الساعة قربت على تسعة، الشمس بتفرد ضهرها على الرصيف قــدام الكشـــك، اليوم بيبدأ على مهـل.
"محمد حسين" كعادته فتح قبل الزحمة بكتيـر، الكتب مرصوصة ورا ضهره، كوباية شاي على طرف الرف، لسه الدخان بيطلع منها، وقف يرص الجرايد بعناية شديدة كأنها كتب مقدسة، مسح التراب عن علب السجاير، اتأكد من تاريخ صلاحية أطباق البسبوسة الصغيرة اللي بيبيعها لصالح الست "بسيمة" وولادها اليتامـــى.
عارف إن النهارده الاتنين، هو مستني اليوم ده من الاسبوع اللي فات، كان متأكد إن الزبون إياه هيجـي النهاردة، وحقيقي المرة دي مش هيضيع الفرصة وهيسأله السؤال اللي نفسه يعرف إجابتـه، عايـز يفهـم إيه الحكايـة، مش فضـول والله على أد ما هـي حيـــــرة وإحسـاس بيحركـه.
موقف غريب بيتكرر قدامه بحذافيره لزبون أغرب، بقاله 3 شهور بيجي كل يوم إتنيـــن في نفس الميعاد، يشتري نفس الجرنال ويدفع نفس الفلوس، ومابياخدش الباقي، ويمشـــي.. يا ترى إيه القصـــــــة؟
وفعـــلًا أول ما الساعة بقِت تسعة ونـص الزبــون ماكدبش خبـر، وظهــر قدامـــه!
رجل طويل في الخمسينات، له هيبــة، شعره متسرح بعناية فائقة، شيـك بزيادة عن رواد المكان، لابس بدلة رمادي غامقة ونضارة شمس غالية. "محمــد" بص له، وضحـــك، قال: صباح الخيـر يا باشـا.
: صباح الخير يا محمـد.
: الجمهورية زي كل مـرة؟!
: أيــوه...الجمهوريــة.
"محمـد" مـد إيــده ناولهُ الجرنال، بحركة تلقائيـة، الرجل لفُّـه برفق، حطُّـه في الشنطة الجلـد بتاعتـه، ساب 20 جنيه على رف الكشك، ماخدش الباقي برضه، قبل ما يمشــي، "محمـد" سأله بهــدوء: حضرتك اسمك إيــه؟
: عاطـف الشاذلي، محامـي جنايات.
: اتشرفنا يا أستاذ عاطف، عايز اسأل حضرتك على حاجة، ممكـــــن؟
: آه طبعًـا، اتفضل.
: حضرتك بقالك فترة بتشتري الجمهورية كل يوم إتنيـن.. بس عمرك ما فتحته قدامــي؟
ضحك "أستاذ عاطف" ضحكة خفيفة فيها حزن، قال: ولا بفتحـه وأنا لوحدي وحياتـك.
: أومال حضرتـك بتشتريــه ليـــه لامؤاخذة ؟!
بصوت متهدج الأستاذ "عاطف" رد: بشتريه مش حبًـا فيه لكن فيهـا.
"محمد" قعـد على الكرسي الخشبي اللي جوا الكشك، حرك المعلقة في كوباية الشاي اللي قدامه رايح جاي كأنها بندول ساعـة، مـد إيــده بالكوباية لأستاذ عاطف: إتفضـــــل.
: تِسلــــم، ماليش في الشـاي والله.
استجمع "محمد" شجاعته، مازال الفضول يشغله، يحتـل تفكيـــره، قال: هــي ميــــن؟
بص "عاطف" بعـيد ناحية الشمـس وهو يقول: مراتـــي، كنت باجي هنـا معاها، كانت بتحب جرنال يوم الاتنين عشان فيه كاريكاتير مُعيـن شبهـي، كانت تقعـد تقرالي بصوت عالي في البلكونة العصر، توريهونـي وهي بتقنعنـي إنه شبهـي جـدًا، وتضحك وأنا أضحك على ضحكها.
"محمد حسين" لسه بيسمع باهتمام، دوِّن جملة صغيرة ماخدتش وقت في الدفتر الرمادي اللي دايما جنبه، رفع بصره بسرعة ناحية "أستاذ عاطف" كأنه بيشجعه يكمل كلامه، قال: وبعديــــن؟
دمعت عينا "أستاذ عاطف" قائلًا: بعد ما راحت فضلت أشتريه، مش عشان أقرأه، عشان أحس إنها لسه موجودة.. كل مرة بمِـد إيدي أخده بحس بإيدها جنبي، بتقولي " اقِلب الجرنال كده، شوف الراجل اللي شبهك ده"
تنهـد "محمد" قائلًا: الذكرى حلوة برضه، تعيش وتفتكـر.
نظر "عاطف" نظرة فيها إمتنان صامت، قائلًا: هو أنا أصـلًا نسيت عشان افتكــر!
مشـــى نحـو محطة المتـرو بينما يقول: سلام عليكم.
رد "محمد": وعليكم السلام، أشوفك الأتنين الجاي يا أستاذ عاطف.
ثم نظر في دفتره مليًـا، وكتب: "فيــه ناس بتشتري الجرنال عشان يفضلوا يسمعوا ضحكة حبيب ما بقاش موجــود".