رفعت رأسها تنظر للسماء بعين نصف مغلقة. نكستها سريعًا، حين تكالب ضوء الشمس على حدقتيها. ترفع أطراف خمارها الأسود، تحركه؛ لتجلب الهواء لوجهها، وتمسح عنه بعض حبات العرق. نظرت حولها،كانت بعض مجموعات من الناس تلتحم ببعضها على امتداد رصيف الشارع، تنشغل في حوارات عالية اللهجة، تتقاطع، وتصطدم ببعضها حتى تصل متشابكة لأذنها. رفعت نصف رأسها باحتراس للسماء، وهي تلهج بدعاء حارٍ حين اخترق أذان الظهر أذنيها. تحمد الله، وهي تمسح دموعًا هاجمتها. تغطي وجهها بخمارها، وتدعو للولد الوحيد الذي طالما تمنته، حتى ترسخ أقدام زيجة لم تثمر إلَّا عن أربعة بنات. لسنين طوال، كانت ترى كسرة النفس، تطل من عيني زوجها حين ينعتونه بأبي البنات. تتذكر فرحتها التي رفعت روحها؛ لترفرف فوق كل دور القرية، حين أتت له بالولد. كانت تشعر وقتها، وكأنَّما حازتْ كل سعادة لها بالدنيا، حين أصبح لقبها (أم محمد)، ولم تكن تعرف أنَّ السنين ستكر. وسيفارقها أبو الولد، ليعود لأحبابه الراحلين. وتظل هي تحمل البقجة بما تستطيع يديها صنعه من خيرات الريف. تدور من قطار لقطار، ومن ليل لنهار. تلتقط قوت الصغار، حتى تكر السنون والعمر من بين يديها كبكرة خيط. تحلم باليوم الذي سوف تأكل فيه ما يطيب لها، وتلبس الغالي النظيف من كد يدي الصبي، وتهش وتبش لزرعاته، من الصغار الذين سيملئون عليها الدار بأنفاس حياة جديدة، لكنها تفيق من أحلامها على وحدتها، وكسرة نفسها. تترك البنات لبيوتهن، وأزواجهن وزرعات صغيرة يتابعنها بالنمو والفرح. وحدها تأكل الطريق تعدو وراء الصبي، الذي لا يتركها للراحة أبدًا. تفيق على صوت عربة البوليس الكبيرة، وهي تتجاوزهاوتقف. تتحايل على عظامها الواهنة. تتمسك بالأرض حيث تجلس، وهي تحاول الوقوف؛ لتحميها من سقوط محتمل. تعدو خلف العربة المفتوحة من الخلف بخطوات مترنحة. تتتبع ملامح ولدها من بعيد، تعرفها دون غيرها، ممن يحيطون به، ويملئون العربة. تحاول اللحاق بهم، وهم يتهيئون للخروج من العربة لداخل المحكمة. وحين تقترب من ولدها، تحاول أن تدفع له بالكيس الأسود البلاستيكي الذي احتوى بعض الطعام الذي صنعته بيديها لأجله، وغيارًا نظيفًا وعلبة السجائر، بنفس الماركة التي طالما أنبته، حين كانت تجدها تطل من جيب قميصه منذ سنوات مضت، حينما أخضر شاربه.
كانت يديه مكبلة بالحديد، فلم يطله. يلقيها الشرطي الذي حال بين لقائهما لجانب الطريق، وهو يسحب ولدها بسرعة لداخل المحكمة، بعد أن قدم به من قسم الشرطة.
- إوعي ياست إنت.
لا تشعر إلَّا وجسدها يهوي لأسفل. تحدق بعينين ذاهلتين للأقدام المحيطة بمكان سقوطها، وكأنما تستحثها؛ لتنقذها من غرق وشيك. تشعر ببعض الأيدي القوية، تقبض سريعًا على عظامها. يعيدونها لتقف على قدميها. تلهج بالدعاء للأيادي التي انتشلتها في آخر لحظة للسقوط. تنظر للوجوه بامتنان، فلا ترى سوى ملامح غائمة، تأتيها من خلف دموعها. تتراجع للخلف. يسقط جسدها باحتراس على الأرض من جديد. تأوي إليها. تدفع يدها لداخل صدرها؛ لتخرج كيسها القماشي الملون. تفتحه بحذر شديد، تتلفت حولها وهي تخرج عدة جنيهات ورقية مجهدة. تعدها للمرة العاشرة. تتأكد أنها عشر ورقات. تعيد كيس القماش الخالي إلى داخل صدرها. تكور الجنيهات في راحة يديها، تقبض عليها،وكأنها تخشى أن تقفز من بين يديها. تترك عليها بلولة عرق أصابعها، تبقي عينيها مركزة على مدخل المحكمة، تتابع الخارجين منها، تطرد الوسن الذي تسلل إلى عينيها، حين تمدد الوقت لساعات، حتى رأته خارجًا من جديد؛ فهبت كريح باغتته، فكانت هي الأسرع، وهي تدفع بيدها المكورة لداخل يد الشرطي دون أن يشعر بها أحد. تنظر لعينيه فيفهم. تنبسط أصابعه وملامحه، ويقبض على جنيهاتها. يدسها بخفة في جيب بنطاله. تسحب يدها التي خلت في نفس اللحظة التي تمد فيها يدها الأخرى بالكيس الأسود لولدها. يلتقطه منها تنظر لعينيه التائهة، و تشعر بلمسة أطراف أصابعه؛ فيشتعل قلبها بالحنين والحب، وتطفر دمعة من العين. يؤنبها الشرطي برفق وهو يدفع به من جديد لداخل العربة:
- بسرعة ياحاجة بسرعة.
تقف مكانها لتتابع العربة، وهي تبتعد به، وتمسح وجهها بخمارها، وتشعر بالراحة، ويديها تتحركان خفيفتان خاليتان حولها، وهي تفكر في طريقة للرجوع للبيت.