تلك الأمسية الحالمة كان لها تأثير السحر على حياتنا، شعرت ليلتها جدًا بحب زوجي لي، لقد أدركه عشقي وأصابته نيران حبي، صار عاشقًا، ربما أردت أنا الأخرى أن اتخلص من مرارة عالقة في حلقي تفسد علي حياتي، أردت الاجهاز على كل عائق بيني وبين من أحب، زال ما بداخلي من عناد وجليد كبرياء، استمرت حياتنا بعدها لشهور في منتهى الحب والسعادة، نفترق صباحًا كل منا في عمله، نتحدث هاتفيًا خلال اليوم كلما سنحت لأحدنا فرصة الاتصال بالآخر، نسرع للبيت بعد العمل وكلنا شوق ولهفة، نعد معًا طعام العشاء، تعلمنا سويًا بعض الاكلات العالمية، تناولت السوشي الذي كنت أرفضه فقط لأشارك حبيبي وجبته، شاركني حازم الطعام الصيني الذي لم يكن أبدًا من متذوقيه، لم يعد حبيبي يُكثر من مأموريات السفر، تباعدت الفترات بين سفرياته، كذلك أنا، لم أعد أنهمك في العمل كسابق عهدي، أخطف اجازات قصيرة سريعة نقضيها في مكان ساحري جميل في بلدنا الخلابة، زادت الألفة بيننا، أصبحنا ننام متجاورين، متعانقين، وعرفنا معًا طعم الحب والشغف والغــرام!
وفي إحدى الصباحات استدعاني مديري يهنأني بمناسبة اختياري لتمثيل جهة عملي خارج البلاد خلفًا لمدير فرعنا في روما الذي انتهى عقده، ونظرًا لتميزي في العمل في السنة الأخيرة بالإضافة لما حصلت عليه من دورات تدريبية أصقلت خبراتي فأنا من استحق هذا المنصب وبترشيح الأغلبية من مدراء العمل رغم صغر سني ووجود من هم أكبر مني إلا أنني الأجدر والأحق بتلك الترقية وبهذه الفرصة.
كنت سعيدة جدا، لقد حققت هدفي وتميزت عمن حولي، ليس بالواسطة ولا غيرها لكن بحسن الآداء وجودة العمل، شعرت بذاتي وتذوقت طعم التفوق على الصعيد المهني، طرت فرحًا ووعدت مديري بأن أكون عند حسن الظن وأن أبلي بلاء حسنا في منصبي الجديد الذي أحمد الله كثيرا عليه.
سارعت للبيت وخطواتي تسابق الريح، مفعمة بالحيوية منتشية بالفرح، يغمرني شعور بالتميز، انتظرت حبيبي وأنا في كامل أناقتي، ارتديت إزارًا مميزا يعشقه هو، تفوحت بالعطر الذي يفضله، لم أكن أريد التأثير عليه بدلال أنثوي ليوافق على سفري، بل أردت فقط أن أحتفل معه بتفوقي وأنا في قمة جمالي وفائق أنوثتي، رتبت عشاء رومانسيا على ضوء الشموع وأغرقت البيت بالزهور المفضلة لحبيب القلب، جلست أنتظره وقلبي ينبض بسرعة بين ضلوعي!
وما أن أدار حازم مفتاحه ليدخل حتى وجدني بالقرب من الباب احتضنه بلهفة واطبع قبلة رقيقة على وجنته؛ حملني على أثرها إلى داخل البهو، كان مبهورا معجبا بما رتبت، كم كان عاشقا لسحري غارقا في حبي كما قال، فقط تناول كفيّ، لثمهما بقبلة رقيقة قائلا: ما أجمل مفاجآتك يا سارة حين تكونين راضية عني..
شكرني على تلك الأمسية المفاجئة. جلسنا لتناول الطعام وقبل أن أفتح فمي لأخبره بما لدي فاجئني قائلا: ماذا لديكِ يا أميرتي؟ ما الأمر الذي تودين إخباري به؟
قاطعته متسائلة: كيف عرفت أني أنوي اخبارك بشئ؟!
اقترب هامسا: من لمعة عينيك وبريقهما الذي لم أره منذ فترة طويلة.
فاقتربت منه أكثر حتى شعرت بنبض قلبه، لفحتني أنفاسه الساخنة وهمست: لقد حصلت على ترقية في العمل وعليّ الانتقال لإستلام منصبي في فرع روما خلال أسبوعين على الأكثر.
تبدلت ملامح زوجي بسرعة وكأنه خلع قناعا ولبس آخر، تبدلت تلك النظرة الهائمة في حبي، حلت محلها نظرة جامدة لا روح فيها، تبخرت نبرته الحنون بنبرة حازمة جافة كنت قد نسيتها منذ فترة طويلة، احتد قائلا: أهكذا تكون المكافأة يا سارة، ماذا لو أرادوا عقابك؟! لم أفهم ابدا كيف يكون النقل مكافأة؟ يالا العجب وماذا عن بيتك وزوجك وحياتك؟ ألا قيمة لي في حياتك؟ حسبتكِ تحتفلين بأمسية ناعمةلتخبريني بنبأ حملك جنينا يتوج قصة حب كنت أحسبه الأهم والأولى في حياتك! وجدتك تخبريني بسفرك للعمل بالخارج وكأنني لا وجود لي في حياتك ولا أهمية لي عندك!!
أسقط في يدي واسودت الدنيا في عيوني، كل هذا التحول الممتلئ بنيران الغضب المتأججة داخلك لأنني أخبرك بنجاحي وتفوقي وتميزي عن غيري!
حسبتك أول من يفرح لي، يبارك خطواتي ويعينني عليها، وأنك ستسعد بكل خطوة لي إلى الامام، نجاحي نجاحك وسعادتي سعادتك، لقد كان حلما راودني من قبل لسنوات تعرفه انت جيدا لكنك لم تأخذه ابدا على محمل الجد أو لم تتصور اني قادرة حقا على تحقيقه!
الآن تذكرني بالأطفال وتتمناهم، أولست انت اول من رفض جنيني من خمس سنوات لأنه سيعطله عن الحياة والمستقبل وكل ما هو قادم؟!
أنت نفسك ومنذ احتفلنا بعيد زواجنا الرابع منذ تسعة أشهر لم تحدثني ولو لمرة واحدة عن رغبتك في الانجاب، لم تعطني إشارة واحدة بتغير رأيك في المسألة، لم تصدر منك ولو غفوة أي كلمة عن الأطفال، بل أني كنت أتحاشى الكلام عن الامر حتى لا أغضبك وحتى لا اصطدم مرة أخرى بردة فعل تعيدني للوراء سنوات تطردني بعدها من جنتك وتحرمني هواك وقد أدمنت حبك وشغفك ولهفتك!
مشكلتي الحقيقية أني قد أدمنتك وأحببتك أكثر من اي شئ وكل شئ، وحسبتك انت ايضا كذلك، تحبني وتحب نجاحي بل وتشاركني فيه ولا تدخر وسعا لاسعادي، عفوا لم ادرك انني لست اكثر من متعة، انا زوجة يتوجب علي أن انفذ الدور الذي ترسمه لي في سيناريو حياتنا بكل دقة ولا يحق لي ابدا الخروج عن النص او تبديل او تعديل المكتوب في السيناريو!
لم أستطع ان اقول اكثر من ذلك؛ أسرعت الى غرفتي وما لبثت أن سمعت صوت الباب، فأدركت أنه تركني ورحل ولا أعلم لكم من الوقت سأظل وحيدة حائرة غاضبة هذه المرة، بكيث وبكيت طويلا.
جاء صوت الباب ليعلن خروج حازم من مملكتنا غاضبا منزعجا، لم أجد في نفسي قوة أو رغبة لأخرج خلفه، فقد أصابني اعياء وصاحبتني حالة احباط شديد ويأس وألم، ضعف عام أصابني وألزمني الفراش لأيام لم أذهب خلالها للعمل، اتصلن برئيسي اعتذر عن الغياب، كان الرجل عطوفا مهذبا وبصوت أبوي نصحني بالراحة لحين استكمال الشفاء التام، مرت أيام خمس لا أعرف فيها شيئا عن حازم، لم يتصل بي وانا ايضا لم اجد في نفسي رغبة كي اتصل به.
تحاملت علة نفسي في اليوم السادس، الى مكتبي توجهت أجرجر خيبتي في قدمي، استقبلني الزملاء بحفاوة أثرت فيّ بشدة، كانوا ودودين، مهتمين، مباركين ترقيتي، حريصين على صحتي المتردية بوضوح، انفردت برئيسي، اخبرته بصعوبة سفري لارتباطاتي العائلية ورفض زوجي سفري، ابتسم الرجل وأثنى على شجاعتي واعترافي بالأمر، لكنه نصحني بالتروي في اتخاذ القرار حيث يمكنه ارجاء إرسال من يدير مكتب روما لبعض الوقت، قال لي: إنني أراها فرصة ثمينة لا تتاح كثيرا لمن هن في مثل عمرك بنيتي، كل شئ ممكن بالتفاهم ، احتوي استنكار زوجك وناقشيه بالعقل لا بالعاطفة.
شكرت الرجل وانصرفت إلى بيت أسرتي، ارتميت في احضان أمي التي احتوتني وهدأت كثيرا من روعي، سمعت معاناتي، صمتت برهة ثم قالت: حبيبتي سارة إن حازم يحبك كثيرا ولكنك تحبينه أكثر، وعلى المرء أن يدافع عما يحب بكل ما أوتي من قوة، أن يدفع ثمن اختياراته بسخاء، حازم يخشى كثيرا على حبكما تتملكه غيرة من أي تغيير وأي خطوة قد تؤثر على حياة يريدها هو، يريدك له فقط ويغار جدا من أي عارض أو منافس قد يشاركه فيكِ، عليكِ أن تقدري حبه وتخلصي له، فالتضحية من أجله بكل غال خيار طبيعي إن هو نفسه اختيارك الأول والأكيد في الحياة.
ودعت أبي وأمي وعاهدتما على زيارة قريبة مع حازم، لم أخبرهما أني لا اعرف له مستقرا ولا اعرف متى سيعود، اخفيت الأمر تماما عن أبي حفاظا على صورة حازم في عينيه، فلن يمرر ابي غياب زوجي عني بهذه الطريقة للمرة الثانية بينما ظنت أمي أن ما بيننا ليس أكثر من خصام عابر واننا مازلنا معا في نفس البيت، وعدتها أن افكر مليا في امر السفر.
عدت الى منزلي افكر واناقش نفسي، للمرة الاولى لم اجد بي رغبة الى انهاء خلافي معه بل على العكس تمنيت ألا ينتهي الخلاف قبل أن احدد ماهيتي وحقوقي في تلك الزيجة؟ من انا وماذا لي وماذا عليّ!
فحياتي معه على المحك بل اننا نواجه حقا منعطفات كثيرة وان الامر يستحق مني أن ادافع بقوة لا عن فرصة عمل او سفر قد لا تتاح لي مرة اخرى بل ان ادافع عن ذاتي وكياني وعن حبي ايضا.
اردت ان احب حازما وانا في كامل ارادتي، احبه وانا حرة طليقة، حرة في اختياراتي وقراراتي، أحبه بطريقتي أنا لا بطريقته هو، أحبه كفعل لا كردة فعل، أحبه بعقل متحرر وبنفس حرة، بمشاعر ناضجة كاملة وبقرار واع، وعليه هذه المرة أن يحبني بطريقتي، يحبني كما اريد، كما احتاج، وليبرهن على ذلك، فالأمر يبدو لي واضحا جليا، نعم لقد أحببته، أحببته كثيرا، أحببته أكثر من نفســـــــــي، وتلك مصيبتــــــــي.
إلى اللقــاء في الحلقـــة القادمـــة.