شياطيــــــن الإنــــــــس
(مستوحاة من قصة حقيقيـة)
القاهرة شتاءً لا تبدو كئيبــة أبدًا رغم برودة الطقس وانتشار السحب، تلك الأقطان البيضاء كثوب عروس أنيق، الرياح هادئة نوعًــا وكأن الشتاء فصلًا زائفًـا لا يألف استيطان تلك المدينة الحارة بتفاصيلها المزدحمة رغم اتساعهـا.
صعدت "ماليكـا" درجات السلـم ببطء، لم ترغب في استخدام المصعد فهي من أعدائه، لا تؤمن بالعجلة في الوصول إلى الأهداف، فالتروي مطلوب، بل هو أفضل الطرق وآمنها للوصول إلى ما نبغــــي، فالطعام المطبوخ على مهـل يثقـل الطعم ويضبط النكهـــة.
حيَّــت الممرضة البشوشة رغم روتينية عملها، كانت جالسة في استقامة تُحسد عليها خلف مكتب الاستقبال، بادلتها الآنسة التحية، ثم أشارت إلى غرفة "د. بهـاء الدين النشوقاتي" قائلة: د. بهـاء في انتظارك سيدتـي.
كم تمنت "ماليكـا" لو أن الممرضة توقفت عن مناداتها بتلك الكلمة السخيفة " سيدتـي" تُفضل عنها كثيرًا كلمة " آنستـي".. إنها كلمة آمنـة تُشعرها أن عجلة الزمن لم تــدُر أبدًا !
مضـى أكثر من شهر بعد آخر زيارة لها، حينها كانت منفعلة ومتوترة بعض الشئ ولم تتمكن من الإجابة بالتركيز المطلوب على استفسارات طبيبها الذي آتتـــه طواعية بحثًـا عن مهرب ونجاة من الكوابيس الليلية اللعينة التي لا تفارقها، كما أن الأمر قد تطر كثيرًا في الأسابيع القليلة الماضية تطورًا أربكها وغرس الخوف في شرايينها والقلق في أوردتها، باتت تعاني من ضيق في التنفس وركود وعدم القدرة على إنجاز مهام معينة رغم بساطتها، لم تتحل حينها بالشجاعة ولا بالصدق الضروريان للإجهاز على قلقها وتوترها، وهما الركيزة الأساسية في شفاء ترجوه رغم أن د. بهـاء عرف كيف يُضفـي بعض الطمأنينة على الحوار، فطبيب ماهر مثله يعرف أن فتـاةً مريضة كماليكـا تشتاق لكثير من الحنان والدفء الضائعين في غربـة نفسية لا تُطاق، وكيف أنها واجهت صراعًـا نفسيًا اقتحمها وألمًـا عقليًـا لا يطاق غـزا وجدانها حتى حضرت خصيصًا إلى عيادته تحت وطأة الحاجة للخلاص من أزمة نفسية لا ترحــــم.
استقبلها الطبيب بابتسامته الهادئة وقدَّم لها مشروبًـا دافئًـا أضفى على الجلسة مودة ضرورية ثم قال:- لن أسألكِ اليوم عن أي تفاصيل يا ماليكـا، سأستمع فقط إلى ما تودينَ إخباري به، يمكنكِ الوثوق فيَّ على أي حال، فما سيخرج من فمكِ هنا أي ما كان لن تسمعه آذانُ غيري.
:- ألا ترى الأمر غريب يا دكتور؟، أتركُ عيادتك غاضبة آخر مرة ثم تسوقني قدماي إليها هذه المرة فآتيها طواعية وبكامل إرادتي؟!
:- ليس بالغريب أبدًا، تلك المرة لم يكن وقت البوح قد حان بعد، أما الآن فالأمر مختلف، سننسى ما كان ونبدأ من جديـــد.
مــدَّ الطبيب يده مصافحًا مريضته وابتسامته تعلو شفتيه قائلًا:- مرحبًـــا...كيف حالكِ اليـوم ماليكـا؟
تمددت ماليكـا بجسدها أمامه على المقعد الخاص بالمرضى ( الشيزلونج) وأشارت إلى الإضاءة التي خفضها د. بهـاء، ثم ما لبثت أنغام الموسيقى الهادئة أن تنبعث من ركن الغرفة واسترسلت تقصُّ روايتها، فقالت:-
أعشق الكذب وأجيده كما يجيـد العازف تحريك أصابعه على البيانو بسلاسة وبراعة، لا تقوم لي شعرة ولا يتحرك لي جفن وأنا اكذب، تظل أنفاسي هادئة وقلبي مُغلَّف بأغلظ الحجارة فلا إحساس يخرج منه ولا شعور يدخل إليه، يتهدج صوتي تبعًـا لمقتضيات كذبي ليُشاركني معزوفة الكذب فيتأثر مَن يسمعني ويقع تحت تأثيري ويقتنع بكل ما أردتُ زرعه داخل عقله رغم المغالطات، إنها موهبة أو براعة أملكها وأتلاعب بها فأصِل إلى أهدافي في أقصر وقت وبأقل مجهود.
الحكاية فـن أجيده، أطرِّز حكاياتي بالتشويق وأُزينُها بالإبهار، أمسك بقلب وعقل سامعي بين أناملي، فيغدو مستسلمًا في وداعة تمامًا كما تفعل شهرزاد بالخفيف شهريار.
متعتي الحقيقية هي أن أرى سامعي مخدوعًـا شغوفًـا بروايتي، في غاية التأثر من شدة تصديقي؛ فيحققَ ذلك لي نشـوة كبرى تسري في عروقي!
تستطيع أن تصفني قائلًا:- "ماليكـا الدرزاوي"، الأنثى التي تنتصر دومًا في البداية، نعـــم أنا هي، أتلذذ بضحاياي من الرجال، أقنع الرجل منهم أن حبي له حب عبادة، لم تشرق شمس على حب مثله من قبل، أُشعِره أنه أعظم رجل في الدنيا، ملكٌ متوج ليس قبله ولا بعده، أُعظِّم الأنا داخله، إنه أسطورة عصره وسلطان زمانه فتنتفخ أوداجه عـزةً وابتهاجًا ثم يتهاوى أمامي كما تتهاوى أوراق الشجر الصفراء الباهتة، لقد سحرتُ لُبَّـه ونفذتُ إليه كسهمٍ مارقٍ من نقطة ضعف كل الرجال، فكلهم في احتياج شديد إلى وهـم كبير ملون زاهي، وهي أن امرأة تعجب به وتحبه وتفضله عن الجميع لأنه أفضل بني جنسه على الإطلاق، فعقدة أي رجل هي إحساسه بالنقص أمام أقرانـه. يعرف في دخله أن هناك دومًا رجلًا آخر يفضُله في شئ، ربما كثرة المال أو قوة العضلات، صغر السن أو الوسامة، عبقرية التفكير أو حداثة الأسلوب، أو يفضُله في عمق رجولته، في قدرته الجنسية!
فكثير من الرجال يظن واهمًا أنه إذا امتلك هذه القدرة باقتدار مطلق تُصاحبها قوة كامنة في الآداء العاصف ببراعة في أي وقت وتحت أي ظرف فإن المرأة أي امرأة ستخضع له خضوع العبيد وستتشبث بأطراف جلبابه، ستتلوى أمامه في الفراش كحية ملتهبة، تتمرغ في التراب الذي يطؤه نعله، تروح تناديـه وتنادي فحولتـه!
أما أنا فتلخصت قدرتي الكامنة على السيطرة وبكل قوة على أهم ثلاثة رجال عرفتهم في حياتي، ربما كانت قدرتي سـر نعيمي وشقائي في آن واحد، في الحقيقة لم أسـع إليهم لرغبة عاطفية أو ما شابه بل لعلاج جرح قديم غائر في نفسي ولإطفاء جذوة نـار مشتعلة في أحشائي بلا هوادة، نـار جعلتني أندفع باحثة عن سيطرة كاملة لي على رجال لا يهمونني أنـا، بل لأن ثلاث نساء غيري يتعلقن بهم حـد الهـــوس.
لم يكن أي رجل منهم يعنيني وإنما امرأته كانت غايتي وهدفـي!
كل امرأة منهن حطمتني بطريقتها ودفعتني في اتجاهٍ ما سواء قصدت أم لم تقصد عُدتُ وانتقمت منها في رجُلها، لا يعنيني ما صارت عليه الأمور وما جاءت به التبعات، ما يخصني هو الأثر الدامي للفعل، قدرتي على الانتقام بعد أن تـم ذبحــــــي!
فالنساء الثلاث قُمن بذبحي ثلاث مرات حتى أجهزن عليَّ كليًـا فصرتُ حطامًا لإمرأة مشوهة العقل مدمرة الوجدان، أتدحرج ككرة النـار تحرق كل ما في طريقها من أخضر ويابس، تحولتُ إلى شيطان، كرهتُ الخير وأدمنتُ الشر، أسدد ضرباتٍ موجعة فيشقى الذين يقعون في محيط ضرباتي، فقط كنتُ أتسائل:- هل يتخذ الإنسان قراره بالتحول إلى شيطان أم أنه أمر تلقائي بفعل الأحداث الجِسام التي تمر به فتُحطم إنسانيته وتسحقها داخله؟
أعتقد أن لا إنسان يولد شيطانًا، بل يصير كذلك بإرادته حين تنزع منه إنسانيته بفعل إنسان آخر؛ يسكنه ألم شديد يعتصر روحه، ألم بشع لا يصدر عن ذبح أو إزهاق الروح ذاتها، فلا يستطيع الإنسان حينها أن يحتفظ بإنسانيته في ظل هذا الفزع وهذا الهــــــــول.
إنها بصمة الشر التي تتسرب داخله فتُسكِن ضميره فيؤلِم كما تألم ويجرح كما جُرح وليذبح كما ذُبِــــح، بإختصار إنها ميكانيكية الألم المضاد، فلا تخف حدة آلام أصابت إنسانًـا إلا بإحداث آلام مقابلة مساوية في القوة ومضادة في الاتجاه، قانون يحكم الإنسان كما يحكم الطبيعة، لكل فعل ردة فعل، لا يهم إن كان الفعل قصدًا أو عن غير قصد، الأهم هو عُمق الألم الصادر عنه، وعليه تتحدد ردة الفعل وعُنفهـا.
هكذا وجدتُ الشـر يملأني وقواه تُحركني ضد النساء الثلاث اللاتي دمرن حياتي، أمـي وأختـي وصديقتـي!!
وإليكَ يا طبيبي حكايتي مع كل منهن على حِـدا.
إلى اللقـــاء والجزء الثانـــي قريبًـــــا.