نعم، انتفضتُ من أجلها، واعتراني الغضب وأنا أسمع أحدهم يتطاول عليها بما لا يليق بمقامها، لا أدري ما هذه الثورة المفاجئة التي اجتاحت مشاعري لمجرد ذكر اسمها بالتقليل من شأنها! أنا، يا عزيزي، عجينة تشكَّلت بين أحمرها وأبيضها وأسودها، دماء نزفت من أجدادنا دفاعًا وفداءً للوطن، فورثناها عنهم جيلًا بعد جيل، حبًّا لا كرهًا، بقلوب صافية نقية لا تعرف الزيف، وتعلَّمنا أن نزأر ونثأر لأجلها، ونبددُ أي ظلام يحيط بها، ونقف أمام أي مكائد تُدبَّر لها، وتسعى إلى النَّيل منها وإسقاطها، لكننا لهم بالمرصاد، ولن نقبل أن تُمس بسوء.
لا علاقة لي بحكومات طغت وظلمت واستشرى الفساد في قائديها، علاقتي تكمن في الوطن ذاته؛ فآباؤنا وأجدادنا زرعوا حُبَّه في قلوبنا، مهما اختلف حُكَّامه، وتعاقبت علينا قياداته، تحكمنا ما بين عدلٍ وظلم، أو فسادٍ واستقامة.
جرى في دمائنا دفءٌ وحنينٌ نحو وطننا، ربما نحزن على أوضاع قد تغيَّرت سلبًا، ربما نتألَّم من أخلاقياتٍ قد ساءت، ربما انقلب الحال وتبدَّل بما لا يلائم فطرتنا السويَّة التي فطرنا الله عليها.
هذا الوطن نشأنا فيه وتربينا على أرضه، وأنجب لنا قامات شامخة في كل المجالات نتباهى بها بين الأمم.
تعلَّمنا كيف يكون الانتماء، لم ولن ننساه، حتى وإن طالت غربتنا، نقف انتباهًا كلما شهدنا وسمعنا عنه أخبارًا تُسعدنا أو تُحزننا.
هذا الوطن هو شوارع وحوارٍ وأزقَّة، لنا فيها ذكريات حُفِرت بداخلنا، لا تسير في أي مكان حتى ترى ترحابًا بكلمات تُشعرك بأنك واحد منهم، ما بالك إذن بأهلك وأقاربك ودفئهم العائلي؟!
حكى لي رجل موقفًا حدث له في أثناء زيارته بلدنا أول مرة، ومدى حرصه على ألا يصطدم في أي أمرٍ مع أحدٍ من أفراد شعبنا، على اعتبار أنه في بلد غير بلده، فلربما يتكاثرون عليه ويؤذونه، هكذا هي خلفيته التي يراها، فتحدث لي باكيًا، آلمني بدموعه التي سقطت على خديه دون إرادة منه، فقلت له:
- لِمَ البكاء؟!
فارتعش صوته قائلًا لي:
- هل تعلم أنني اختلفت مع أحد الباعة الذي باع لي شيئًا، وتجاوز معي في كلمة بسيطة لم تصل إلى الإهانة، وفجأة التمَّ الناس حوله لمجرد معرفتهم بأنني أجنبي عنهم، ووبَّخوه، ولم يهدأ لهم بال حتى تأسَّف البائع على سوء تصرُّفه معي، وقدَّم لي مَن تدخلوا مشروبًا، وأوقفوا لي سيارة توصلني إلى وجهتي، ودفعوا أجرة السائق واعتذروا أيضًا مني وقالوا لي: أنت في بلدك الثاني، ونحن أهلك. وتنافس بعضهم في تقديم أرقام هواتفهم لأي خدمة أطلبها منهم..
يتعجب الرجل من هذا الكرم وحسن استقبال الضيف.
مصرنا عشقنا، وحبٌّ لا ينتهي.