تحدثت مع صديق وفي وسط الحديث ذكر لي بشيء لم يفارق تفكيري من وقتها، بإنه إذا شعر الطرف الاخر بضعف من امامه ستبدأ لعبة السيطرة والقهر، والقهر ليس واقع فقط من ذكر على انثى، وانما لعنة قهر الانثى للإخرى
ورأيت هذا واضحاً في فيلم شاهدته مؤخراً للمخرج الياباني كينجي ميزوغوتشي، وهو فيلم حياة أوهاروا
The life of Oharu
احداث الفيلم تدور في القرن السابع عشر في اليابان لحياة إمراة تدعى أوهارو، والدها ساموراي عند أحد الحكام، وتخدم هي ووالدتها في بلاط الحاكم، يقع في غرامها شخص من طبقة أقل منها، ويحكم عليها وعلى اهلها بالنفي خارج البلدة، وتتدهور حياتها، لتصبح خليلة احد الحكام لتنجب له وريث، وبعد ان تنجب الوريث تتعرض للطرد من بيت الحاكم، ويبيعها والدها لتصبح عاهرة، ثم تبتعد عن تلك الحياة وتعمل خادمة في احد المنازل، يعلم اهل البيت بسرها فيطردوها، وتتزوج ولكن يفجعها القدر بفقدان زوجها، وتعيش في أحد دور العبادة ولكن سوء حظها الذي يلاحقها تعود للعهر مرة اخرى
حياة تلك المرأة لم تكن منحنى طبيعي صاعد ونازل، وانما كان مأساة في انحدار مستمر، وفي هذا الفيلم يكشف ميزوغوتشي عن لعنة المرأة في المجتمعات الابوية القائمة على التراتبية المجتمعية، وايضاً عن لعبة السيطرة والقهر من الطبقات العليا للأدني، ومن الرجال على النساء، ومن النساء على النساء، ويكشف ايضا عن المظاهر الخادعة للمجتمع الياباني في تلك الفترة، وتحتها يقبع الاستغلال والقهر الانساني
هذا ثاني فيلم اشاهده لهذا المخرج الكبير، وتعرفت على اسلوبه أكثر في هذا الفيلم، استخدامه للقطات الطويلة زمنيا، وعدم اللجوء الي القطع للانتقال بين لقطة واخرى، وتجنبه استخدام حجم اللقطة المقربة، بمعنى لا نقترب من الممثل، نحن على مسافة منه ومن المكان المحيط به، وهذا ما ادهشني اثناء المشاهدة، لإن قصة بمثل هذا الطابع المأساوي ومع اي مخرج اخر كان سيستغل اللقطات المقربة والمونتاج لتكثيف الحدث والمشاعر لدى المشاهد، ولكن ميزغوتشي وما ذكرت سلفاً عن اسلوبه المميز تمكن من ترك المشاهد يرى مأساوية الحدث، ويتوحد معها دون ابتذال، وتمكن من ايصال نفس المشاعر وثقل وطأتها
ولأول مرة ارى في فيلم استخدام المستوى الامامي للصورة للتعبير عن ضعف وقلة حيلة البطلة أوهاروا بدل ان يكون هذا الموضع مكان قوتها، لإن التقاليد المتعارف عليها سينمائياً كلما ازداد قرب الموضوع المصور من الشاشة ، وبالتالي كلما ازداد حجمه كلما انعكس على زيادة اهميته وقوة موقفه، ولكن هنا كانت اوهاروا في اضعف مواقفها وهي قريبة من الشاشة، وفي مقدمة الاطار
كما ازداد من تأثير القهر عليها بوضعها ايضا في خلفية الاطار، او محصورة بين الشخصيات الاخرى، او محصورة وراء تشكيلات النوافذ او الاشجار او الابواب، او تحتل مساحة اقل من الشخصيات معها في الإطار، وذلك تعبيرا عن حالة ضعفها المتأصل فيها
شخصية أوهاروا تعتبر من الشخصيات المأساوية التي تقع تحت رحمة القدر، وهنا لكونها إمرأة، هذا الفيلم ذكرني كثيراً بفيلم (نحن لا نزرع الشوك) للمخرج حسين كمال
وشخصية “سيدة” التي لعبتها الفنانة الراحلة شادية، والتي لم تكن سيدة مصيرها ايضاً وقعت ضحية كونها يتيمة، واستغلها جميع من حولها، ومارسوا القهر عليها، حتى لجئت للعهر، وفي النهاية عندما أرادت الاستقامة جاء رد القدر بالموت
هاتان المرأتان “سيدة” و”أوهاروا” نموذجان انثويان في وسيط ( السينما) وهو ابوي من المنشأ، شخصيتان تعرضتا واحدة للموت كوسيلة للتطهير وتكفير عن سيئاتها، والاخرى اصبحت متسولة وتعيش في منفى أبدي على هامش المجتمع
حكمت عليهما السينما -التي لسخرية القدر عندما نتحدث عنها نتحدث بالضمير المؤنث- والتي تحولت بدورها لتصبح انثى تعاقب اخرى، لتكون مرآة لواقع مرير