في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، تتوجه القلوب قبل الأقدام، ويتهيأ الحُجّاج لرحلة العمر... تبدأ أولى محطات النقاء في يوم التروية، يوم تُروى فيه القلوب قبل أن تُروى الأجساد، وتبدأ خطوات السعي إلى الله بنية خالصة وقلب خاشع.
سُمّي يوم التروية بهذا الاسم لأن الحجاج في الماضي كانوا يتزوّدون فيه بالماء استعدادًا لأيام الحج التي تليه، خاصة عرفة ومزدلفة، حيث لم تكن مصادر المياه متوفرة كما هي اليوم. لكن المعنى الأعمق للتروية، هو أن المسلم يملأ قلبه بالتقوى، ويتروّى في نواياه، ويعيد ترتيب روحه قبل أن يصعد إلى عرفات.
في هذا اليوم، يُحرِم الحاج من مكانه إن لم يكن قد أحرم من قبل، ويُعلن نية الحج قائلاً:
"لبيك حجًّا"،
ثم ينطلق إلى منى، تلك الأرض التي شهدت دعوات المرسلين وخطوات الصحابة، حيث يقضي الحاج فيها يومه وليله، مصلّيًا ومكبّرًا، مستعدًا لما هو أعظم.
لا يوجد وقوف بعرفة في يوم التروية، ولا طواف أو سعي، بل هو يوم تهيئة وتأمل وراحة للجسد من عناء السفر، وراحة للروح قبل رحلة الصفاء.
هو يوم يغمره السكون، لكنه يحمل بداخله شوقًا عظيمًا، كأن الكون كله يقول للحاج: "استعد… فأنت على موعد مع الله."
ويظل يوم التروية يومًا تتنفس فيه الأرواح أولى أنفاس القرب، وتبدأ فيه رحلة خالصة عنوانها "لبيك اللهم لبيك".
هو أول العتبات نحو مغفرةٍ لا تُرد، ونحو لقاءٍ يروي ظمأ القلوب بعد طول غياب...
فيه يتجدد العهد، وتُعلن النية، وتبدأ الحكاية الجميلة بين عبدٍ أقبل، وربٍ كريم لا يرد السائلين.
فطوبى لمن لبّى، وطوبى لمن ارتوى قلبه قبل جسده، فمشى إلى منى بخطى ثابتة ونية صادقة، ينتظر غدًا أعظم... غدًا اسمه عرفة.
ودمتم بخير---