ما أقسى الحياة حين نكره مَن نعشق، حين نُجادل مشاعرنا ونُدمي قلوبنا ونُشقي أنفسنا، نختار الفشل هربًـا ممن نحب، نقضي أيامنا في صحبة الألم والحسرة والوجع ونرتضي ذلك صاغرين...
رهــــــــــــــــــــــف
( الجزء الأول):
أتجاهل كل شئ بإرادتي، أتركه خلف ظهري، أنساه تمامًا أو أتناساه، أؤمن أن الأيام كفيلة بحل الأزمات... ماذا سيحدث حتى إن لم تُحل الأزمة وتفاقمت وكبرت وعظُم شأنها؟... الأمر لا يعنيني كثيرًا، فتلك كانت عادتي ومازالت حتى الآن!
مهمتي في الحياة وغاية أملي هي الحصول على أكبر قدر من المتعة، وتجنب أوسع قدر من الألم، لا أهتم بانتقادات أمي على هذا وذاك، فلكل منا أسلوبه في الحياة، وذاك أسلوبي وهذه هي أنــــا... لا أرحب أبدًا بأي طارق يدق بابي ليُملي علي ما يجب أن أفعله ويحذرني مما لا يتوجب علي فعله، لا أحب دفع فواتير أحد ولا أطلب من أحدهم أن يدفع فواتيري..
أنا جومانة المصري، جــــوجـــــو، جميلة جادن سيتي، أدركت منذ الصغر أني لا أملك قـوة رهــف، شقيقتي التوأم، نعـــم، أطابقها في الشكل وأعشقها بكل جوارحي، لكني ضعيفة، هشـة، تافهة، كنت دائما ما أخطيء في آداء واجباتي المدرسية بعمد يغيظ المدرسين حتى أسمع تلك الرنة الغاضبة التي تجلجل بوضوح حين يتساءل الكل في استنكار بالغ عن ذاك البغض الذي أحمله لهم ولمدرستي ولكل ما يتعلق بالتعليـــــم!
تألمت كثيرًا من واقع مرير عشته، واقع يحمل دومًا مقارنات مستمرة مستفزة بيني وبين توأمي، رهف الذكية، المرحة، اللطيفة، الدؤوبة ذات الضحكة الساحرة، الماهرة في كل شئ وأي شئ، أحبها بجنون وأعشق وجودها في حياتي، لم أستطع أن أكرهها ولو لبضع لحظات، ولم أستطع أيضا أن أكون مثلها، ومصيبتي أنني لم أقبل أن أعيش في ظلهـــــا..
عانيت...وعانيت لفترة طالت بعد وفاة والدنا، جودت المصري، كبير مهندسي الانشاءات في مصر، المالك لأكبر شركة مقاولات في الشرق الأوسط، أحببته وتعلقت به أكثر من حب أي فتاة لأبيها، كان ومازال الرجل الأوحد في قلبي... أحب أبي عيوبي قبل مميزاتي، أحبني كما كنت وكيفما كنت، ربما لأنه لمس بقلبه الطاهر ما بي، أدرك أن هروبي إلى الوحدة ورغبتي في عدم الاختلاط لا تنُـم عن خوفي من مواجهة الجميع بل أنه هروب وعزوف عن كل ما قد يضعني في مقارنة مع رهف حبيبتي.. أدرك أبي حبي الطاغي لتوأمي رغم قناع التحفظ واللامبالاة الذي ارتديه طوال الوقت، تحجث كثيرًا لوالدتي عن ضرورة فك التشابك بيننا لتتمتع كل منا على حدى بهوية خاصة وكينونة تميزها...أخبرها أهمية أن تكون ملابسنا مختلفة حين بلغنا الخامسة وحبذا لو اختلفت تسريحات الشعر وألوان الأقراط والأحذية، واختلفت الألعاب وكل ما يقدم لكلتينــــا..
حاول مرارًا وبهدوء أن يجعلها توقن أننا شخصان مختلفان لا نسختين متطابقتين، أرادها أن تتعلم كيف تعاملنا بهذه الروح، فليس من الضروري إذا اشترت شيئًا ما كقطعة حلوى مثلا لرهف أن تشتري مثلها بالضبط لي، بل عليها أن تسألني وأن تجعلنا ندرك وبوضوح أننا شخصان، لا شخص واحد مكرر... الأفضل أن نعتاد ذلك ونألفه، وأن يكون لكل منا شخصيته وهويته، أفكاره، طموحاته المستقلة وهذا لا يعني أبدًا أن نزاعًـا قد نشب بيننا أو أن فرقة شريرة قد قسمت قارب نجاتنــا..
رفضت أمي العزيزة مدام هويدا الهواري ذاك الأمر، بل تعمدت وباصرار عدم تنفيذ نصائح أبي، فقد عانت لسنوات طوال من عدم الانجاب، أجرت العشرات من التحاليل والفحوصات وأشعات بالصبغة ومناظير، أجرت عمليتين جراحيتين دقيقتين في الرحم، أزالت تكيسات عديدة من المبايض، نالتها النظرات والاستفهامات وطالها اللوم والعتاب وتعرضت لكثير من الآلام الجسدية والمعنوية والنفسية في كل مرة أجرت فيها عملية تلقيح صناعي لأطفال الأنابيب، أربع عمليات للتلقيج أجرتها بعشرات الآلاف من الجنيهات انتهت جميعها بالفشل المرير مصحوبًا بالحسرة والألم والغصة وتلال من المرارة، ثم تهللت الأسارير وانطلقت الزغاريد وتوالت الصلوات وتعالت التكبيرات، نُحرت الذبائح وكثُرت الصدقات حين أعلن الفريق الطبي المشرف على حالة مدام هويدا حدوث الحمل، فقد استقرت البويضة المخصبة بالرحم والتصقت بجدارة، انقسمت، وظهرت نتيجة التحليل لتُعلن وبثقة عن نجاح التلقيح الخامس، تسعة أشهر كاملة بلياليها الطويلة قضتها أمي مستلقية تمامًا على ظهرها، في الفراش ممنوعة من الحركة، أدوية تثبيت الحمل لم تنقطع حتى منتصف الشهر الثامن، تتناول العقاقير في أوقاتها المجدولة بدقة، تُشرف ممرضة على درجة عالية من الكفاءة على كافة أمور الحمل، متمرسة أحضرها أبي خصيصًا لتكون مسئولة عن شئون أمي الصحية ليلًا ونهارًا لتفادي حدوث أي خطأ أو هفوة إهمال غير متعمدة، حُقن تثبيت الحمل تخـز لحمها الرقيق كل صباح، تتناول بعدها يوميًا بيضتين مسلوقتين على مضض وتتجرع كوبًا كاملًا من حليب كامل الدسم تكرهه وكانت لا تشربه أبدًا فيما سبق... الآن لا مجال للحب أو الكـره، لا أهواء شخصية، ولا علاقة زوجية قد تُزعج توأمًـا ينبت في الرحم ويحتاج إلى الغذاء والبناء والسكينة، ومن أجل التوأم فعلت أمي كل شئ وأي شئ حتى أهدت أبي زهرتين نمتــا في مرامي القلب.
تابعوناااا
الجزء الثاني قريبا