وتساعد بتربيتهم بكلّ حبٍ ورضا. بينما سلوى تغيّرت كثيرًا وأصبحت تتباهى بالملابس الفاخرة والمجوهرات، والذّهاب لإنجلترا والرّحلات هنا وهناك ولا تبالي بأحد غير نفسها، لم يكن أمرها كُشف بعد، ففي بلدها لا تمارس الرذيلة جهرًا فهي حريصة على سمعتها هنا .حتّى هشام يطاردها في كلّ مكان، ولا تعطيه أي اهتمام بل يزداد عنادها، وعدم الرّد علي مكالماته أو رسائله بقصد إهانته وإذلاله و لانتقام منه، فهي تتّلذذ بتجاهلها له، حتّى فاجأها ذات ليلة ووجدته يدقُ بابَ منزلها، ظلت دقائق مرتبكة لا تعرفُ هل تفتحُ له أم لا، خافت أن يثورَ جنونُه ويراه الجيران ففتحتْ مسرعةً وأدخلتْه غاضبةً من تصرفه ومستنكرة قدومه إليها .لكنه خرّ راكعًا تحت قدميها وباكيًا معلنًا شوقه وحبّه لها و استعداده أن يفعل أيّ شيء لترضى عنه، أمّا سلوى فقد أشفت غليلَها وأرضتْ غرورَها أخيرًا معتقدةً أنّها انتصرتْ في حربِها وانتقمتْ منه. لكنه اقترب منها و ما أن أحست أنفاسه حتّى ارتعش جسدُها وضعفت أمامَه وسلمت نفسَها دونَ مقاومةٍ منها؛ لتعيشَ معهُ أجملَ لحظاتِ الحبِ الّتي طالمَا حلمت بها متناسية جرحه لها والكره الّذي ادعته من قبل ورغبتها في إذلاله وكأنّها مغيبة .لكن بعد أن استردت وعيها انهارت في البكاء، ليس ندمًا على المعصية ولكن لاستسلامها لهشام، وضعفها أمامه واستمتاعها بحبّه وشعورها بنشوة لم تحسها مع غيره، فأيقنت أنّها ما زالت تعشقه. أخذ هشام يهدئ من روعها ويحتضنها بحبٍ ولكنّها طلبت منه بغضب، أن يغادرَ فورًا. ظّلت سلوى تبكي بينما اتّصل هشام بها عدةَ مرّاتٍ ولم ترد عليه، كانت تشعرُ بالّضيق لضعفها أمامه وحبّها له، ظّلت أيّام لا ترد على اتّصالاته أو رسائله، حتّى قرّرت نسيانه كلّيًا، وبدأت تستقبلُ رجالًا آخرين في منزلها و تجاهلتْ زوجها وأهلها وجيرانها، وانجرفت وراء وساوسها الشيطانية، ورغبتها في الانتقام من هشام، تلك الرغبة التي غشت على بصرها وغيبت عقلها لتضيعَ شرفهَا وسمعتَها وتحرق الأخضر واليابس بنيران انتقامها، صار أهلُ المدينة يتحدثون عنها وذاعَ صيتُها في البلد من سوء سمعتها وتصّرفاتها، وأنّها حولتْ بيتَها لبيت دعارةٍ؛ ممّا أغضبَ أهلَ زوجِها فأرسلُوا إليه ليحضرَ من الخارجِ؛ ليطلقَها بعد ما ألحقت بهم العارَ والفضيحةَ. أصبحتْ سلوى لا تبالي بأيّ شيء، حتّى جاءَ هشام إليها ذات ليلة، وظّل يدقُ الجرسَ دقاتٍ متتّاليةٍ ويطرق الباب بغضبٍ، فتحتْ سلوى غاضبةً: - ماذا تريد ؟! انصرف حالا، ولا تأتي إلى هنا مرّةً أخرى. كادت تغلقُ الباب بوجهه، لكن لم تشعر إلّا به داخل المنزل، دفعها وصفعَها على وجهها، نظرتْ له مصدومةً، بفعلته هذه سكبَ على نارِها زيتًا ليزيدَ اشتعالها وتشيطَ غضبًا منه، اقتربت سلوى من هشام وأمسكتْ به غاضبة:- بأيّ حقٍّ تضربنِي هكذا لم يفعلها زوجي؟! أجابها هشام منفعلا: - لأنّه ليس رجل، لو كان رجلا لمنعكِ عن نزواتكِ وانحرافكِ، ماذا تظّنين نفسكِ فاعلةً؟ أهلُ البلدةِ لا يتّحدثون إلّا عنكِ وعن أفعالكِ المشينة، أصبحتِ عاهرةً. هنا تعالتْ ضحكاتُ سلوى بهسترية وصفقت بيدها مرددة:- شكرًا على المعلومةِ يا عزيزي، نعم أنا عاهرة، وأنت من أوصلني لهذا ألّا تتذكر؟ يوم أعطيتنِي ظهرك واتّهمتني بالباطلِ، واليّوم أحقق لك ما حلمت به، نعم أصبحتْ عاهرةً! ما الّذي يهمك اتركني بحالي وابتعد عني، ليس لك حقوق عليَّ ولا لك أن تتّدخل بحياتي. انهار هشام ممسكا بها بقوة ومرددا: - إن لم يكن يهمني ما جئت إليكِ يا غبية، أنا أحبكِ، ولم أحبَ غيركِ أبدًا، ولم أنسكِ، تزوجت مرّتين ولم أجدْ النّشوة والحب إلّا في حضنِكِ ومعكِ. أخذتْ سلوى تضحكُ وتضحك بهسترية ثّم قالت بسخرية: - تحبني؟! متى وكيف؟! وقد ترجيتك قبلَ ذلك ألّا تتركني وأنت أهنتني وجرحت قلبي، ورميتَ حبّي ومشاعري تحت قدميك، ولم تبالي بألمي لقد قتلتني ألف مرّة، أنتَ من جعلتنِي أتزوج شخص لا أحبّه ولا أعرفه، أنتَ لا تعرف أيّ ألمٍ يعتصرُني عندما يلمسني بيده أو يقترب مني، إنّه انتحار وموت أن تتزوج ممن لا تحب، تكون معه بجسدك بينما روحك وقلبك في مكان أخر، وتلك كانت بداية العهر يا عزيزي .لقد اشتراني بثروته، حاولتُ أن أحبّه مرارًا ولكن دون جدوى، كان يشعرني أنّه يغتصبني كلّ مرّةٍ يجمع بيننا فراش واحد، أصبحت أحتقر نفسي وأمقتها، فقرّرت الانتقام لكرامتي منه ومنك ومن الجميع. ولكنّي انتقمتُ من نفسي ساءت سمعتي، وأصبحت في نظر الجميع سيئةَ السمعةِ، ولكن عندما كنت معك شعرت بأنوثتي الحقيقية ولامست أنثايا العاشقة وعادت للحياة المرأة داخلي، عادتْ مشاعرِي وأحاسيسي الّتي دفنتها منذُ زمنٍ بعيدٍ وشعرت بضعفي بحبك، فابتعدت وقرّرت الانتقامَ منك ومن نفسي على هذا الحب اللّعين ليتني ما عرفتك ليتني ما التقيت بك أبدا .اقترب هشام منها وأخبرها أنه هو الأخر يحبها، نظرت سلوى له بسخرية وقالتْ:- بالماضي رفضتني وأنا شريفة و الآن تأتي إليَّ وأنا عاهرة تتمنَى حبِي وقربِي، يالا سخريةَ القدرِ، لا أدري هل أفرح أم أحزن؟! في هذه اللّحظة اقتربَ هشام منها واحتضنها بعمق؛ فشعرت برعشةٍ جسدها، وذابت بين أصابعِه في عالم الحبِ والعشقِ الّذي لا تستطيعُ مقاومته أو تجاهله، لكنّها استيقظتْ على دقاتٍ مفزعةٍ ومتتاليةٍ على بابِ المنزل .فتحت الباب لتجد زوجها وأهله، كان ضعيفَ الشّخصية أمامَها حتّى بعد أن وجد هشام، لم يضربْها أويغضبْ لشرفه، بينمَا تعالتْ أصواتُ أخوتِه وأخواتِه، سبًا وقذفًا وإهانةً، أمّا سلوى فلم تسكتْ رغم خطئِها، بل ردت كلّ إهانة بأضعافها أمام زوجها، ورغم طلبِهم بأن يطلقَها بكى وتردّد، فهو يحبها ولا يتّخيل عدم وجودها بحياته .ظلّت سلوى تضحك وتسخرُ منهم بل طالبت بالطّلاق بملء إرادتها فلم تعدْ تطيقُ حتّى أنفاسَه، وتّم الطّلاق وتنازلت عن كلّ شيء إلّا طفليها، سيظّلان معها حتّى انتهاء سنّ الحضانة القانوني. خرجت سلوى ولم تبالِ بكلامِ النّاس وكان هشام ينتظرها، حيث اشترى لها شقةً فاخرةً تطّلُ على البحر في الإسكندرية، لتبدأ حياتهما الجديدة بعيدا عن المدينة التي اشتهرت فيها بسوء سمعتها. لم يكن يهمها شيء لكن تذكرت فقط صديقتيها سمر وهالة فهما من أحبتهما بصدق هنا، وتمنت لو رأتهما مرة أخيرة وودعتهما.