بعد رحلة طويلة من العمل الجاد وتكوين شركة كبيرة وثروة أكبر قرر أن يأتي بمن يحلون محله لإدارة نشاطه التجاري فلم يجد أفضل من أولاده، هم فقط من سيخافون على ماله الذي هو مالهم في النهاية، وكما تعود دائمًا في طريقة تفكيره قبل أي قرار أن يفترض أسوأ الاحتمالات ويدرس الموضوع من جوانبه كافة، وبدأ الرجل رحلة البحث في طبيعة شخصية أولاده والوقوف على مزايا كل منهم وعيوبه فهم من عملوا في تجارته تحت قيادته وإمرته مدةً تدريبية تخول لهم اكتسابًا لبعض مهارات سوق العمل المختلفة من إدارة وتسويق وعلاقات عامة وتخطيط ومتابعة.
وبلغة التجارة والأعمال يفضل أن تسند الإدارة إلى شخص واحد يكون فيها صاحب التوقيع النهائي فيما يعرض عليه من صفقات وخلافه، ولا يمنع أن يكون هناك بعض المشاركين بالرأي والمشورة، أما لغة القيادة والعمل والتنفيذ تبقى خاضعة للمدير المسؤول؛ فهو وحده من يملك القرار، وحده من يملك الأمر والنهي، فله كل الصلاحيات.
هذه المواصفات لها شروط يجب توافرها فيمن يعتلي هذا المقعد ويتبوأ تلك المكانة
منها أن يكون ذا شخصية قوية قيادية، لديه معرفة كاملة بكل ما يخص العمل، أن يكون قريبًا من العاملين ودارسًا لمشكلاتهم وساعيًا إلى حلها، أن يملك ثقافة التطوير والتغيير وأن يسمع ويحلل كل ما يعرض عليه باهتمام بالغ، أن تكون لديه القدرة على كسب الآخرين
كلها صفات من شأنها دفع عجلة النجاح والتميز.
صنع الرجل كيانًا ماليًا كبيرًا ويريد لنفسه أن ينعم بحياته بما تبقى له من عُمر، ويسلم المسؤولية إلى من هو جدير بها وبتحملها، يسير على نهجه ويكون امتدادًا له في تلك الرحلة الطويلة، ولكنه وقع في حيرة شديدة عندما كتب في ورقة أسماء أولاده واصفًا طباع كل منهم على حده وما له وما عليه.
الأول: شخصيته هادئة، قليل الكلام، ملامح وجهه جدية، درس المحاسبة، مميز في كل شيء له علاقة بالكمبيوتر والتكنولوجيا، أما عند تحمله للمسؤولية فهو لا يرى إلا نفسه، ويتملكه حب السيطرة، والتقليل من شأن الآخرين حتى مع أشقائه ينظر إليهم بعين التتبع، عليهم أن يتبعونه، هو أولًا وهم ثانيًا.
والثاني: أخذ مؤهله المتوسط بشق الأنفس؛ منذ صغره وهو لا يهوى التعليم، يحب تكوين الصداقات، اجتماعي بطبعه، مخلصٌ وفيٌ لكل من اقترب منه وأشعره بذاته، عاشقٌ للأحاديث الطويلة وسرد الحكايات.
إن لم يجد من يشاركه الحوار حاور نفسه، العمل له متنفس قوي، يسعى فيه لكسب المزيد من العلاقات وليس لاكتساب المهارات.
والثالث تخرج في إدارة الأعمال، وهو التخصص الذي تميل إليه نفسه، ويوافق شخصيته القيادية.
الوحيد بين أولاده الذي يملك قراره إذا صمم على فعل شيء نفذه، وإذا رفض شيئًا فلن يجبره أحد على قبوله، يكره الشروط والإملاءات، لديه هوس التجديد والابتكار، إذا وكلت له المسؤولية كان أهلًا لها، يتحملها بفعالية وإتقان وبفهم ووعي غير مسبوق، إذن هو الأفضل والأنسب، ولكن كيف يتقبله أخوه الأكبر مديرًا عليه؟
أما ابنته الوحيدة فما زالت طالبةً تدرس الفنون الجميلة، بعيدةٌ كل البعد عن لغة الحسابات والأرقام عاشقة للرسم، لديها بعض التجارب في كتابة القصة، مدللة عند أبيها، طفلة بريئة في عيون أشقائها، تستظل بظلهم وتحتمي وتستقوي بهم.
انتهت رحلة البحث في طبائعهم ومقوماتهم، لكن لم يهنأ الأب، يرجو أن يخلفه ابنه الثالث في إدارة أعماله؛ فهو الوحيد الذي سيقود العمل بنجاح واقتدار، وسيكون عادلًا مع إخوته، لكن تبقى المشكلة في الأخ الأكبر؛ فهو وحده الذي سيعكر الأجواء، ولن يترك الأمور تسير في أمن وسلام، إذن ما الحل؟
وبعد تفكير عميق توصل الأب إلى قرار صعب لم يكن ليتخيله يومًا ما لكنه الحل الأمثل برأيه في بقاء أولاده متحابين، وهو تصفية أعماله ببيعها، ووضع مقابلها المادي في رقم حسابه المصرفي، ويكتب في وصيته بعد انتهاء الأجل أن تقسم التركة عليهم، ويأخذ كل واحد منهم نصيبه بالتساوي مع حق التصرف فيه.
ثم كتب في نهاية الورقة:
انتهى الأمر
"ذريتي قيدي وحريتي".