في إحدى الفقرات المتبعة في مجموعةٍ أنتمي إليها ب "فيسبوك" وجه إليَّ أحد الأصدقاء العاشقين للفلسفة سؤالاً فلسفياً: ولعشقه لها سمى صفحته "أرسطو العجيب"، وهو ليبيّ الجنسية ومن قاطني مدينة سرت، حيث قال: "سؤالي لك بسيطٌ جداً وهو: هل حرية الإرادة موجودةٌ حقاً؟ وإذا لم تكن هناك حرية إرادة فهل ينبغي أن نعاقب الناس مطلقاً؟".
كان هذا هو السؤال، وباعتبار أني لست ضليعاً في الفلسفة إلا أنني درستها من قبل بالمرحلة الثانوية، ولديَّ فكرةٌ إلى حدٍ ما عنها، فالفلسفة دائماً لها نقطة بدايةٍ وانطلاق ولا نهاية لها، خيوطها كثيرةٌ ومتشعبة، هناك دوماً طرحٌ للأسئلة والدهشة والتعجب، فهي تعد واحدةً من العلوم المنهجية العميقة، التي تتخذ من العقل عنواناً لها في البحث والمعرفة والوصول لحقائق الأمور، المسألة فيها لا تخضع لسؤالٍ ينتظر الإجابة، بقدر ما يخضع لفهم لغةِ ما بين السطور، والوقوق على كل معنىً، فالإجابة في الفلسفة لا تكون قاطعةً ولكن ممتدةً لا حد لها، وكأنها اجتهاداتٌ تطلب المزيد، وهى في النهاية علمٌ وضعيٌّ قابلٌ للنقاش.
ونظراً لإبحار هذا الأرسطو بالفلسفة ونظرياتها، وما فيها من عمقٍ وتحليل، فقد وضعتُ الكرة بملعبه لأقتنص منه الإجابة الكافية الشافية، وبالفعل بدأت في الرد عليه بطريقةٍ تفيه حقه، وتمنحه القدر اللازم لعلمه الواسع، وبناءً عليه تتقدم خطواته لتوضيح ما استعصى عليَّ فهمه من سؤاله الصعب، ومن التيه الذي تجرنا إليه الفلسفة عموماً، إذا غصنا فيها واستقصينا تفاصيلها، وبهذا أكون قد استحوذت على ما في رأسه من دررٍ فلسفية.
وكانت إجابتي عليه هكذا:
"الصديق الأنيق: أرسطو العجيب، هل تعلم يا صديقي أن سؤالك من أصعب ما يكون؟ وأن قولك بأنه: (سؤالٌ بسيطٌ جداً)، لا أراه سوى مزحةٍ منك؛ فسؤالك يتضمن عدة مفاهيم تتشابك في عدة محاور لدرجة أنك أصبتني بالحيرة فاحترت في أمري. كيف أجيب عن سؤالٍ بمثل هذا العمق وتلك الأبعاد؟
هل أجيب عن الحرية وماهيتها على حدة؟ وأفصلها عن الإرادة، أم أن هناك رابطاً يجمع بينهما أم لا!
وهل حرية الإرادة شيءٌ، وإرادة الحرية شيءٌ آخر؟ وهل هي كما قلت أنت موجودةٌ أم لا وجود لها؟!
وإذا كانت غائبةً فهل ينبغي عقاب الناس في المطلق كما ذكرت؟
أيها الفيلسوف الدقيق العميق، أشهد بأنك ضليعٌ بالفلسفة، وتجيد السير في دروبها الوعرة، بل وتبحر في أعماقها، وتأتي لنا بلآلئ تنير لنا الطريق وتزيدنا توضيحاً، ويتلاشى التساؤل الذي نسأله لأنفسنا كلنا ما الذي يجري خلف كواليس الفلسفة؟ وماذا يدور في دهاليزها؟ كان بودي أن أجيبك عن السؤال، ولكن بذكائك أصابني الشغف، وجعلتني أتحفز لمعرفة الإجابة منك، ومن واقع تجاربك أكثر من واقع قراءاتك (يهمني عنصرا التجربة والمحاكاة أكثر من مجرد قراءاتٍ مضبوطةٍ بمصطلحات أكاديمية لا نبض فيها أحياناً).
والآن هذا هو مجالك ومحرابك وعشقك الدائم، ولأن الفلسفة هي البحث عن الحقيقة وحب الحكمة، فسأترك لك المجال -سيدي الحكيم الفاضل- لتجيبني وتدلني على الحقيقة.
أنتظرك فالموضوع جد شائكٍ وشائقٍ". هذا كلامي وما كتبته، وهذا هو رده عليَّ فيما ذكرته سابقاً:
"أبدأ و أقول: هل نحن أحرار في التصرف على النحو الذي نريده؟ أم مقيدون بحتميةٍ مكتوبةٍ من قبل قوة قاهرة؟!
هل الشعور بأننا نملك زمام قراراتنا المختلفة وهمٌ أم حقيقة؟!
وإذا كانت خياراتنا ليست ملك أيدينا فلماذا نتحمل المسؤولية الأخلاقية عن أفعالنا؟
القضاء والقدر والغيبيات، وارتباطها بالإيمان بما قدره الله -سبحانه وتعالى- للإنسان من خيرٍ وشر، ومسألة علم الله لأفعال الإنسان قبل أن يفعلها هي من المسائل الجدلية القديمة بين الأديان والفلسفة، فليست المسائل تلك إيمانية فحسب؛ بل هي مرتبطة بقضية حرية الإرادة والفعل للإنسان.
ما هي الإجابة عن السؤال القديم: هل نحن مسيرون أم مخيرون؟! مشكلة الإرادة الحرة، الحرية باعتبارها إرادة حرة، التفكير، الطبيعة، هل توجد مبادئ أخلاقٍ دون حرية؟ التقرير الذاتي والإرادة، الحرية وموقعها في الطبيعة".
وختم أرسطو العجيب قائلاً:
"هناك أشياء بالتأكيد خارج نطاق سيطرتك، فموتك وحياتك ولون عينيك وسماتك الخاصة؛ يستحيل أن تكون تحت سيطرتك. في حين أن أفعالك الحاضرة والمستقبلية (أين ستقضي أوقاتك؟) ومن ستنتخب؟ وهل تستمر في عملك أم لا؟! هي من الأمور التي تتحكم فيها كلياً لأنها من أفعالك المعتمدة، فلك أن تفعل أو تمتنع عن الفعل".