أحاول منذ فترة طالت أكثر مما ينبغي أن أتماسك نفسيًا، أجاهد بشكل متصل و مثابر للتخلص من إحساسٍ بالشفقة أو الشماتة صادر تجاهي ممن حولي؛ فأنا لا طاقة لي بالاثنين، فكلاهما يشعرني بالغثيان.
كنت منذ أربعة أعوام أرملة رشيقة، جميلة، وحيدة في منتصف الثلاثينات، أبدو أصغر من عمري بكثير بشهادة الجميع، توفى زوجي في حادث سيارة بعد زواجٍ دام سبع سنوات كانت مُرضية لي رغم هدوئها، فلم يكن حبه لي عنيفًا ولا رومانتيكيًا كما كنت أتمنى في بداية سنوات الصبا و المراهقة، كان زوجي رجلًا متزنًا إلى حدً بعيد، لا يعرف لغة المشاعر ولا يجيد العزف على أوتار قلب أنثاه بالكلمات، زواجنا كان تقليديًا جدًا و عشرتنا لم تكن تخلو من مناوشاتٍ زوجيةٍ، زواجُ ناتج عن ترشيحات الأهل متبوعة بأحاديث تبادلها عقلانا، لم يكن للقلب فيها دور البطولة، تمسك بي و بشدة لم أعرف لها سببا عندما اكتشفنا بعد شهور من الزواج أنني عاقر، لم يستجب لدعوات أمه المُطالبة له بالزواج من أخرى مع الاحتفاظ بي على ذمته إن أراد، أو تطليقي إن أنا ثُرت لكرامتي ورفضت أن تكون لي ضرة، و كيف أجرؤ على هذا وأنا معطوبة، أنا الأنثى ذات النقص، ذات العاهة، رفض محسن الأمر رفضًا قاطعًا و بحزم أخرس الألسنة و إن استمرت النظرات و الهمسات تحمل الكثير من اللوم و العتاب، أكبرتُ له موقفه و أقنعت نفسي بحبه الصامت دون همس أو تصريح، كبدتُ رغبتي في زواجٍ يدغدغ مشاعري،حمدت ربي على نعمة الرضا بالمقسوم، تخليت مقتنعة عن كثيرٍ من أحلامي في زوج رومانسي حالم يضيء لي شموعًا في عيد ميلادي و يراقصني على نغمات عمر خيرت و يهديني زهورًا كلما استطاع، حتى كانت وفاته المفاجئة، لم أنهار، لم أتصدع، لم أشق ملابسي ولا لطمتُ خدودي، لكني بكيتُ وحيدة في غرفتي و بشدة لم أتخيلها ثم تجاوزت محنتي بشجاعة لم يتوقعها البعض!
مضت الشهور متعاقبة على وحدتي تلفتتُ حولي فوجدتُ الجميع منشغلًا بحياته الخاصة منغلقًا على دنياه، بعد فترة لمستُ بداخلي رغبةً متزايدة في الارتباط بمن يخفق له القلب و يقشعر من لمسته البدن، وجدتُ بداخلي نفورًا شديدًا من العيش كأرملة وحيدة، فكرتُ في الهجرة إلى أمريكا حيث يعيش شقيقي الوحيد هناك منذ خمسة عشر عامًا و تحديدًا بعد وفاة والدينا إلا أنني تهيبت احساس الغربة الموجع و كرهت الخروج من مياهي التي أعرفها فقد لا أجيد السباحة في غيرها.
حذرتني صديقتي المقربة إيمان من رغبتي المُلحة في العثور على الحب الأفلاطوني الذي لطالما طاقت له نفسي؛ فقد يدفعني هذا البحث إلى تقديم تنازلات للفوز بزواجٍ قريب هروبًا من ملل و رتابة حياة منظمة جدًا و منمقة جدًا عشتها لسبع سنوات منصرمة، فنحن عندما نريد شيئًا بقوة نتجه إليه بكل مشاعرنا و نخرس صوت العقل و جرس المنطق، نفتح نوافذ قلوبنا على مصاريعها لينفذ داخلها الصالح و الطالح دون وعي أو إرادة فتكون النتيجة النهائية مؤلمة للغاية.
قاطعت إيمان و أخبرتها أن ذلك ينطبق على علاقات العمل و ربما الصداقة، لكنه لا ينطبق على الحب، فالحب لا قوانين فيه ولا منطق يحتويه.
تلفتتُ حولي فلم أجد راغبًا حقيقيًا فيّ كزوجة، الكل طامع ليس أكثر في علاقة عاطفية عابرة مع أنثى جميلة وحيدة، أرملة تتلوى من الوحدة، تشكو فراشٍ باردًا، اشمأززتُ من تناول الرجال للأمر و عزوفهم عن حبٍ حقيقي قد يجمعني بمن يختاره القلب، فالقضية محسومة و الحسبة واضحة، فالأرملة لا نصيب لها من الحب وعليها أن تقنع بفتات علاقة يضعها رجل أمامها لتلعقها و تسد بها رمق قلبها و فتق جوارحها، ترفعتُ بنفسي عن الانخراط في علاقات زائفة تنتهي حتمًا إلى غرف النوم، قررتُ أن أصون نفسي عن الابتذال و الدخول في علاقة تشبع لرجل احتياجاته و ترضي غروره، لكنها ستحمّلني جبالًا من الإثم لا طاقة لي بها، سيمنحني الأمر متعة مؤقتة لكنها و بلا شك ستحفر بعدها في ضميري احساسًا موجعًا بالخزي و الألم واحتقار الذات.
رفضت كل العروض العاطفية الهزلية المقدمة لي من زملائي في العمل أو الجيران الذين يرغبون في إرواء مجاني لنزواتهم مستغلين إحساسي بالحرمان من الحب و الاحتواء، أما الرجال الذين وجدتهم حولي راغبين حقًا في زواج جاد كانوا أبعد ما يكون عن أحلامي و طموحاتي التي أنشدها لحياتي الجديدة، كانوا إما مطلقين أو توفيت عنهم زوجاتهم، لم يعجبني ما وجدتُ، فالوجوه مكفهرة، عبوسة، و الأجساد مترهلة، و الأرواح كئيبة، والأذهان عفى عليها الزمن و تجمدت كصخر من قلة القراءة و متابعة متغيرات العصر، الألوان باهتة وأنا أشتاق إلى ألوان طازجة كقهوة الصباح صاخبة كقهوة المساء.
وذات اليوم، فاجأني رجلٌ وسيم، جذاب إلى حد بعيد، جاء طالبا الجلوس معي على طاولتي المفضلة في النادي، اعتذر بأدب في البداية عن اقتحامه خلوتي مع كتابي وقهوتي، حاولتُ الاعتذار بلباقة عن قبول طلبه، لكنه قاطعني بهدوء و بأدب أخجلني لم أستطع معهما الاستمرار في الرفض، جلسنا معًا وأخبرني أنه عضو في النادي منذ عام فقط، و أنني آسرته منذ رآني، أربكتني نظراته القوية الثاقبة، راقت لي إجادته لفنون الحديث بلباقة و كياسة، بهرتني سعة اطلاعه و فصاحة لسانه، انجذبت إليه بشدة، زادت الصلة بيننا صرنا نتقابل يوميًا في نفس المكان و الزمان فور انتهائي من العمل، لا نفترق إلا بحلول موعد نومي، امتزجت أرواحنا و تعانقت عقولنا في صداقة يقبلها مجتمعنا أو لا يقبلها لم أكترث للأمر، لم أعد أتمنى سوى مواصلة الاستمتاع بهذا التناغم الراقي، لا أعرف كيف اتحدت نفوسنا و تطابقت رغباتنا في كثير من الأمور، نحب نفس صنوف الطعام و نبغض نفس الصنوف الأخرى حتى النادر من الأمور تطابقنا فيه، على سبيل المثال من في مصر يكره الحمام المحشي؟!
أخبرني إيهاب زهدي أنه قد بلغ الثمانية و الأربعين منذ أربعة أشهر، و أنه مطلق لديه ولد و بنت يعيشان مع والدتهما التي تتهمه بمغامرات عاطفية كان بريئا من جميعها، كم كانت حياته معها جحيمُ لا يطاق، هو مراقب دومًا حيثما كان، يخضع لاستجوابات متتالية فور أن تطأ قدماه البيت بعد يوم عمل طويل، اسئلة منطقية و غير منطقية في منتصف الليل، احتمل كثيرًا من أجل طفليه حتى فرغ جراب احتماله مع تصاعد حدة زوجته و نبراتها المعاتبة له دومًا على كل قول أو فعل، لقد انتحر الحب في حياتهما الزوجية على عتبة الشك والبحث و سوء الظن، لكنه لا يطيق العيش وحيدًا، يكره الانفراد بذاته و يقاوم رغبته في أنثى تلطف عليه جمود حياته، يخشى الخطيئة و يهاب الكبيرة، أراد أن يعف نفسه فتزوج غدير بعد طلاقه من أم أولاده لحاجته إلى السكينة و المودة التي تمناها في زواجً أراده موفقًا مثمرًا؛ فزوجته غدير كانت جارة والدته، رآها مناسبة له و لظروفه، فقد كانت مطلقة هجرها زوجها المهندس بعد زواجً استمر عشر سنوات، طردها من جنته ليحقق أحلامه بالزواج من سيدة خليجية ثرية اشترطت عليه أن يكون رجلًا لها هي فقط؛ فرحل عن زوجته ببساطة دون أن يترك لها أي ذكرى حتى قائمة المفروشات مزقها أمام عينيها، فالأمر بسيط لم يرزقا بالذرية التي قد تحول دون الانفصال، تزوج الباشمهندس أموال الخليج ممنيًا نفسه بالثراء السريع دون عمل و عرق؛ الدنيا حلوة في قطر.
وتزوج إيهاب ممنيًا نفسه بسعادة و استقرار افتقدهما في زواجه الأول، لكن الزوجة لم تتحمل ذاك الظرف الطارئ الذي هبط عليهما لينغص هدوء الحياة، و يعبث باستقرار البيت حديث العهد، لم بصمد الزواج أمام ظروف مادية عسرة واجهت عمل إيهاب، تذمرت ولم تتحمل شظف العيش معه، لم تجد له في قلبها رصيدًا تتكأ عليه ولا في نفسها عاطفة تمنعها من طلب الطلاق؛ طلقها إيهاب غير آسف عليها ولا متمسك بها و لمَ يفعل؟ و قد تخلت عنه عند أول منعطف في طريقهما معًا، و هل يختبر الحب إلا بشدة الأزمات؟!
تمــــــــــــت.
وإلـــى لقـــــاء قريــــب والحلقـــة الثانيــــــــــة؛ تابعــــــــونــــــــــــا.