في صندوق الذاكرة صور مخزونة تحتفظ بها بعناية، وتستدعيها على حسب الموقف الذي يقابلها حال وقوعه.. ثم تعرضها على هيئة صور ملونة.. نحن من صبغناها أثناء الإحتفاظ بها من بعد الموقف الأول، وحتى لا تختلط الصور ببعضها البعض، وحتى ينفرد كل موقف بإحساسه الخاص الذي ترك بالغ الأثر بقلوبنا.. لذا ميزنا كل صورة عن الأخرى بلونها المناسب والملائم للموقف، ليكون ذاك اللون هو كلمة السر التي تسمح لصندوق الذاكرة أن يُفتح دون مشقة أو عناء منا.
وتلك الألوان هي..هي نفس الألوان التي تملأ أرجاء الحياة من حولنا -فتعال معي- نختر أي لون عبثًا لفك شفرة ذاك الصندوق، لنرَ ماذا سيُخرج لنا من جعبته.. وها أنا ذا قد اخترت اللون الأبيض، لون تلك الفراشة البيضاء التي إعتدت رؤيتها كل يوم في ساعة الظهيرة..وهي تحوم بين الحشائش أدنى أشجار الليمون، والتين، تتمايل بأجنحتها الرقراقة البيضاء، كأنها تُصدر نداءات خفية لذاك الصندوق..فيلبي النداء في التو واللحظة، ويُفتح بقدرة قادر على صورة قديمة لبنتٍ صغيرة، تُطيل النظر في وجه السماء مع رفيقاتها وهنَّ يحسبن الأيام والساعات لإستقبال -يوم شم النسيم- ويتعاهدن لبعضهن البعض استماتة اللعب في ذاك اليوم دون أن يضعن منه ولو لحظة واحدة ..
فخالفت العهد معهن عنوةً..في ذاك اليوم، وصدقته مع الفراشات بأحضان الحقول.
وكم من ألوانٍ تدعونا لأن نفسح لها الطريق على الجانبين .. حينما تمر تلك الصورة ذات اللون الأخضر، والتي تحمل في طياتها
ذكرى تنثر على رحاب القلب عبق لا مثيل له.. كما كانت شجرة التوت تمطر علينا جميعًا من ثمارها، حينما كان جدي رحمة الله عليه يتسلقها ليهز لنا فروعها العتيقة، فتُفترش الأرض حولنا من ثمارها التي كانت حينها تُشبع خواء البطون الصغيرة، وكلما مرت علينا تلك الذكرى.. تُرانا جميعًا نتنهد، نود لو يرجع بنا الزمان للوراء لنعيش منها ولو لحظة..رغبةً في دفئها لا طمعًا في ثمارها.
فلا تسأل احدًا عن سر إرتباطه بلون، أو رائحة معينة تطعمه السعادة أو الحزن، أو أي شيء يشعر به من هذا القبيل.. فخفايا الشعور واللاشعور هي التي جعلت من تلك اللحظة مهدًا لها في كل مرة تتكرر فيها..وكأنها أول مرة.
فمثلًا اللون الأزرق لطالما لمحته..أتذكر على التو الزي المدرسي الموحد طوال الثلاث سنوات في مرحلة الثانوية، ولا أنسى اللون البني بدرجاته الذي كان رفيق طريق الطفولة بجميع مراحل التعليم الأساسي..ولا تحاول أن تقنعني أن هذا اللون بالذات يليق
بأي لباسٍ أخر سوى "المريلة" مهما فعلو به، أو صبغوه على أحدث تصميمات للملابس..فأنا لا أتصوره إلا بحالته الأولى التي طبعت بذاكرتي.
وكما أن هناك ألوانًا مفرحة، ومبهجة تُعيد لنا لحظات نحن في امسْ الحاجة إليها..لنطمئن أننا ما زلنا بها بخيرٍ، وما زلنا على قيد ذكراها قابعين، فهناك أيضًا ألوان ضبابية، مبهمة الشعور، نراها رأي العين..لكنَّ القلب يُنكرها تحت دعوة النسيان، بالكاد لأنها تبعث في النفس إحساسًا غامضًا حال تذكرها، أو وقوع العين على لون يقابل تلك اللحظة، فعندما أرى الألوان المتداخلة في بعضها البعض، تلك التي تصنع مزيج لحالة خاصة مرت بحياتي.. أثناء "حرب الخليج " أتذكر حينها كنا نعيش في حالة هلعٍ وخوف، خاصةً وأن بعض جيراننا المقربون إلينا منهم من كان له أخٌ، أو إبن، واخر له أسرة اخيه كاملة في دولة الكويت التي كانت حينها محتلة، كنا كل يوم في حالة مختلفة تمامًا عن اليوم السابق له بسبب عدم استقرار الأوضاع، وفي زحمة الأخبار وتخبطها جاءنا خبر وفاة إبن أحد جيراننا هناك، وعلى الوجهة الأخرى وبعد مرور هذا الخبر بعدة أيام علمنا أن جميع المصريين وكل الجاليات فروا بعد شن الحرب، واطمأن جارنا الثاني من بعض المصادر أن اسرة أخيه ما زالو بخيرٍ والحمد لله وفي طريقهم للعودة.
إنتهت الأزمة كاملة، ومرت السنون، وما زال استدعاء اسم "الكويت "مثلًا أو ذكر لفظ "حرب الخليج" يدعوني رغمًا عني أن
أتذكر تلك الفترة العصيبة وهي تمر أمامي في أقل من ثوان معدودة ..تلك الفترة صبغت بداخلنا الوانًا كثيرة تشبه احداثها، منها الأبيض لون الفرحة، والأسود لون الموت والعزاء، واللون الرمادي لون دخان الحرب الذي كنا نتابعها لحظة بلحظة في نشرة الأخبار، وألوان أخرى كثيرة تعبر عن كل موقف مر علينا حينها.
يقول عباس محمود العقاد:" نعم لا ألوان للأيام، وهذا معقول وصحيح، ولكنني مع هذا أقول أنني لم أذكر يومًا من الأيام المعدودة إلا رأيت له لونًا وميزته بصبغة يخالف بها سائر الأيام، وهكذا كل إنسان، لأننا مطبوعون جميعًا على تصوير المعاني الذهبية بصورة حية تتفاوت في الوضوح على حسب التفاوت في إنطباعها على صفحات الوجدان والخيال."