كانت السماء متألقةً في ذلك المساء، موشاةً بالنجوم اللامعة، التي تلقي بسحرها وضيائها على الأرض من حوله، ألقى بجسده النحيل فوق كرسيه، بعد أن أتمَّ جولته اليومية بمنتصف الليل، حول فيلات الكمبوند الذي يعمل به كفرد أمن، تلك التي بدت له متأنقة كعادتها، وكأنهن نساء في كامل زينتهن، والأضواء المتناثرة حولها، تبدو كعقد يزين صدرها. يبدين رغم ذلك غامضات، ومنيعات منغلقات على أسرارهن، والأشجار التي تطول السماء تحيط بهن من كل جانب. كان الهدوء يربت بأصابعه على كل شيء من حوله، إلَّا من عواء يصدر أحيانًا من بعض الكلاب الأليفة، هي جزء من تكوين ذلك المكان. حركت فيه السماء برونقها بعض شجون، فأعادته لذكريات الأحباب الذين تركهم في بلدته، وذكرته بتلك الأمسيات التي طالما قضاها في صحن الدار، متأملًا نجوم السماء، ملتحفًا بطانيته التي لم يشعر وقتها قط بالهواء اللاسع، الذي كان يتسلل من فتحاتها لعظامه، فقد كان ما بقلبه من لهيب كافيًا لتدفئ جسده العفي. حينما كان يرى وجهها الصبوح مرسومًا أمام عينيه كطيف جميل، وهي تنظر نحوه باسمةً بطرف عينيها النجلاوين، تتأكد أنَّه يصعد معها في الوقت نفسه، نفس العربة نصف النقل التي ستنقلهم من بلدتهم، حيث الحقول الخضراء، والبيوت الكهلة، إلى أقرب مدينة، حيث مدرستها الإعدادية، ومدرسته الثانوية الزراعية. يبدو وجهها في ثياب المدرسة الكحلية شمسًا بازغة، وقوامها الفارع الغض، يبدو كفاكهة حان قطافها. يبادلها نظرات جانبية باسمة حالمة، وحبلى بأمنيات بعيدة. ويشعر بدقات قلبه ترقص على موسيقى الأغاني العاطفية التي تنطلق من كاسيت السيارة، وعلى غناء البنات المبتهجات بالحياة تنتظرن الوقوع في الهوى والنصيب (وما تجوزيني يامة حاضر يا ولدي، وفضلت تقولي حاضر لما خضر شنبي)،
يشتعل القلب فرحًا حين تصادف نظراته نظرات عينيها لثوانٍ، كانت كافية لتقول لها كل شيء، البنات يضحكن من حولها، ويثرثرن، ويصفقن على دقات قلوبهن الغضة. وتهتز أغصان شجيرات الليمون والبرتقال على امتداد الطريق، تدفع شذاها لأنوفهن بلااستئذان، كحب عذري. تذكر فجأة نظرات عيني أمه الحزينة، حين رأى ضوء القمر مختفيًا خلف غمامات بيضاء كثيفة، حين كانت تجلس داخل الدار تدندن بأغنية حزينة، وهي تلملم كتاكيتها ذات الزغب الأصفر في حجرها. تبش قسماتها كطفلة، وهي تراها تنقر الطعام من بين أصابعها، يشاركها ضحكاتها، وينتهز الفرصة؛ فيحكي لها عن(هناء)، وعن الحب الذي فاض من بين جوانحه، وأمنيته في الزواج بها.
- على عيني يا بني، نفسي أفرح بيك وبولادك، بس مين اللي هايساعد أبوك في سترة البنات غيرك؟ والغايب يا بني، ماباينلوش رجوع!
تطفر دمعة من عينيها؛ فيشعر كأنَّه كان طائرًا في الهواء فسقط فجأة، وحين وضع قدميه على الأرض رأى البنات الثلاث اللاتي كن يلعبن (الحجلة) مع رفيقاتهن يلفون ضفائرهن بالمناديل الملونة، وقد أنضجهن الزمن، فقعدن ينتظرن السترة وأولاد الحلال. وعلى الحائط كانت صورة أخيه الكبير الوحيدة معلقة على الجدار، منذ أن لف همومه في مساء حزين منذ سنين مضت، وارتحل مع الراحلين، ركب البحر الهائج، وكان يحسبه طوق نجاة ينتشله من فقر حمله على ظهره سنين عمره كله لبلاد أوروبا، ولحياة أكثر غنى، وسحرًا، فانقلب السحر عليه، وهاج البحر؛ فابتلعه هو والآخرين. وسمع صوت سعال أبيه الذي اعتاده منذ سنوات، كما اعتاد جلسته متكومًا خلف باب الدار، ينتظر الغائب حتى يجيء، صدمه صوت بوق السيارة الذي شق السكون، وانتشله من أحلامه، فهب واقفًا رافعًا يده بتلقائية عند مستوى رأسه ليقدم التحية، وهو يفتش في ملامح مَنْ يقود السيارة المرسيدس الفارهة التي توقفت أمامه، انبسطت ملامحه، وهو يرفع كلتا يديه محييًا (علي بيه)، الذي كان يحييه، ويلاطفه بوجه ضاحك كعادته معه، ومع بقية زملائه، تجلس إلى جانبه زوجته الأمريكية الشقراء التي تخلت عن بلادها، وحياتها منذ عامين، وجاءت لتشاركه الحياة في بلده، وفي الخلف تجلس ابنتاه ذواتا العيون الزرقاء المندهشة دائمًا. يفرح حين يراه؛ يرى فيه ملامح أخيه الذي راح ولم يعد. خاصة حين يتعامل معه عن قرب؛ فيشعره أنَّه ليس كالآخرين الذين يترفعون عن الحديث معهم، و لايعرفون سوى لغة الأوامر والقسمات الصارمة.
يلقي نفسه من جديد على كرسيِّه، ولأفكاره التي تزاحمت داخل رأسه في ساعات حراسته الليلية. تستعيد عيناه التجول بين رحابة السماء الصافية، والأبنية المنتصبة من حوله، والمساحات الخضراء المترامية. تلفُّه نسمات الهواء الطازجة، وتأخذه وشوشات الأشجار لبعضها لعالم آخر. كان يضرب الماء بقوة في حمام السباحة، وهو يرفع رأسه؛ ليرى لون السماء الصافية، والشمس تلمس جسده العاري بأصابعها الناعمة، والهواء يحرك أغصان الأشجار الملتفة حول سور الفيلا. تتفتح الزهور الملونة مترعة في الأصص فوق سلالم الفيلا. يرفع رأسه؛ فيرى "هناء"التي اكتمل بهاؤها تضحك له، وهي تشير للبنتين ذواتي العينين المندهشتين، وهما تركبان باصَ المدرسة الأجنبية الذي كان ينتظرهما عند مدخل الفيلا .يرفع رأسه لأعلى حين يسمع أصوات أبيه وأمه اللذين يقفان في الشرفة العلوية، ويضحكان له من بين أصص الزهور الملونة المدلاة من الشرفة، ثم يرى أخاه قادمًا نحوه؛يبتسم له، ويشير بيديه وهو يركب سيارته المرسيدس خارجًا من بوابة الفيلا. يضرب الماء بقوة؛ فتتغطى ملامحه، يكاد يختنق؛ يهب فجأة من نومه، تتبدد كل المشاهد من أمام عينيه، يفتحهما بقوة؛ فيرى نفسه جالسًا لا يزال فوق كرسي حراسته الليلية.