تمرّ السنوات كلمح البصر، يركض الإنسان خلف رزقه، يربي أبناءه، يتحمل مسؤوليات أثقلت قلبه قبل كتفه، ولا ينتبه إلا وقد عبر نصف العمر ووصل إلى عتبة الستين. عندها يظن البعض أن الحياة أوشكت على النهاية، بينما في الحقيقة هي بداية فصل جديد، فصل أكثر حكمة وهدوءًا وصدقًا مع النفس.
عند الستين يدرك الإنسان أن العالم لن يتوقف إن لم يتابعه، وأن الأخبار الثقيلة والمشاكل لم تعد من مسؤوليته. لقد أعطى أبناءه عصارة جهده وتجاربه، وحان الوقت أن يتفرغ لروحه، أن يمنح نفسه ما كان يحرمها منه طوال العقود الماضية.
في هذه المرحلة يصبح الرضا كلمة السر، لا جدال ولا خصومات، لا منافسة ولا لهاث خلف المناصب. إنما وقت للسلام الداخلي، للعطاء النقي، لقول كلمة شكر لمن يستحق، ولنثر البهجة في قلوب من حولك.
الستون ليست سنّ العجز، بل سنّ النضج. هي النقطة التي يبدأ فيها الإنسان ينظر للحياة بعين أهدأ وقلب أصفى، فيركز على الجانب المشرق من الناس بدلًا من تتبع عيوبهم. هي السن التي يتوقف فيها عن مطاردة السراب، ويكتفي بكنوز بسيطة: جلسة عائلية، ابتسامة صديق، صلاة خاشعة، أو دعاء صادق بين يدي الله.
ومن أجمل ما في هذه المرحلة أن يتذكر الإنسان لقاءه بربه، فيحسن صلته به، ويستعدّ لذلك اليوم العظيم. فإذا غمره الرضا، صار ما تبقى من عمره نعمة صافية، لا عبئًا ثقيلاً.
ولعل أجمل ما نتعلمه من حديث الستين، أن العمر مهما طال فهو رحلة قصيرة، وأن الحكمة ليست مرتبطة برقم بقدر ما هي مرتبطة بوعي القلب وصفاء الروح. فلا ننتظر حتى نبلغ الستين حتى نرتاح من الهموم، بل نبدأ من الآن. فالحياة لا تقاس بعدد السنين، بل بصفائها وقربنا من الله.
فلتكن أعمارنا – أينما كنا في رحلتنا – مليئة بالسلام الداخلي، والرضا بما قسم الله، والشكر على ما مضى وما هو آتٍ. حينها فقط ندرك أن الستين ليست محطة نهاية، بل بوابة لسكينة وطمأنينة ما بعدها سكينة.
بارك الله في اعماركم جميعًا ومنحكم الطمأنينة والسلام
ودمتم بخير..