( الجـزء الثانــــــــي)
مازالت "ماليكـا الدرزاوي" تتابع حديثًـا استرسل من داخل عقلها الباطن، تلقي ما تلقي أمام طبيبها د. بهـاء النشوقاتـي.
تنهدت تقول: هل يتخذ الإنسان قراره بالتحول إلى شيطان أم أنه أمر تلقائي بفعل الأحداث الجِسام التي تمر به فتُحطم إنسانيته وتسحقها داخله؟
أعتقد أن لا إنسان يولد شيطانًا، بل يصير كذلك بإرادته حين تنزع منه إنسانيته بفعل إنسان آخر؛ يسكنه ألم شديد يعتصر روحه، ألم بشع لا يصدر عن ذبح أو إزهاق الروح ذاتها، فلا يستطيع الإنسان حينها أن يحتفظ بإنسانيته في ظل هذا الفزع وهذا الهــــــــول.
إنها بصمة الشر التي تتسرب داخله فتُسكِن ضميره فيؤلِم كما تألم ويجرح كما جُرح وليذبح كما ذُبِــــح، بإختصار إنها ميكانيكية الألم المضاد، فلا تخف حدة آلام أصابت إنسانًـا إلا بإحداث آلام مقابلة مساوية في القوة ومضادة في الاتجاه، قانون يحكم الإنسان كما يحكم الطبيعة، لكل فعل ردة فعل، لا يهم إن كان الفعل قصدًا أو عن غير قصد، الأهم هو عُمق الألم الصادر عنه، وعليه تتحدد ردة الفعل وعُنفهـا.
هكذا وجدتُ الشـر يملأني وقواه تُحركني ضد النساء الثلاث اللاتي دمرن حياتي، أمـي وأختـي وصديقتـي!!
وإليكَ يا طبيبي حكايتي مع كل منهن على حِـدا.
سِيفيــــن كامل الهلالي ( أمـــــــي).
أمي الجميلة جدًا، البلورية ذات البشرة البيضاء وكأنها نُحِتت من ثلج، تنحدر من أصول كُردية خالصة امتزجت بأبناء النيل الخصب لعدة أجيال متعاقبة فجاءت سيفين تنتمي إلى وادي النيل قلبًـا وقالبًـا لكنها فقط تحملُ اسمًا لقرية كردية حاول العثمانيون تدميرها ثلاث مرات إلا أنه أُعيد بناءها فغدت واحة غنَّـاء، تلك القرية كانت مشهورة بالتفاح والتربة الخصبة جدًا، ففي اللغة الكردية "سيفين" تعني التفاح.
جاءت أمي إلى دنيانا وهي تفيض عذوبة وحنانًـا، أحبت أبي "حسن الدرزاوي" حبًـا خالصًا، أحبته أكثر مما أحبتني، أغرقته بعواطفها التي لا مثيل لها، آمن هو بأنها نوع مختلف من النساء لا مثيل له، سكب كل عواطفه في اتجاهها فلم تترك لي نافذة واحدة أُطل منها على قلب أبي، لم يكن في حاجة إلى عواطف أخرى تأتيه من اتجاه مختلف حتى لو كانت عواطف ابنته، غدوتُ كالغريب بينهما وما أصعب أن تكون غريبًـا في بيتك وعالمك!
وما أسوأ أن تشعر بأن أمك تحبك أقل مما تحتاج أنت!
وما أشقى ألا يحتاج أبوك إلى حبك!
والأكثر إجحافًـا ألا يُتاح لك التعبير عن مشاعرك فتختزلها وتكبتها حتى تصير عبئًـا يُثقل كاهلك فتشعر حتمًـا بالاختناق وكأنك على وشك الموت بل أنك تموت فعلًا كل يوم من جديـد!
ومات أبي فجأة، أحزنني موته رغمًا عن ذلك شغلني شعوري بالشماتة تجاه أمي، كانت "سيفين" صغيرة وجميلة، أربكها موت حبيبها، أول رجل قطف بكارة قلبها واحتل عقلها، كفلها صديقه المقرب "أشرف الشربتلي" في كنفه، اعتنى بها عناية تفوق الوصف، هدهد مشاعرها، ربت على حزنها بتروي ولطف، تزوجته بعد بضع سنوات بعين العقل وبدافع التعود والاحتياج.
كان أشرف يكبرها بعشر سنوات على الأقل، رجل عاقل متزن وملتزم أخلاقيًـا، قبلها كان عازفا عن الزواج منصرف عن النساء برغبته، عاملني بود واحترام كابنته ولم يصدر عنه أبدًا ما قد يُساء فهمه، وبمرور الأيام تعلقت أمي به تعلقًا شديدًا، أدركتُ أن هذه المرة لا يحق لي منافستها على قلبه ولا الشعور بالغيرة بسبب ما يشملها به من حب ورعاية، فهو لم يكن أبي على أي حال، ولم أتوقع منه حبًـا أبويًـا ولا يحق له أن يتوقع مني أي مشاعر إيجابية تجاهه، كل ما كان يخشاه أن أحمل له بعض المشاعر السلبية لأنه حل محل صديقه العزيز في حياتنا....
أخذ مكانه في البيت بصورة طبيعية كزوج حتى أن صورة زفاف أبي وأمي أزيلت من على جدار غرفة المعيشة وحل محلها تابلوة كبير رُسم للعروسين آثناء زيارتهما لبحيرة قارون في أسبوع العسل، اغتظتُ لهذا الوضع الجديد الذي لم يتح لي أي حقوق أو امتيازات تمامًا مثلما كان وضعي القديم، هنا نبتت أول نبتة شـر داخلي، بدأتُ أحدِّث "أشرف" كثيرًا عن نفسه، تدريجيًا جعلته يصدق أنه أفضل الرجال وأعقلهم بل وأكثرهم حكمة، ورغم بلوغه الخمسين إلا أنه يبدو شابًا وسيمًا، قوامه الرياضي الممشوق يجذب إليه الصغيرات وهو جدير بحبهن حقًـا، تمامًا ك"عمرو دياب" كلما مر عليه يوم صغُر عام، حكيتُ له حكايات كثيرة وهمية كاذبة عن بعض صديقاتي الصغيرات مثلي اللاتي تعلقن برجال في مثل عمره، وضعتُ يدي على نقطة ضعفه الأساسية، ف"أشرف" يجزع من تقدمه في العمر، ضربتُ برقة ونعومة على هذا الوتـر الحساس.
ألهبتُ خياله بلساني وروحي وحركاتي وبحكايات مثيرة نابضة بالعنفوان والشهوة؛ فتهاوى قناع الحكمة وتزلزل الوجدان المُتزن وخار الجسد المتماسك؛ سقط الرجل سقطة مدوية، حينها شعرتُ أني انتزعتُ سكينًـا من تلك التي غُرست في صدري وغرستُها مجددًا في صدر أمي الجميلة "سيفين الهلالي"، ذبحتُها تمامًا حين دبرتُ موقفًا جعلها تتصور أن الرجل المتزن الحكيم يحاول اغتصابي، صُدمت أمي وحصلت على الطلاق حين أرهبت زوجها مُهددة بالتشهير به في عمله وبين أسرته، عادت بعدها إلى أحزانها منطوية تنزف دمًـا من روحها المذبوحة بسكيني التَّلـم، هكذا انتصرتُ دون أن أرحم ماما، دون أن أمنحها كامل فرصتها في الحصول على السعادة، ف"مليكـا الدرزاوي" تنتصر دومًـــــا!
فهل اغتصبني زوج أمي أو حاول حقًا اغتصابي؟... أقسم أنه لم يفعل ولم يحاول ولم يُفكـر، فقط كانت رجولته تقتات على حكاياتي وإيحاءاتي وإيماءاتي، مغامرة يحاول بها إلهاب فكره، مغامرة تليق بحجم خوفه من أن يكبر ويشيخ، ينكمش، ثم يندثـر إلى الأبــــــد..
إلى اللقاء والجزء التالـــــث قريبــًـــــــــا.