أدركت "آزاد" منذ أن وطأت قدماها لنـدن أن غيابهـا في شوارعها وضواحيها وربما بين ضبابهـا قد يطول أكثـر مما يتوقع والدهـا العزيـز أو أكثـر مما تتوقع هي لنفسهـا.. .فحين حلَّقـتْ بها الطائرة من مطار القاهرة الدولي كانت أعصابها ككرة متوهجـة، رأسها يسكنـه الصداع وقد تشابكت أعصابه وتداخلت، وبات ومن الصعب فـك تداخلاتها وتشابُكاتها بأمـان، صورمتعاقبـة تجـري باستعراض خلال عينيها الزرقاوين، أقصوصات ورق ملونـة كُتبت عليها بعض إقتباسات أعجبتها من روايات وقصص قرأتها فيما سبق، فناجين متسخـة تحمل آثـار قهوة وطفايات مملوءة بأعقاب سجائر مستنفدة، لقطات مريرة من أفلام دراميـة، صورة بعيدة مشوشة لحبيب قديـم دائـم الحضـور، آضـواء، اعلانـات، مطارات، ورسومات غير مكتملـة وغير مفهومـة، بورترية كبيـر لوالدتها تهتـز ألوانـه بشـدة فلا تكاد تراهـا، كل شئ يجري بسرعـة رهيبـة بينما تحاول "آزاد" الهـرب بعيـدًا نحو جزيـرة نائيـــــــــة..
ناولتها مضيفة الطيران كوب القهوة كما طلبتـه، "سادة دوبـل"، استجمعت آزاد طاقتها لتبتسم ممتنـة، لقد جاءت القهوة في موعدها، اقتربت من قهوتها واستنشقت رائحة البُن الذكية، حاولت أن تركز ذاكرتها المجهدة في اتجاه واحد، ودون إرادتها انصرف اتجاههـا نحو عظيـم ألمِهـا"آدم الصـــوَّاف"، كانت تعرفـه جيدًا كما تعرف الأزهار صباحاتها النديـة، قـرأت كل إنتاجه الأدبي رغم غزارتـه نوعًـا قبل أن تلقـاه في معرض لوحـات لصديقٍ مشترك، وحين التقتـه هنـاك بادرت بالتحدث إليه دون حرج أو ارتباك وكأنهما صديقين قديمين جمع بينهما حب التمـرد والسيـر عكس الاتجـاة، على حد قولها إنها تعشق قطعًـا "مخالفـة القطيــــع"..
هي أنثـى الدلـو تمامًـا كما ينبغي لها، حالمة رومانسية تحتاج دومًـا إلى المشاركة رغم حضورها وقوة شخصيتها، بينما هو رجـل جوزائي ثلاثينـي، صعب المراس، مشاكس مراوغ، والأمور الرومانسية ليست من إهتماماته، وعلى الرغم من ذلك فقد تعارفا سريعًا وتآلفـا وجمعت بينهما وحـدة الطبع وربما حدتـه، غير أن آدم متمرد سخريـةً على كل ماهو شائع ودارج بينما تمرد آزاد كان في أصلـه مرحـًا وصخبًـا، إلتفتَ حولـه فوجد الجـو قد صار كئيبـا تغلفه الكُلفـة والرسميـات التي يكرهها ويتهرب منها، لا اراديًـا تحرك نحو آزاد وجذبها من يدهـا وخرج بها إلى مقهـى كبير في وسط البلـد يرتاده المثقفون والكُتاب بينما تلفتت هي حولها هنا وهناك تبحث عن سبب لهروبه المفاجئ بها من زخـم الأحداث الجارية في صالون معرض اللوحـات غيـر مكترثٍ للكـون من حولهمـا !!
:لما جئـتَ بـي إلى هنــا؟، وما هذه الموجة الرعنـاء التي حملتني عليها لتقذف بي في هذا المقهـى بالذات تجرني خلفـك جـرًا تحت المطـر دون أن تشاورني أو تسألني عما أريــد؟، مِن أين لكَ كل هذه الوقاحـة؟!
تلك كانت كلماتها التي أطلقتهـا بزمجـرة في وجهه فـور وصولهما المقهى، لم تكن أكثر من زمجـرة وانتهت، كانت عينـاه بئـرًا عميقـة سخيـة، ويـده الدافئـة التي تمسك بمعصمها بقـوه كانت كطوقِ ياسمين يحيطها في سُمـو، تمسكتْ بتمردها في كبريـاء، لكن آدم أدرك بفطنته وخبرته هشاشة هذا التمرد؛ فابتسم معتذرًا ودعاها بأدب لا يُقـاوم إلى الجلـوس، فجلست وقد تبدلت ملامحها إلى يُسـر تعلـوه بشاشـة ملائكيــــــة.
تعددت اللقـاءات وطالت الجلسـات وتتابعت المحادثات الهاتفية ليلًا والمناقشـات صباحًا، إعتـادا بعضهما البعض، يضحكان بصوت عالي تـارة ثم يبتسمان بهمس تـارة أخرى، أخبرها أن لقـاءه بها كانت فرصته الوحيدة للتمسك بالبقـاء والتمرد على الضياع..
:آزاد، أنتِ صرختـي الأخيـرة قبل أن اُولـد أو أحتضر!
بتلقائية اعتادت شـروده، زمجرتـه، هـدوءه، تقلُّباته المزاجية المتتالية في اليـوم الواحـد، كل ذلك يضيع ويتبخَّر وكأنه لم يكن فـور أن يمطرها بدفء نظراتـه ويشـد على يدهـا ثم يجذبها إلى صدره ويدفـن رأسـه الناري في عنقها الطويل؛ فتُشـع ضياءً وشررًا وحُبًـا، يُسدِّد ضرباته القوية الساحقة على سنديـان قلبها قائلًا: ليتني عرفتـكِ منذ زمن، ليتني عرفتـكِ قبل كل النسـاء لتصيري أنتِ كل النسـاء..
يُلبسها طوق الياسمين الذي أدمنتـه، يقترب ويتظاهر أنه يهمس في أذنهـا ثم يسـرق منها قُبلـة تتبعها أخرى حـارة ثم يتوهان معًـا في ثالثة حارقة كلحظة انفجار بركان كان خامـدًا، ، لقد تغلغـل "آدم" في عروقها ونفـذ إلى أعماقها السحيقـة، لمس قلبها بحروفه والتصقت حواسها به تخشى أن تفارقـه.... تعشق المرأة الرجل الذي يقتحمها يخطفها، ربَّما تقـاوم، فللمقاومة متعـة وبهجـة، لكن سرعان ما تعلـن إستسلامها طواعية وتركن بشوق إلى عواطفها التي تُحرِّكها نحو رجل تحبـه، تعشقـه، رجـل فـك شفيـراتها ودك حصونهـا المنيعـة بسلاسـة.
أرادت "آزاد" أن تعيش تلك اللحظة ألف مرة، لا تخجل من إظهارعواطفها نحوه، ولا يمل "آدم" من إعلان حاجته إليها، يكتشفان معًا المزيـد عن نفسيهما في غمرة إنهماكهما في اختبـار مشاعرهما المتدفقـة نحو بعضهما البعض، كانت عينـاه خـدرًا كالمـوت، حضوره رائـع وخياله شاسـع، لم تعرف معه الرتابـة ولا الملل، كـان حبـه شرسـًا وعنيفًا ككتاباتـه، وما أروع شراسته وهجماته، وما أجمل رعشاتها بين يديه حين تُلامس أنامله عنقها وشفتيها، لقد اجتاحها كزلزال ضرب أرضًا خصبـة.فتلونــــت في فتنـــــــة.
كانت قبله تكره الحيوانات، تشعر بالغثيان ويصيبها الإشمئزاز إذا ما لامست قطة قدمها وتُسرع بخطواتها تنهب الطريق إذا ما إقترب منها كلب، تذكر جيدًا حين أهدتها والدتها جروًا في عيـد ميلادها الرابع عشر كم إرتعبت وفرت إلى غرفتها معلنة وبوضوح إستضافتها للجرو المسكين حتى الصباح وكيف أنها أصرت على رحيله حين بزغت الشمس، لكن مع "آدم" توالت المتناقضات، وانتقلت إليها عدوى حب الحيوانات والحرص الشديد على إقتنـاء الأليـف منها، فقد ولعت "آزاد" بتبني القطط والكلاب ودُهشتْ من نفسها حين شغلها أمرهم وصارت تراهم مخلوقات جذابة تضاهي العصافير في جمالها ورقتها، ودون سابق إنذار طرق آدم بابها ذات يوم في الحادية عشر مساءً؛ ليُهديها قطة وديعة من فصيلة نادرة، أخبرها أنها تشبهها جدا، لقد استوقفته المسكينة بنظراتها وخطفت عينه وقلبه حين رآهـا متكورة في قفص حديدي لدى بائعها فأسرع إلى شرائها ليُحررها من ذاك القيـد السخيف الذي ربطه صاحب المحل حول عنقهـا، صارت "بيســو" تشاركها فراشها الوثيـر ليلًا فلا تنـام إلا إذا قفزت قطتها إلى جوارها وغاصت في حضنها، أعدت لها مقعدًا أنيقًـا في ركن جميل بجوار النافذة صيفًـا وبجوار المدفـأة شتــاءً.
بإختصار صارت "آزاد" تعشق كل طريق يوصلها إلى قلب "آدم" الذي لا يُفـوِت صوتًـا داخلها إلا ويستدرجه بلطف أو برعونة إلى مقطوعته الموسيقية الضخمة التى يعزفها على أوتـار قلبها كموسيقار بارع، معه ينتفي إحساسها بالغربة الذي طالما إحتلها منذ إستقرارها في قاهرة المعز بعد سنوات مزهرة لطفولتها وصباها في دول كثيرة تنقلت بينها، إنتهى بها المطاف آخر ثلاث سنوات إلى الخليـج، كانت في السابعة عشرة من عمرها حين قطعت دراستها في جامعة زايـد بدبي وأنهى والدها الدبلوماسي المحنك سنوات غربته الطويلة وعاد بها إلى أرض الوطن يرافقهما على نفس الطائرة تابوت خشبي يضم جثمان والدتها الحبيبة بين جنباتـه، ماتت تلك الرقيقة في الحال إثـر سكتة دماغية باغتتـها ولم تُجدي معها محاولات فريق طبي كامل حاول بكل جهـد وإخلاص تخليصها من جلطة لعينة مفاجئـــــة.
لم تشعر" آزاد" يومًا بحنيـن إلى الوطن، لم تُصِبها القشعريرة حين كانت تسمع نشيد "بلادي.. بلادي.. لكِ حبي وفؤادي"، لا تعرف الانتماءات الجغرافية ولا تعترف بها، لا تخفي مشاعرها خلف منعطف الدارج والمألوف، لا تؤمن بالمتوقع والواجب، ولا تتحرج حين يعاتبها بعض أفراد الجالية الدبلوماسية وينكرون عليها جهلها ببعض الفترات من تاريخ مصر الذي لم تدرسه ولم تقـرأ عنـه، فهي لم تعرف عن مصر أكثر من حصيلة مجموع الثلاثين يومًـا التي تقضيها مع أسرتها كإجازة هناك كلَّما سمحت الظروف، ينقضي نصفها في السفر بين شرم الشيخ والغردقة وفي آخر السنوات صارت الجونة مقـرًا رسميًـا لثُلثي الإجازة، ثم فجأة أصبحت هذه الأرض سكنها وموطنها، تسير في الشوارع فترى أشباحًا مبهمة من أُنـاس لا تربطها بهم روابط ولا تجمعها بهم ذكريات، أناس إنقطعت صلتها بهم رغم أنها تتوسطهم، تبدو فتاة شابة تجري الدماء بحيوية داخل عروقها بينما هي داخليًـا ميتة منذ أمد بعيد، تخشى أي شعور إنساني يجمعها بأحدهم، تهرب من أي عاطفة قد تولد وتنبت في قلبها تجاه الأماكن أو الأشخاص، فكل شيء مصيره إلى رحيـل، وكل علاقة مصيرها إلى زوال، علَّمتها غربتها مع والديها وتنقلها الدائم معهما من بلد إلى آخـر ومن مدينة إلى آخرى أن لا جـذور تبقى ولا صلات تستمر؛ فتساوى عندها الشعور بالدفء والبرودة، فلم تعد تحزن على فراق أحد، ولا تفرح لبقاء أحد، فقط تمتلك حسًا عاليًـا بالأدب وتتذوقـه بتمتع وهذا يكفيها ويُغنيها عن علاقات بالبشر لا طائل من الإنخراط فيها بعدما قاست لوعة فراق الجيران والاصدقاء حين يـدق جرس حركة الانتقالات الدبلوماسية معلنًـا الرحيـل من هنـا إلى هنـاك وفق أوامر عليـا لا يملك والدها أمامها سوى الطاعـة وحتمية الاستجابـة، هذا كله يجري وسيادة السفير يقف عن قرب يراقبها في صمت وخوف من تقوقع ابنته الوحيدة وتلحفها بنيران الوحدة والإغتراب، فآزاد تقف تائهة وسط طريقٍ مبهـم، تسدد وحيدة ثمن غربتها وتدفع الغرامات نظير إختلافها وتفردهــا.
كل ذلك وأكثر حتى قابلت "آدم الصوَّاف" على صفحات روايته الأولى، وتنبَّهت حواسها إلى عشق جميل تسرَّب داخلها لذلك الساحر الذي لم تكن قد رأتـه بعد، ذاك الرجل المتخم بالتمرد، المعجون بالإختلاف، أحسَّت فجأة بأن قلبها بـدأ ينبض بالحياة حين ردَّ على رسالتها التي أرسلتها له على صفحته الشخصية في الفيس بوك، فلم يكُـن من عادتـه أن يُجيب كما لم يكـن من عادتها أن تُراسل أحـدًا!
ثم انخرطا في تبادل رشيق للرسائل على فترات متباعدة فتأتي رسالتها له كل مرة وكأنها غيث فيَّاض من سلام يفتقـده، ويأتيها رده في استجابة سريعة كأنه دفقـة من حضور ينقصهـا حتى كان لقاءهما الأول الذي جـاء صاخبـًا كـآدم، ناديًـاً كـآزاد، حينها فقط هطل المطر الدافئ على أرواحهما المقفرة يغسل عنهما بقايـا إحتراق داخلي كان قد سكنهما..