المكان مزدحم بالسكان... يغلب عليه الهدوء رغم ازدحامه، والشارع الذي أعمل به وسط المدينة يعج بالمحلات التجارية بكافة صنوفها، وأنا أعمل بإحداها مع أبي وأرى باستمرار كل ما يدور حولي من أعمال وحركة سير للناس تمشي ذهاباً وإياباً ما بين موظفين إلى طلبة إلى عمال، والشاهد في ذاك التوقيت أن هناك حركة عمران ومبان تزداد يوماً بعد يوم... تخترق قواعدها باطن الأرض لتعلو بأركان ثابتة لتعلن وجوداً لتلك البقعة من الأرض، وبجوار المحل الذي أعمل به بيت قديم أكلت الشقوق من سقوفه وجدران... باعه صاحبه منذ فترة بعيدة امتدت لسنوات... حين تراه تلاحظ فيه أمرين لا ثالث لهما...
الأمر الأول:
أن صاحب هذا البيت القديم وهو المُشترِي الذي اشتراه من ساكنه الأول لا نعلم عنه شيئاً... إن شئت قل مهاجرا في بلد ما بعيداً عن وطنه، وكل من يقطن بالمنطقة لا يعرف من صاحبه أو أين يقيم؟ أو ماذا سيصنع بهذا المبنى القديم المتهالك؟ والموضوع له سنوات طويلة...
والأمر الثاني:
أن من يسكنون حول هذا البيت لا يأبهون له ولا يهتمون؛ فالكل مشغول بحاله وحياته، وهذا طبيعي في حياة المدن تجد عمارة آهلة بالسكان ولا أحد يعلم من يسكن فيها من الجيران...
وإذ بي فجأة وأنا أقف أمام المحل الذي أعمل به ذات يوم أجد رجلاً أراه يفتح باب ذلك البيت ويدخل بسهولة دون خوف أو حذر ما إن تنظر إليه إلا ويسيطر عليك إحساساً داخلياً بأنه مالك هذا البيت... كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها شخصا يأتي إلى هذا البيت القديم... ربما لم ينتبه إليه أحد... ربما انتبه أحدهم دون أن يسأل... أما أنا فقد أخذني الفضول إلى معرفة ماهية هذا الرجل! ومن يكون؟ يدخل في صمت ويخرج في صمت شديد يومياً يخرج مرتين... مرة في بداية النهار صباحاً أو ظهراً، وأخرى قبل غروب الشمس وإقبال الليل... هكذا كل يوم أكاد أكون الوحيد بين الجيران الذي دققت النظر في دخوله وخروجه... الرجل على حاله تماماً يشير بيديه في إلقاءه السلام على من يقابله بعد غلق الباب... يكتفي بإشارة فقط دون النطق بأي كلام... هندامه لا بأس به... ثيابه كلاسيكية جل ألوانها قاتمة... يرتدي نظارة شمسية، ويلبس كاباً على رأسه الممتد إلى الأمام قليلاً يتدلى أسفل كابه في الخلف خصلات من شعره المتلوى، والذي يتحرك بفعل الهواء... شعره خليطاً ما بين أسود وأبيض وخطواته منتظمة لا تحيد... من ملامحه ومشيته يبدو في الخمسينات من عمره
يخرج يومياً دون انقطاع، ويمشي بتمهل وهدوء غير آبه لأي شيء حوله، وكأنه الوحيد الذي يعيش في هذا العالم المكتظ بالبشر... مر أسبوع على تلك الحال يخرج ويرجع... في خروجه يديه خاوية، وفي رجوعه يحمل كيساً فيه بعض الخضروات والفواكه، وبعد مرور عدة أيام أخذني الفضول لتتبع خطواته، وإلى أين يذهب تحديداً؟ سرت خلفه... بيني وبينه خطوات متباعدة إلى حد ما حتى لا أفقد أثره... المسافة التي قطعتها ورائه أخذت مني ساعة من الوقت سيراً على الأقدام... يقترب الرجل من المقابر... سألت نفسي: أتكون وجهته المدافن، وبالفعل كان ظني بمحله... دخل هو ووقفت أتابعه آخذاً ساتراً حتى لا يراني، وبدأت التدقيق فيما يفعله... وجدته يجلس على الأرض أمام أحد القبور ثانياً ركبتيه ورافعاً يديه أمام وجهه... يتمتم بكلمات... يبدو أنه يدعو لمن في القبر... بقى أكثر من ساعتين وهو بتلك الحالة ما بين دعاء إلى الله، وما بين استخراج منديلاً من جيبه يمسح الدموع من عينيه التي تقبع خلف نظارته السوداء.
بقيت في مكاني أراقبه حتى نهض من مكانه مستعداً للخروج، واتجهت أنا في طريقي سابقاً إياه إلى أن وصلت إلى عملي قبل أن يصل هو، وبعد مدة قليلة وصل إلى مكانه، ودخل البيت كعادته.
في اليوم التالي لم يخرج، واليوم الذي يليه أيضاً لم يخرج
شعرت بقلق عليه رغم أني لا أعرفه، وفي اليوم الثالث طرقت الباب محاولاً كثيراً ولكن دون رد... لم أجد طريقة أخرى سوى تسلق سطح البيت في الصباح الباكر والنزول من أعلى لأسفل لأجد الرجل قد وافاه الأجل جسمه ممداً في غرفة بالية دون حراك....، وممسكاً في يديه دبلة ذهبية مكتوباً عليها "روح" وعلى الأرض بجواره ورقة كتب فيها زوجتي: روح
سامحيني على كل ما فعلته معك... فأنا لم أقطع يوماً واحداً دون أن أزورك في قبرك وأدعو لكِ.
لقد خرجت من السجن لأجدك تاركة لي في إدارته عقد ملكية لبيت يأويني ومالاً يغنيني. كان هذا كل نصيبك من إرثك في أبيكِ منحه إليكِ أخيك المسافر بعيداً... لم يرزقنا الله بالأولاد، وهذه إرادته رغم أن العيب مني... أنتِ في دار الحق وأنا في دار الباطل
في حياتك معي لم أرحم لحظات ضعفك والمرض ينهش أعضائك حتى الحبس الذي دخلته كان عقابي في الدنيا جراء ما فعلته معك فمن عرفتها عليك وتزوجتها هي من وضعتني فيه برفعها عدة قضايا تدينني، وأنت داخلك الرحمة تجاهي
ندمت أشد الندم على كل ما فعلته معك من خيانة وإهانة... كنت قاسياً في معاملتي معك... لم أقل يوما كلمة تدخل على قلبك السرور... كلما تذكرت صبرك معي، وتحملك لطباعي الغليظة أشعر بغصة في قلبي
ماذا أصنع لتسامحيني وترقدي في قبرك راضية عني؟ ليس بمقدوري إخراجك من قبرك لأعوضك عما رأيتيه معي...
لا أملك من الأمر شيئاً سوى الدعاء لك، والتبرع بهذا البيت لجهة خيرية صدقة جارية على روحك الطاهرة
من بعدك رافقني الندم، وتجرعت كأس مرارته رشفة رشفة.