أحب أن أرى الأشياء على طبيعتها، وأحب المواقف الصادقة دون زيف أو تصنّع. أحب الأطفال لفطرتهم، ولأنهم مرآة للنقاء، وأميل إلى الذكريات الجميلة، تلك التي تطعم الروح بيدٍ خفية. أحب الكلمة الصادقة إذا اختُصرت، والكلمة الطيبة إذا قُصدت.
ومن هذا الحب، انطلقت في الكتابة من زاوية مختلفة... زاوية قد تُعد عند البعض خروجًا عن المألوف أو كسرًا لبعض القواعد الأدبية المتعارف عليها. لكنني في المقابل حاولت أن أُقيم محسوسًا آخر، أكثر دقة وعمقًا، يُعبر عن مشاعر إنسانية بحتة تحمل في طيّاتها بعضًا من قواعد الجمال الخالص... ذلك الجمال المجرد الذي لا يُنافس الجمال الفني في قيمته، لكنه يختلف عنه في وسيلته.
كثيرون في عالم الأدب يسعون لإبراز جمال النص من خلال اللمعان اللفظي، والتراكيب المتكلفة، والمفاهيم التي يصعب على المتلقي تذوّقها أو حتى فهمها. فيظنون أنهم بذلك يضفون على نصوصهم لمسة إبداعية راقية، غير مدركين أن هذا الحاجز المصطلحي قد يعزل القارئ عن النص بدلًا من أن يقرّبه منه، فيفقد بذلك النص جوهره الشعوري الحقيقي.
فأين تتحقق المعادلة إذًا بين الكاتب والقارئ؟
كيف يصل النص إلى القلب، وهو مغطى بأغلفة لغوية لا يُحسن القارئ فكّها؟
كيف نتوقع أن يلامس الحرف الجرح، أو يواسي الألم، وهو محاط بكل هذا التعقيد؟!
لذا، قررت أن أخرج عن المألوف. وهذا ما يسمّيه النقّاد بـ"المنهج الاستاتيكي" أو "الاستيتيقي"، الذي يُعنى بالبناء الداخلي للنص، ويهتم بجوهره لا بظاهره، بعيدًا عن ارتباطه بالمجتمع أو بمؤلفه أو حتى بمحتواه المباشر. وهو منهج مقابل للمنهج الرومانسي، والواقعي، والنفسي، والرمزي.
وقد أشار الأديب عباس محمود العقاد إلى هذا المنهج في حديثه مع الدكتور طه حسين، عندما ناقشا قدوم أحد علماء الجمال إلى مصر لإلقاء محاضرات حول هذا التوجّه. ورأى العقاد أن إبقاء مصطلح "الاستاتيكي" دون ترجمة هو الأقرب للدقة، لكنه دعا إلى إيجاد مصطلح عربي يوازيه، إن أمكن.
وقد لخّص العقاد الفكرة في عبارته الشهيرة:
"ولا شيء غير صقل المحاريب يجعل علم الذوق مرادفًا للاستاتيكي، كما يفهمونه في الدراسات الفلسفية والأدبية."
في الحقيقة، هناك مواقف نادرة تمر بنا في الحياة، لا يتكرر بعضها إلا مرة أو مرتين، وقد تمر بنا دون أن ننتبه إلى قيمتها.
في البداية، نستقبلها بلا اكتراث، كأنها مجرد تفاصيل صباحية لا فرق بينها وبين صباحات أخرى سبقتها. ولكن عندما تمر مجددًا، قد نشعر وكأننا نعيش مساء ذلك اليوم ذاته، وقد تغيّر كل شيء حولنا... الألوان، الأصوات، وحتى شعورنا الداخلي. فنقول في أنفسنا: كيف فاتني ذلك الصباح؟! كيف مر دون أن ألتقط من ضيائه قبسًا أستنير به في هذا الظلام؟!
وكأن الصباح ذاته يوبّخنا قائلًا:
"ألم تهتدِ إليّ مرة واحدة؟! ألم تأخذني بعين الاعتبار لأمنحك من نسماتي قبل أن أزول؟!"
إن تفاصيل بسيطة جدًا، هي من تصنع السلام النفسي بداخلنا.
هي التي تمر دون أن نعيرها اهتمامًا، لكنها حين ترحل، نكتشف أنها كانت أثمن مما تخيلنا.
فيا صديقي...
تعال نعيد ضبط مؤشر الراديو على إذاعة كوكب الشرق، أم كلثوم... أو نستمع لقصائد نزار قباني بصوت كاظم الساهر...
أو نغوص في بحر الخيال مع صوت نجاة الصغيرة، أو نرقص بالكلمات تحت المطر مع ماجدة الرومي...
انسَ كل ما حولك، وامنح نفسك ساعة واحدة من حقك.
ربما قبل عشرين عامًا ما كان لهذا الكلام أي تأثير علينا، بل ربما تجاهلناه، وسخرنا منه.
لكن الآن... كيف تغيّر كل شيء؟!
يُحكى أن في أعماقنا بابًا يُسمّى "باب الروح"، يُفتح تلقائيًا عند لحظة صادقة...
مثل شمس العصاري حين تتسلل من بين شقوق شرفةٍ قديمة، أو رائحة شاي بالنعناع يفوح من صينية تلتف حولها قلوب أحبّة.
ومع مرور الزمن، تصبح تلك التفاصيل الصغيرة هي أجمل ما نحمله من ذكريات... حتى المواقف التي بدت لنا مزعجة حينها، كالخلافات الطفولية بين الأخوات على فستان أو غطاء رأس، تصبح اليوم مصدرًا للضحك والحنين.
أتأمل تلك المشاهد، فأبتسم... وكأنها نسخة بالكربون من طفولتي مع أخواتي، لم ينقصها إلا وجودي لأكتمل.
كل هذه التفاصيل – الغيوم قبل المطر، رائحة الأرض بعده، فنجان قهوة في زاوية هادئة، صوت إذاعة القرآن الكريم، رائحة خبز التنور – هي من تصنع فرحنا الحقيقي دون أن تصرخ بوجودها.
الخلاصة:
ليست هناك قاعدة ثابتة لقياس أثر النص الأدبي أو الخاطرة، ولا يمكن للكاتب أن يضمن دائمًا وصولها كما أراد.
لكن، هناك قاعدة واحدة إن التزم بها، ربما تسهّل عليه الطريق، وتقرّبه من قلب القارئ:
أن يكون واقعيًا وصادقًا في تصويره، وأن يبتعد عن زخرفة الألفاظ والنكت البلاغية، الذي قد يعيق الفهم بدلًا من أن يعززه.
---
ملاحظة لغوية:
"النُكت البلاغية":
هي الجماليات الفنية والتعبيرية التي يُبرزها الأديب أو الكاتب دون التطرق إلى القواعد المنطقية التي تحكمها، وقد تؤدي كثرتها إلى إغراق النص وتعقيد معناه، فتبتعد به عن الإدراك الحسي والشعوري المباشر.