التقيت بصديق لي، لم أره منذ سنوات طويلة، كان زميلاً لي في الدراسة أيام الطفولة والصبا وبواكير الشباب الأولى، ما إن رأيته حتى صافحني بحرارة، وشعرنا معاً بالحنين إلى الماضي وذكرياته، وبدأ يسرد بعض المواقف التي تشاركنا فيها معاً -أنا وهو- وبعض الرفقاء، وإحياءً لتلك الفترة الزمنية وما فيها من نقاء، عرض على أن يجمعنا مكان واحد نقضي فيه بعضاً من الوقت، لنستمتع ونريح أنفسنا قليلاً من عناء الحياة وتبعاتها، وقال لي إنه "سيعطي خبراً لبعض أصدقائنا الذين هم من دفعتنا نفسها"، وبالطبع ذكرني بهم، وحضروا على الفور إلى ذاكرتي التي لم تنسهم بمجرد استدعائهم في رأسي عندما ذكر لي أسماءهم، حددنا الموعد، واتفقنا، وجاء الموعد لنلتقي، وقد كان لنا ذلك، كانوا خمسة أشخاص: سامح وعبد الله وفريد وكمال وعلاء، وفايز الذي دعاني.
بمجرد أن رأيتهم أمامي وجهاً لوجه رجع بي شريط الذكريات إلى الوراء، كنت أنظر إليهم، وإلى ملامحهم التي غيرها الزمن بتمعن واهتمام، كان الترحاب شديداً بيني وبينهم، وبدأ كل واحد منهم يحكي عن مشواره في الحياة ووعورة طريقه، وماذا فعلت الدنيا به وفعل بها؟
تحدث سامح أولاً عن غربته خارج وطنه منذ أن تخرج في الجامعة، كان كل همه وشغله الشاغل أن يسافر ويهاجر بعيداً ليرى دماً جديداً -على حد قوله- وبشراً مختلفين، وهو الذي أذكر له ونحن صغار رغبته الشديدة في هذا، كان رافضاً لواقعه وحياته، ونظرة التشاؤم تسيطر دائماً على تفكيره حيال الظروف التي يعيشها وسط أسرة مفككة لا ضابط فيها ولا رابط، ومجتمع لا يرى منه إلا ظلماً على كل من ليس له ظهر يستند إليه، حتى واتته الفرصة، وسافر ومكث زمناً طويلاً جعله يرسم طريقه إلى الاستقرار والزواج من البلد الذي يقيم فيه، فتزوج بإحدى الفتيات وأنجب منها أولاداً، ولأن العادات والتقاليد تختلف، والطبائع أيضاً، لم يشعر بالراحة ولم يهنأ، صمد كثيراً حيال ذلك، وتحمل رغماً عنه إلى أن خارت قواه، ونزل إلى وطنه آسفاً عن ما آل إليه الحال، وتشتت أولاده من بعده، وقدمت فيه زوجته الأجنبية شكاوى لا حصر لها وفق قانون بلادها، بما لا يدع له فرصة لرؤية أولاده مرة أخرى، فاكتفى بالاتصالات فقط لا غير.
ثم بدأ عبد الله في سرد قصته الوظيفية، فبعد تخرجه فضل أن يطرق باب الوظيفة الحكومية مثل أبيه وأمه الموظفين في القطاع العام، وأكمل طريقه في هذا المضمار راضياً بمرتبه الذي يتقاضاه من الدولة، الذي لا يكفي حتى لشراء جل احتياجات بيته وأولاده نتيجة غلاء المعيشة، فأصبح كأنما هو وسط طوق يقيده من جميع الاتجاهات، وديون تحاصره من بائعي السلع الغذائية المختلفة، وما أن يأتي أول الشهر حتى تمشي مفردات راتبه لسداد عدة أبواب، ولا يتبقى إلا القليل، وتدور عجلة الهموم مرة أخرى من جديد حتى بدا عليه العمر أكثر منا، ورسمت التجاعيد لوحتها على وجهه.
أما فريد فكما عهدناه أيام الدراسة أنيقاً في مظهره، يفوح العطر النفاذ من حوله، يبدو في شكله أصغرنا سناً فهو أفضلنا مادياً، وابن عز من يومه كما يقولون، لديه من معطيات الحياة ما يؤهله للاهتمام بنفسه وعدم التأثر بالآخرين، ولكني لاحظت عليه في أثناء حديثه مسحة حزن دفينة، تظهر جلية في عينيه ونظراته التي تذهب هنا وهناك، وكأنه يهرب من شيء ما، وظني كان بمحله حينما صرح وقال إنه رغم كل هذا لا ينجب، ولا يشعر بلذة ومتعة الحياة، وما يؤلمه أكثر أنه كانت له صولات وجولات وعلاقات نسائية متعددة، لشعوره الدائم بالوسامة والرجولة التي لا يختلف فيهما اثنان، أنفق كثيراً من المال لينجب طفلاً يسر عينه، وباءت كل محاولاته بالفشل، تلك إرادة الله، "يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيما" صدق الله العظيم، إلى أن رضي بقضائه سبحانه، وأقلم نفسه على ذلك لتستمر الحياة.
وجاء دور كمال بهدوئه وتدينه كما كنا نعرفه منذ صغره، وبجلبابه القصير، وطاقيته الضاغطة على رأسه بإحكام، ولحيته الطويلة، كل اهتماماته دينية بحتة؛ فهو تربى وسط عائلة شديدة التدين، ومشى على نهجهم نفسه دون تنازل، واختار لنفسه هذا الطريق عن قناعة تامة، وأصبح عضواً في أكثر من جماعة ممن يتخذون التشدد والغلو في الدين شعاراً لهم، وهكذا أصبح حاله ما بين تابع ومتبوع! وعندما يتكلم وتستمع إليه، تشعر وكأنه مقيد، أو أنه قيد نفسه داخل أفكار بعينها واقتنع بها تمام الاقتناع، ولا يمكن أن يسمع منك وجهة نظر أخرى مغايرة، ووسط هذا كله لم يذكر شيئا واحداً عن عائلته، وكأنها سر من الأسرار العليا.
ويأتي علاء الذي يبدو عليه القلق طيلة اللقاء؛ فالتجارة قد أخذت كل وقته كما يقول، رغم أن من يعملون لديه يُسَيِّرون العمل كما يحب، ولكنه لا يهدأ إلا بمتابعة كل كبيرة وصغيرة في نشاطه التجاري، واقتطاع جزء من وقته لمثل هذا اللقاء جاء بصعوبة بالغة، بتأثير وإلحاح من فايز أكثر المقربين إليه.
أما فايز فهو الوحيد الذي لم يتزوج، معللاً ذلك الأمر بأنه لم ولن يرتبط إلا بالتي اختارها قلبه، لكن لم يجمعهما النصيب لتتزوج هي، ويبقى هو حافظاً عهد حبه معها، فآثر العزلة، واكتفى بحياته على هذا الشكل وحيداً تارة، وباحثاً عن أصدقائه تارة أخرى، ومباشراً لبعض الإيجارات التي تركها له أبوه ليستعين بها على نفقاته، ليعيش دون الحاجة إلى أحد.
المعاناة تقاسموها في حكاياتهم، وأنا أيضاً عانيت باستماعي إليهم منصتاً؛ فأتيت بقلمي لأترجم كل هذه الأوجاع.
اتفقنا على أن نحكي كل ما يؤرقنا من آلام، واختلفنا في عرضها ونوعها، فكان اللقاء من أجل البقاء.