ازدردت "ماليكـا" ريقها، شعرت بجفاف وغصة تكاد تمزق أحبالها الصوتية، أشار د. بهـاء إلى كوب ماء كبير يستقر فوق طاولة خشبية بجوارها، تنبهت "ماليكا" لوجود الكأس وكأنها تراها للمرة الأولى، تجرعت أكثر من نصفه على شربة واحدة ثم تناولته كليا بنهم كمسافر عبر صحراء ثقيلة الظل انقطعت صلته بكل ما هو حـي، ثم اعتدلت وتمددت مرة أخرى على الشيزلونج وعاودت تقول: انتهيتُ من أمي ولم يرجف لي جفن، تركتها حزينة، مستسلمة لإحساس بالضياع أو الفشل، لا أعلــــم، ولم أهتـــم، أما بقية حكايتي فكانت كالآتــــي: 

كارمـن أشرف الشربتلي ( أختـــــي).

من المقبول أن تكون هناك فتاة جميلة وأن تكون أختها أقل منها جمالًا، لكن من المزعج أن تكون إحداهما فائقة الجمال والأخرى جمالها عادي لا يلفت إليها الأنظار، هكذا كانت "كارمن" وهكذا كنتُ أنا، جاءت "كراميلا" إلى الدنيا تحمل ملامح أمنا الجميلة الفاتنة في حين جئتُ أنا نسخة مكررة من والدي على هيئة أنثـى، الجميع يشهق عند رؤية كارمن ويشيحون عند رؤيتي، أدركتُ الفارق وعرفتُه منذ وصول كراميلا دنيانا وأنا في الثامنة من عمري؛ فكرهتُ الناس وكرهتها، وتمثلت جريمتها في نظري في كراهيتي الشديدة للناس بسببها، جعلتني أرى أسوأ ما في البشر، تنمرهم واستخفافهم بشعور غيرهم... كرَّت السنون متوالية وأيقنتُ ميزات كارمن الكثيرة وجمال صفاتها، فهي متفائلة وأنا متشائمة، هي حسنة النية وأنا أتوقع دومًا الأسوأ، ترى البشر أخيارًا وأراهم أنا أشرارًا، صافية الذهن وأنا مشوشة، مرتبة تتمتع بحب والديها، وأنا مهرجلة لا والد لي ووالدها خطف مني أمي وسرق ذكريات أبي!

أدركتُ أن أسوأ البشر هم الرجال الذين يتساقطون عند قدمي كراميلا بلا كرامة، يتملكهم إعجاب فني بتلك اللوحة الفاتنة المرسومة بدقة وعناية في ملامحها وقدها المياس، كانت كارمن أجمل لوحة ربانية يُمكن أن تقع عليها عينا بشـر، أحبت "شادي" جدًا، وقبلت الخطبة بسعادة بالغة تبعها زفاف سريع ذبحني، تزوجت وأنا لم يطرق بابي خاطبًا بعد، كان رسامًا رأى فيها أقصى درجات الكمال المطلق الذي يتجسد بفعل القدرة الإلهية. 

انهمك "شادي" بمرو الأيام في لوحاته ورسوماته ومعارضه، فروح الفنان لا تطيق الالتزام بمكان واحد وعمل واحد، غايته الحرية وأن يكون كل شئ مباحًا ومتاحًا في سبيل خدمة موهبته وشهرته، أهمل "كارمن" لبعض الوقت بينما أختي تملك قدرًا من التعالي جعلها شحيحة في التعبير عن مشاعرها الغاضبة جراء انصراف زوجها عنها، فرَّغت شحنة غضبها في إهمال مضاد لمتاعة لوحاته وقللت من الثناء على موهبته ورسمه وألوانه، ولاح لي المنفـذ أخيرًا ولمعت في عينيَّ لمعة النصــــر.

أردتُ أن يكون لآرائي وزنًـا فقرأتُ كثيرًا في الفنون والألوان وتاريخ الحركة الفنية، كلمته بانبهار عن فنه ورسوماته وحداثه أسلوبه، أتقنتُ فن الكذب وغذيتُ الأنا داخل وجدانه، أخبرته مرارًا أنه أعظم فنان في العالم، خليفة بيكاسو وفان جوخ، بل هو ملهم من السماء، استسلم "شادي" كطفلٍ إلى كلماتي، وانتفخ سرورًا وامتلأ اعتدادًا بنفسه، عزفتُ أنا على أوتار نفسه ألحانًا راقصة جعلته يمشي زهوًا ويتحرك اختيالًا.

ما كان يعيقني فعلًا هو الخطوة الأخيرة، السقـــــوط، كيف يتسنى لي أن أُسقط فنانًا هو أقرب للرومانسية وبعيد عن شهوة الجسد، تفتق عقلي الشرير أن أربط بين إبداعاته الفنية وبين العشق الجسدي، حدثته طويلًا أن في الجنس جمالًا يكشف عن جمال الأرواح فحين تتلاصق الأجساد تتصل الأرواح فعليًا.

أكثرتُ من الحديث عن التحرر وجمال الحرية التي تُميز المجتمعات الغربية فتمنحهم الطاقة اللازمة لتحقيق الإبداع والتحليق عاليًـا نحو الكمال الفني، طالبته أن يرسمني شبه عارية، جمعنا مرسم واحد، وفي غفلة من وعيـه أدعيتُ تشوق روحي لروحه، اقتربتُ أكثر وأكثر فلم يحتمل إغوائي وضغطي طويلًا، وجاء السقوط حين التصقت الأجساد.

كان الأمر برمته مدبرًا وشاهدت كارمن المشهد الذي أردتُها أن تشاهده، أدرتُ الواقعة وكأنها اغتصاب وصدقتني أختي المسكينة، تطلقت "كراميلا" وعادت تجر هزيمتها وخسارتها التي تحملها فوق رأسها، يُعذب روحها ألـم عميق منبعه ليست فقط خسارتها لشادي وخيانته، فالخيانة أمر وارد من الرجال لكن لأن ذلك الخائن أذى شقيقتها، هكذا انتزعتُ السكين الثاني من روحي وغرسته في روح أختي الجميلة ذات الإثنين وعشرين خريفًــــــا.

أما كنـزي هشام الشـواف ( صديقتـي).

فكان لها عبير خاص تنثره أينما حلت، ليس جمالًا بخطف العيون وليس أنوثة تأسر القلوب، لكنه روح مرحة بسيطة ذكية منطلقة تضج بها ضحكة بلايئة متوثبة، تفرض تلك الأرواح ريحانُها على كل رجل تملكها فتملكه، هكذا عُرفت كنزي الشواف، شئ ما يشع من دواخلها فيمسك بتلابيب روح الرجل فلا يمكنه الابتعاد عن مدارها، فلكنزي عذوبة خاصة وذاك كان سـر فتنتهـــا.

كنت أشعر أني ألهث خلفها وكأنها تجري وأنا أحاول اللحاق بها، كنزي متقدمة عني كثيرًا والمسافة بيننا شاسعة، أقف وأتسائل: أين أنا منها؟ وأينما كنا معًا كانت تسحق وجودي فلا ظل لي ولا وجود طالما هي معي، محَتني دون رغبتها، ودون تعمد، لا ذنب لها ولا ذنب لي، لكني لم أسامحها على تلاشٍ يُصيبني بجوارها، لا أحاسبها على نيتها لكنني أحاسبها وأعاقبها على أثرها على حياتي، فأنا لستُ من الآلهة، أنا إنسانة حُرمت جمال الروح فكيف إذن تكون لي روح بريئـــة؟

قربتني كنزي من حياتها كثيرًا ربما ليقينها بانعدام قدرتي على منافستها، فلا إمكانيات خاصة أملكها تخدمني في هذا الغرض، تزوجت "كنزي" برجل أعمال شاب، مراقبتي المستمرة لِ"مَالك" جعلتني أتعرف على الطريق السري الذي سأسلكه لامتلاكه، كان مؤمنًا أن التقدير المادي هو خير تعبير عن الإعجاب، فمستوى الهدية المادي وثمنها دليل على تقدير الهادي للمُهدى إليه واهتمامه به، لذا تعمدتُ إهداءه سرًا هدايا ثمينة كلفتني الكثير، فالسرية تجعل للأمر مذاقًا خاصًا شهيًا إذ أنها تحمل معاني خفية يفوح منها الإعجاب الشخصي ومحاولة مـد الجذور الغير مرئية لتحقيق مزيد من الاقتراب والخصوصية، يُصاحب ذلك امتداحي لذكائه وعبقريته وفطنته وحسن إدارته لأمواله وقد صدَّق المغفل انه أذكى رجل في عالم البزنس، عرض عليَّ العمل معه إعجابًا بشخصيتي لا بمستواي العلمي أو حُسن إدارتي للعمل، هكذا أخبرني فلم أنفعل لتحقيره لتعليمي وعملي بل أظهرتُ إيثارًا و امتنانًا لصدقه وذكائه، ونشأت بيننا علاقة أرادها كاملة يكل ما للكلمة من معنى، فكان له ما أراد؛ فكله يهون في سبيل انتزاع السكين الثالث من لُب الجرح، قدَّمتُ الخطوة الأخيرة ليسقط في الهوة السحيقة وتسقط "كنزي" من بعده وتنتهي علاقتهما وهذا يُرضيني جدًا.

كانت نشوتي الحقيقية ليست في تخريب بيت صديقتي بل لأن تلك المصيبة على حد قولها كانت بفعل يدي، أنا من دبرتُ وخططتُ وفعلتُ معها ما فعلته من قبل مع أمي وأختي، أنا التي تجاهلتوها وقيدتوها في أصفاد الهزيمة والخيبة وجلدتوها بسياط النبـذ والتقليل والاستهتار، أنا الشـر الكامن في الأعماق، أنا الشيطانة الرجيمة، القوة التي لا تُقهر، أنا التي أذلت الرجال وأركعتهم، "أشرف" و"شادي" و"مالك"، أنا التي أحرقت قلوب النساء، "سيفين" و"كارمن" و"كنزي" اللاتي قضينَ بإعدامي حيـــــــة!

ولكن ثمة سؤال يؤرقني ويُسهد عينيّ: ماذا بعـــــــــــــــــــــد؟!

ربما لا شئ البتة أو ربما أحاول تحسين نفسي ليُدركني إعجاب رجل يكون لي وحدي بعد تطهري من دنس شروري وإن كنتُ لا أميل بحق إلى الرجال، ربما لأنه تم بالفعل فضُ بكارة إحساسي والإجهاز عليّ مبكرًا فصارت الحياة والموت عندي سـواء.

أنهت ماليكـا حديثها، ولنقُل "مرارتها" كما تشاء دومًا أن تُسميها، شتان الفارق بين أحاسيسها حين شرعت تحكي، حين طرحت على مسامع طبيبها الصبور، ذو الابتسامة المريحة وبين تلك الأحاسيس التي شعرتها حين أفرغت جعبتها؛ فقد وضعت عن كاهليها جبال الصمت وأوتاد الضجر التي عانتهما لسنوات، كان طبيبها أمينًا معها إلى أقصى حـد، أخبرها أن نجاتها تكمن في قبول نفسها على ما هي عليه والتأقلم مع ماض يؤرقها ولا تستطيع استعادته لتصحيح ما كان، القبول والتأقلم سيساعدانها على التخلص من ألمها ومعاناتها وسيدعمان قدرتها على التكيف والدفع بها في طريق سليم، ستشعر بمزيد من الثقة في نفسها وستأتيها الراحة بمرور الوقت، أخبرها أنها ستشعر بالضيق في بعض الأحيان لكنها لن تكون أبدًا وحيدة، سيكونان معًا، وسيضحكان في النهاية على كل تلك الذكريات المؤلمة النارية لكنها على كل حال قد حققت خطوتها الأولى نحو التحرر من أصلاف طال بقاؤها فيها بشجاعة، عبرت تلك الليالي التي اهتز بدنها النحيف خلالها بموجات من البكاء والتنهد، سترفع رأسها فخرًا بذاتٍ خلصتها من الذنب والدنس.

أخبرها د. "بهاء" أن جميع البشر خطائون وأن خير الخطائين التوابون، وأن لا ملائكة على الأرض ولا قديسون... أجهشت "ماليكـا" بالبكاء، خنقتها غصة المرار والندم والشعور بالقذارة، ربت الطبيب على كفها النحيل ذي الاصابع الطويلة المتعرقة وقد أمعن التركيز في روحها قائلًا:- يكفيكِ شرفًـا ونبلًا أنكِ اعترفتِ لذاتك بما كان، وما كان قد كان، إن ما تعانينه الآن ليس أكثر من أعراض التعافي، وهي أعراض تشبه أعراض الانسحاب من التعاطي، صدقيني ماليكـا كل ما عليكِ الآن هو استجماع كل ذرة في وجودكِ لتكوني أفضل.

انتهت الخمسة وأربعون دقيقة مدة جلسة آنسة/ ماليكـا حسن الدرزاوي، ذات الجسد المنهك بالتجربة والمحاولات الصعبة للخروج من حالتها المزاجية السيئة، تلك التي سيطرت الهواجس والمخاوف عليها حين عانت فقدًا أحرق نفسها... وأي فقـــــد؟ ... إنه فقد الذات التي استحالت ركامًا بهدما أحرقها الغضبوالغيرة والكراهية..

وعدت طبيبها بالالتزام بروشتة العلاج الدوائي والأهم من ذلك مواظبتها على مواعيد جلسات تعديل السلوك، وياليتها تفعـــــــــــــــــــل، فما أصعب أن يكره المرء ذاتــــه..

القصة من المجموعة القصصية "تنهـــــدات حــــارة" الصادرة ورقيًـــا في 2019م