ما أقسى الحياة حين نكره مَن نعشق، حين نُجادل مشاعرنا ونُدمي قلوبنا ونُشقي أنفسنا، نختار الفشل هربًـا ممن نحب، نقضي أيامنا في صحبة الألم والحسرة والوجع ونرتضي ذلك صاغرين...
رهــــــــــــــــــــــف
( الجزء الثالــث):
صرتُ أذهب لصالون التجميل أطلب من مصفف الشعر تغييرلون شعري أو قصّه لأبدو مختلفة وكأنني أغير جلدي وأنسلخ من فشلي، فالأمر يساعدني كثيرًا على مقاومة أي مشاعر سلبية تتربص بي أو أي أفكار باهتة تجتاحني تجاه نفسي أو تجاه توأمي الحبيب التي حققت نجاحًا باهرًا على المستويات كافة، في سنوات قليلة أصبحت صحفية مشهورة يُشار لها بالبنان، تزوجت ممن تُحب، "كريــــم العناني" أشهر مذيعي برامج التوك شو، وها هي تحمل جنينه القادم إلى الحياة بعد بضعة أشهر، أما أنا فلم أحقق شيئًا البتـه..
يتسلل الألم إلى روحي الباهتة كلما أدركتُ ما آل إليه حالي، اقتربت من الخامسة والثلاثين ولم أتزوج بعد، حتى الرجل الوحيد الذي أحببته حقًا بكل جوارحي وتمنيته لسنوات تزوج بأخرى، تــزوج رهــــــــــف!
أما في العمل، فأنا أفشل موظفة على الإطلاق، موظفة بلا أي بصمة، أؤمن أن منغصات العمل جزء من نصيبي التعس الذي يلاحقني في إصرار أينما ذهبت، أحيانًا أتمرد على إحساسي بالفشل والعجز، أرفض أن أكون تابعة لأحد؛ فأحاول ترك بصمتي الشخصية على هذا الأمر أو ذاك فأصطدم برأي أحدهم، فلا أجد في نفسي شجاعة رهـف التي تمكنها من المواجهة والإقدام على ما تريد حتى تدركه، لا أملك جرأة الدفاع عن رأيي أو رؤيتي للأمر؛ فأنسحب سريعًا قبل أن تدركني آثـار المعركة وقبل أن تصلني أي تجاوزات كلامية من هذا أو ذاك..
أما إذا عاملني أحدهم بلطف وتودد أتأمل علاقتي به فأجد أنه يعاملني بذاك اللين وبتلك المودة لأني توأمها، توأم رهـف المصري، الصحفية اللامعة معشوقة الجماهير..
أرفض اتهامي بالسلبية الذي تطلقه أمي على مسامعي كل يوم، لا أريد المزيد من المشاحنات أو المشادات بيني وبينها، فلا انتصارها مكسب لها ولا خسارتي أيضًا، فمن الغباء المبين استدرار حب الآخرين وعطفهم ليقتنعوا برأيك ويميلوا إلى كفتك، لذا أُفضل الانسحاب بهدوء من أمامها قبل أن تهب العاصفة وتتأجج نيرانها، وقبل أن ترشقني بكلماتها فتصيبني في مقتل منبهة ومُذكرة إياها دومًا إلى الخطورة التي يُشكلها الانفعال على صحتها المتردية منذ وفاة والدي، أتمادى في ذلك لكسر حدة انفعالها وإيقافها عند مرحلة أستطيع التعامل معها دون أن تدرك أي منا خسائر المواجهة وقبل أن تنهمر دموعنا وتتكهرب الأجواء!
أنظر إلى وجهي في المرآة بكل غيظ، أراه ظلًا باهتًا لسنوات قاحلة، فقد بدأت الخطوط الرفيعة والتجاعيد تتسرب نحوه رغمًا عني، أتساءل: لما تبدو رهــف أصغر مني سنًـا وأجمل شكلًا؟!
لابد أن لكريم دورًا في هذا، فالحب ينعش النفس ويُبقي القلب حيًـا نابضًا بالحياة متذوقًا لحلاوتها، فلا خير في حياة بلا حب ولا حياة في قلب لم يختبر الحب.
أُخرس تلك الأصوات التي تُناديني من بعيد تُعاتبني على تنازلي وببساطة عن ذاك الرجل الأوحد الذي غمر حبه قلبيوتعلق كياني بوجوده في حياتي، "كريــم العناني" كان كل رغبتي في الحياة وأملي فيها..
وكا كنت أنا أبدًا تلك التي تنازع توأمها حبها أو تنافسها عليه، يبدو أن توارد المشاعر جمعني برهف تلك المرة أيضًا، لقد انصرف قلب كلتينا إلى حب الرجل نفسه، لكن قلبه انصرف تمامًا إلى رهـــــف بالطبع، فقد أرسل معي رسالته الأولى لها، لم أستطع منع نفسي من فضها وقراءة سطورها بعين قلبي، سطور فاحت بعطره الرجولي الجذاب، دمعت عيناي حين لمحتُ نظراته العاشقة لها تُطل من بين كلماته قائلًا: أشتهي وجودي بقربك، تنتابني رغبة مجنونة للحديث معك، أحتاج النظر إلى عينيك طويلًا، أرغب في سماع صوت أنفاسك دومًا، استشعر بقلبي نبضات قلبك، لقد أحببتكِ فأصبحتُ أحمل من ملامحك الكثير، عشقتكِ حتى أنني لا أستطيع العيش دونك يومًا، اقتربي أكثر وأكثر ودعيني أتنفس عبيرك وأستنشق زفيرك، أرجوكِ زيديني عشقًـا وقربًـا وأملًا، فها أنا ذا تحتلني تفاصيلك، فقد صرتُ أنا أنتِ حبيبتــــــي..
ما كل هذا الحب؟!...ما كل هذا الوجـد؟!... مَن أنا لأقف في طريق عاشقين خُلق أحدهما للآخر، أحببتُ كريــم؟.. نعــــم وجـدًا..
أحببتُ أنا كريمًـا وبضراوة لكن رهـف رُزقت حبه بإجلال، فالحب رزق والزواج نصيب، محظوظ هو مَن وافق حبه نصيبه، فليس هناك أجمل من النصيب حين يوافق ما تمناه القلب، كم أنتِ محظوظة يا رهـــف، كم أنتِ محظوظة وتوأمكِ شقيــــة!
تمتعت شقيقتي بنعيـم رجل يحبها بصدق وبكامل قوته، دافع كريم عن حبه وعبَّـر عنه بنقاء سريرته وبعشقٍ دفع رهـف للإمام، حصلت على فرصة لاستكمال دراستها العليا في لندن، ترددت بعض الشئ ونالتها حيرة، فالأمر سيبعدها أربعة أعوام كاملة عن الوطن والبيت وكريــم، سيتأجل الزفاف لحين عودتها تحمل على كتفيها الدكتوراة من كامبريدج، أشارت عليها والدته البقاء في مصر والحصول على أعلى الدرجات العلمية من هنا والفوز بالدكتوراة وكريم قبلها، تحيرت المسكينة لكن رجلها دفعها نحو الأفضل لها، أصـر على سفرها أكثر من إصراره على الزواج منها، الزواج الذي رتبـا كل ما يخصـه معًـا، أسابيع فقط كانت تفصلهما عن ليلة العمـر، لكنه الإيثــــار في أزهى صورهِ.
أسرتني رائعة محمد صادق "هيبتــــا" حين قرأتُها، لم أنفك أحملها بين يدي أنهل من صفحاتها بشغف كما ينهل الطفل من ثدي أمه بنهم ولذة، استوقفني كثيرًا عبارة فيها تقول: " كلنا بلا استثاء بنلف في دواير والدنيا بتلف بينا، كل الناس والنباتات والحيوانات بيلفوا في دواير، لأن الدواير هي الأسلوب العبقري في ضمان الاستمرارية وعدم التجديد"
إذن ما يتوجب علي فعله وبكل هدوء هو الاستمرارية في الدوران داخل دائرتي حتى لا يصيبني أذى التجربة أو تحرقني نار التجديد، ولكن مِن أين لي بتلك الطاقة التي تمكنني من الاستمرار في الدوران، وأي قوة تلك التي ستدفعني إلى الاحتفاظ بالتوازن داخل حدود الدائرة وقد غـدا قلبي محطمًـا واجفًــا؟!
لا أملك أن أفعل شيئًا حيال الأمر، سأضطر لاستكمال حياتي على هذا النحو، سأظل أعيش وحيدة يائسة في محنتي المتجددة دومًا وأكره أن يطلع رجل على حاجتي ومعاناتي فيستغلها أسوأ استغلال، بت لا أتحمل المزيد من الازمات التفسية ولا طاقة لي بمواجهة الصراعات والمزايدات..
أفيق من خيالاتي على واقعي الجاف المرير، وعلى مستقبلي الأكثر مرارة، وبأي سأعيش أسيرة للحسرة والألم، ساظل أسدد إلى الأبد فاتورة توأمتي لرهف المصري، شقيقتي الجميلة الرائعة المثالية في كل شئ وأي شئ، لا أملك حيالها سوى أن أحبها وبجنون وأكره بجنون أكبر تلك التوأمة التي جمعتني بها فامتصت كل فرصة لي في أن أكون أنـــــــا!
النهايــــــــــة