أدركت أنني أحببت رجلاً أنانيًـــا، رجل كان ينبغي عليّ أن أتخلى دومًا عما أريد لأحتفظ به، ففي كل مرة يتوجب علينا أن نتخذ قرارًا بشأن حياتنا أجده هو من يتخذ القرار وعليّ أنا أن أنفذه طواعية بل وأكون سعيدة بهذا القرار وبتلك الخطوة، كأني وردة يحنو عليها، يسقيها ماء حبه وندى عشقه وغرامه وقتما يريد، فإذا غضب أطبق عليها بيده فمنعها الماء والهواء، فتشت كثيرا عن هذه الوردة بداخلي فوجدتها قد ذبلت!
مرت عليّ أيام لا أعرف عددها تغشاني حالة إعياء شديد وصداع أشد، لم أخرج من بيتي، قاطعت عملي وأغلقت هاتفي، كنت أفتش داخلي عما أريد، مر شريط حياتي أمامي، رأيتني "سارة زيدان" الطالبة المجتهدة المتفوقة دومًا، محل حب واحترام أساتذتي وزميلاتي، أنفـذ ما يسند إليّ من مهام بمهارة، أشترك في المسابقات، أحرز انتصارات وألقاب وبطولات تجعل الجميع يسعد بي ويراني مميزة، لكنها ايضًا انتصارات تبعد عني الزميلات وتصرف عني اهتمامهن، تأكلهن الغيرة ويقتلهن الحقد، غيرة وصلت احيانا الى حد تدبير المكائد لي، فمضت سنوات الدراسة ولم يكن لي من الصديقات نصيب، التحقت بالجامعة فشعرت بالغربة والعزلة، هناك لم استطع مجاراة الموضة والتاتوهات، ولم استطع ايضا تقبل فكرة تقرب احد الزملاء لي، لم يكن لي ابدا تجارب مع الجنس الاخر، اردت ان تكون علاقاتي في اضيق الحدود وان تنحصر في اطار الزمالة؛ فانهمكت في المذاكرة والبحث والاستفادة من كل خبرة، اقضي معظم وقتي في المذاكرة والبحث، لفت ذلك نظر أساتذتي، قدمن اكثر من ورقة بحثية مميزة مما شجع احد الاساتذة على إلحاقي بإحدى الشركات الاجنبية لاكتساب خبرة الاحتكاك بجانب الدراسة، أنهيت دراساتي بتقدير عالي مصحوب بخبرة عملية مقبوة دون أن يكون لي صديقة مقربة أفضفض لها، فقط بعض العلاقات البسيطة مثل أميرة التي التقيت في عرسها بحازم زوجي.
كانت لي أحلام عريضة في مجالي المهني حتى بعد زواجي، فلم افكر يوما في ترك عملي، إنه جزء من شخصيتي وكياني، ولا استطيع التخلي عنه ولم أفكر مطلقا في ذلك، مازال أمامي الكثير لأحققه، فحرماني من عملي يؤذيني بل يدمرني.
شعرت انني قد توصلت الى قرار يرضيني، عزمت أن أكسر أنا ذاك الصمت القاتل بيني وبين حازم، اتصلت بهاتفه المحمول لأول مرة منذ أن ترك البيت غاضبا، لم يرد، واصلت الاتصال بإلحاح عدة مرات حتى أجاب عليّ.
جاء صوته مهموما متكدرا، سألته عن أحواله؛ فأجاب: مازلت على قيد الحياة!
طلبت منه أن نتقابل لنتحدث لعلنا ننهي ما بيننا من خلاف، رحب على الفور، أخبرني أنه سيأتي بعد ساعة ثم همس قائلا: وحشتيني يا سارة.
وصل زوجي الحبيب الى البيت، رأيته شاحبا، غير منمق ولا متألق كعادته، سألني عن أحوالي، فأجبت: بخير، أنا بخير.
عقـب قائلا: تكذبين، لستِ بخير ابدا، عيناك الحزينة والهالات السوداء تحتها وابتسامتك الذابلة تقول غير ذلك، اشتقتي إليّ كما اشتقت إليكِ ؟!
اقترب مني، أحاط خصري بيديه القويتين، ابتعدت بهدوء، لم أعقب على كلماته، لم أجادل، بادرته قائلة: لما لم تتصل بي طوال تلك المدة؟
أجاب: كنت غاضبا ولم أرغب في الضغط عليك أو محاصرتك وانت تتخذين قرارك بعدم السفر.
قلت: قراري بعدم السفر؟ كيف عرفت أنه سيكون قراري؟
أجابني منتفخا بالثقة: وهل هناك مجال لأي قرار آخر؟ أحبكِ وتحبينني فكيف يمكن أن تختاري أن نفترق؟ الآن يمكننا أن ننجب أطفالا ونستكمل مشوارنا معا و....
قاطعته وأنا محتدة: أهذا قراري أنا؟، هذا ما تريده أنت، ما تتوقعه مني، ما تراه مناسبا لي في قصتك، قصة تكتبها وتُخرجها وحدك، لكني كبرت، نضجت بما الكفاية، الآن أستطيع أن أخطط لنفسي وبنفسي بل وانفذ ما أخططه، أحبـــــــك؟، نعم أحبك ولا أنكر، لكن حبي لك ضعف وأنا قد سأمت ضعفي ومللت قوتك.
تابعت وقد ارتعدت اطرافي من فرط الانفعال: الحب الذي أريده حب يدفع للأمام، حب نحن فيه شركاء متساوون، فإن كنت تحبني حقا فلما لا تشاركني نجاحي؟! لما لا تصنع معي مستقبلي؟ أنت طيار ماهر يمكنك أن تطلب نقلك إلى فرع شركتك في روما إن أردت، اخبرهم أن محل إقامتك أصبح هناك، تستطيع ذلك فعلا، تستطيع أن تكون معي، تستطيع أن أكون أنا اختيارك، هناك يمكننا أن ننجب أطفالا إن كنت حقا تريد ذلك.... لكنك لا تريد، لا تريد أن تكون معي، فقط تريدني أنا أن أكون معك جكزء منك، جزء من الكل، فرع من الأصل، أليس كذلك؟
أجاب منفعلًا: وماذا في ذلك؟ أولستِ زوجتي؟ كبرنا ونحن نعرف أن مكان الزوجة حيثما يكون زوجها لا العكس، هذا واجبكِ الذي وافقتي عليه ضمنًا حين تزوجتيني.
حاولت السيطرة على انفعالاتي واردفت بهدوء: ولماذا لا يكون الزوج حيثما تكون زوجته مادام الأمر لا يضر؟ أليس الزواج شراكة قائمة على المساواة لا المساومة، لقد قلتها أنت الآن، أنا زوجتك، لقد قلتها ولم تقل أني حبيبتك، لو كنت حبيبتك لوجدت نفسك مدفوعا أن تكون معي متشوقا لتشاركني حلمي، أن تسعد لنجاحي، ماذا لو كان الأمر معكوسا؟ لم أكن لأطلب منك ابدا أن تضحي بفرصتك وبنجاحك وتميزك من اجلي، لم اكن لأساومك، كنت حتما سأرحل معك سعيدة إلى حيث تريد، سعيدة بك ومعك، ما كنت ابدا لأمزقك نصفين بيني وبين أحلامك، ما كنت أبدا فاعلة.
صمت حازم لبرهة كأنه يفكر ثم أردف يقول: أحبــــكِ فعلا يا سارة، فلا تفسدي حبي، أرجوك.
نظرتُ في عينيه أقول: حبك مشروط ومقيد، انا في احتياج الى حب حر اشعر معه بحريتي وبآدميتي، حب يقويني ويدعمني، حب يرفعني الى السماء يجعلني احلق، أحلق عاليا وارفرف بنشاط، لا احتاج حبا يقيدني بسلاسل ويشدني أرضا، ان كنت تحبني حقا فلتحلق معي ولنغرد سويًـا..
رمقني بنظرة اخترقت قلبي، لأول مرة شعرت بالخوف منه ومعه، اقترب يقول وقد صارت عيناه كتلة تحــــد: أسافر غــدًا في مأمورية وسأعود بعد خمسة أيام، إن وجدتكِ ستكونين قد قررتي البقاء معي، سأنسى كل ما حدث وكل ما قولتيــه، لا ملامة واقعة عليكِ ولا عتاب ستسمعين مني، بل سأعود كسابق عهدي معكِ عاشقا متعبدا في محرابك وكأن شيئًا لم يكن، وإن لم أجدكِ سأفهم أنك قررتِ الخروج من جنتي، حينها لن أقف في طريقك ولن أمنعكِ من الخروج.
قال ما قال ثم رحل، رحل وقد وضعني أمام اختيارين كلاهما مُـــر علقــــــم!!
وإلى اللقــاء في الحلقــة القادمــة.