الكشـك واقف في صمـت وسط دوشة العتبـة تمام زي جزيرة قديمة وسط موج عشوائي، الساعة 3 وتلـت و"محمد حسين" قاعد على الكرسي الخشب جوا الكشك، بيقلب في جرنال الصبح اللي لسه ماخلصش قرايته بس عينيه كل شوية تبص ناحية شارع جانبي ضيق على ناصية القهوة اللي جنب المحطة.
قربت منه شابة عشرينية، شعرها ملموم كحكة، نضارتها على طرف مناخيرها، كل شوية ترفعها، باين جدًا إنها وِسْعِت عليها، سألته بصوت مرتبك: عندك أعداد قديمة من مجلة الهـلال؟
رفع "محمد" عينيه ناحيتها من فوق الجورنال، وقال: أنهــي سنـــة؟
: تسعينات لو أمكن، أصل أنا بعمل بحـث عن تطور الكتابة الثقافية في مصر.
"محمـد" مستفهمًـا: بحـــث؟
: مشروع تخــرج، أنا في كليـة آداب.
: أنا اسمي عم "محمـد" يا آنسة، حضرتك اسمك إيه؟
: سلمــــى.
: طب تعالـي هنـا يا آنسة سلمـى.. أشار إلى جنب الكشك من جـوا.
ترددت الفتـاة لحظة هل تدخل الكشك أم لا؟!
فهــم "محمـد" ترددهــــا، فقال: ماتخافيش، الدنيا لسه بخيـر، أنا أد والـــدِك.
دخلت وراه إلى جنب الكشك، ناحية كراتين وورق متراكم، بدأ يقلب في كرتونة غطاها غبــــار خفيـــف.
وهو بيدور باهتمام، قال: في التسعينات كنت ببعت مقالات صغيرة للهلال، ساعات كانوا بينشروها من غير إســم.
"سلمــــى" مندهشة: فِعـــلًا؟
: أهــو، كنت بحاول أسيب أثــر حتى لو ماتعرفْتــِش.
طلَّــع عـدد من المجلة، قَلِّـب صفحتين، وهو بيقول: الصفحة اللي ع الشمال تحــت، السطور اللي في الآخِر دي، كلماتـــي.
سلمى لسه مندهشة: إزاي توافق ينشروها من غير إسمك؟
: يا ستـــي، يعني هـي جَـت على دي، كنت هبقـى مين يعني، صلاح جاهين؟!
خدِت "سلمـى" المجلة، قبل ما تقول حاجة، لمحته بيبص فجأة على ساعته.
بصِت هي كمان في موبايلها... الساعـة 3:30
"عم محمد" عينيه راحت فورًا لنفس الاتجاه، ناحية الشارع الجانبـــي.
"سلمـى" سألته: مستنــي حــد؟
ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال وهو بيعدل نضارته: لأ...ابــدًا، ماتخديش في بالك.
سكت شوية، بص تاني في نفس الاتجاة كأن الزمن بيرجع بعينيه، وبصوت هادي، كلـم نفسه: زي دلوقت كانت دايما بتيجي من هناك.
"سلمـى" بصيت ناحية الشارع الجانبي، مستنياه يكمل من غير ما تقاطعه.
انتبه إلى اهتمامها، لمعت عينيه وهو بيقول: كل يوم خميس، الساعة 3:30 بالظبط، كانت بتخرج من الدرس، تعدي عليــا على طول تجيب لي لبان نعناع، تقعد تفتح لي قلبها، تحكيلي عن يومها كان عامل إزاي، أكلِت إيه، شربِت إيه، اتكلمت مع مين.. من ساعتها بقيت ببص في الوقت ده كل يوم على نفس الشارع اللي بتيجي منه يمكِـــن.
:حضرتك بتحـب اللبـــان.
: بحبــــه منهــــا، من "هبــــة" بـس.
"سلمى" بصيت له بتمعن، ملامحه كان فيها حزن ناعم، حزن ياخد قلبك.. كان بيتكلم من قلبه عن حاجة غالية راحت وملهاش عوض.
مدت إيدها ناحيته، "باكـو لبان نعنــاع".
قالت له برجاء: ماتكسِفنيــــش.
"محمد" ماقدرش يمد إيده ياخد اللبان، "سلمـى" حطت الباكو على الرف قدامـه.
سكتوا لحظة، كانت ماسكة المجلة القديمة بتقلب فيها ببطء، كأنها بتقرأ تاريخ مش مكتوب بالحبر لكن بالإحساس.
التفتت تسأله: ممكن آخـد العـدد ده، هطلع منه حاجات وارجعه لحضرتك؟
: العدد ده ليكــي.. بس بشـرط.
رفعت عينيها باهتمام: شرط إيــه؟
: لما تخلصي مشروعك وتكتبي كل اللي جواكي بصدق، ابعتي لي نسخة.
: ابعتها فيـــن؟
: هنـا، أنـا دايما هنــا، في نفس الكشك.
ضحكت وهي بتقول: كــل يـــوم؟.. مابتاخدش أجازة أبـدًا؟
: أبــــدًا.
: خلاص ساعتهـا هجيلك بنفسي أدي حضرتك نسخة.
: ابقـي تعالـي يوم خميس، الساعة 3 ونص.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، قالت: حاضــــر
بصت في المجلة تاني، بعدين رفعت عينيها سألت: "هبـــة" كانت بتحب تكتـــب؟
:لأ.. كانت بتحب تقـرأ، كانت بتحب تسمعني وانا بقرالها.
: حضرتك بتحب تحكــــي؟
: بحب أسيب الحكاية تيجـي لوحدها، زي دلوقتــي كـده.
مدت "سلمى" إيدها، أخدت المجلة بحرص، قالت: شكرا على المجلة، شكرا ع الوقت الحلو ده.
أجابها "محمـد" مبتسمًـا وفي عينيه لمعـة: شكـرًا ع الحكاية.
فتح دفتره الرمادي، كتب جملة واحدة " فيه حكايات بتفضل عايشة العمر كله حتى لو صُحابها فارقونـــا برضه بتفضل عايشــه"