آخر الموثقات

  • ق.ق.ج/ الكوب الفارغ
  • ق.ق.ج / ريش متناثر
  • فنون البعاد
  • غربة والتماس
  • القلب ميت
  • رسالة لم تصل إليك
  • ق.ق.ج/ بئر العينين
  • مكانة الأسياد ..
  • تقوى الله محرك مهنة الطب
  • التعليم السوداني بين العزلة وإعادة إنتاج الأمية
  • أصداء أزهري محمد على نقد متجدد للحكم في السودان 
  • معركة الكرامة: بين الخيانة والوفاء للوطن
  • بين رفقة الأحلام ورفقة التكنولوجيا أحلام تزهر بالمعرفة
  • طقوس الزواج السوداني بين الأصالة والمفارقة: من قطع الرهد إلى إشعار البنك
  • لقاء السحاب
  • يا صديقي.. لو كنا تزوجنا من زمان
  • رسالة بين القلب والعقل
  • ما وراء الغيم الأسود
  • حين عاد الصوت من الغياب
  • على حافة الفراغ.. حكاية قلب يبحث عن أنس
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة ياسمين رحمي
  5. قرية الظلال (قصة مستوحاة من أحداث حقيقية)

بسم الله الرحمن الرحيم

القصة مستوحاة من أحداث حقيقية

---

كنت بحب الروتين بتاعي أوي وأنا طفل، فاكره كويس، فاكر كل التفاصيل، من أول ما عيني تفتح تلقائيًا بسبب الشمس القوية اللي بتخترق الأوضة، ممكن حد يشوفها حاجة مزعجة، الشمس شخصيًا هي اللي بتعمل دور المنبه، وتصحي النايم مع إشراقها، لكن أنا، أنا كنت بتبسط بيها أوي، بفتح عيني بهدوء وعلى وشي ابتسامة بريئة، بقعد وأنزل رجلي الصغيرين من على السرير، اللي بينهم وبين الأرض مسافة كبيرة، بتمطع وبعدين بنط نطة صغيرة واتمشى للحمام بهدوء، اشب على الحوض وأمسك الفرشة وأدعك سناني، أرجع على أوضتي امسك المشط الصغير وأسرح شعري، واستنى ماما تصحى وتجيني الأوضة تسلم عليا وبعدين تغيب شوية وترجع تندهني عشان الفطار اللي حضرته، اللي هو في أغلب الأيام بيبقى بليلة، كورن فليكس الغلابة، وده الفطار المفضل عندي، مش ممكن على الفرحة كل مرة كإني باكلها لأول مرة...

نقدر نقول إني كنت طفل حبوب، بتلكك عشان أفرح، كل حاجة حواليا كانت بتبسطني، حتى لما قريبنا جه قعد معانا فترة اتبسطت بيه، ده أنا عملت مهرجانات، كل يوم  كنت بحتفل ، بروح المطبخ وأجيب اللي ربنا يقدرني عليه من أكل كل فترة عشانه مخصوص، بحكي معاه وبديله لعبي يلعب بيها، وفي الفترة دي بدل ما كنت بقوم على ضوء الشمس كنت بقوم على عزف البيانو...

بيتنا أصله كبير شوية، بيت قديم أوي، دورين وسلالم كبيرة ما بين الدور الأول والتاني، البيت ده مكنش بيعكس حالتنا الاجتماعية تمامًا، كل الحكاية إننا ورثناه من أبو جدي، اللي كان باشا بالمناسبة، البيت اتكتب باسم جدي وجدي كتبه بإسم أمي، وبسبب حالة أبويا البسيطة لما أتقدم لأمي وكون إنه مكنش عنده شقة، فجدي عرض عليهم يعيشوا في البيت معاه وكتبه لماما، وأحوال أبويا البسيطة فضلت بسيطة، الاتنين فضلوا موظفين بيحفروا في الصخر عشان مصاريف العيشة والتعليم بتاعي...

المهم الدور اللي تحت كان فيه بيانو كبير، كان بتاع أبو جدي، مفتكرش إني شوفته مكشوف، دايمًا كان متغطي بالقماشة الكبيرة البيضة، محدش كان مهتم بيه ولا حد عنده ملكة العزف...

بس ده اتغير لما قريبنا جه، هو كان عنده وقتها 7 سنين وأنا 5...

صغير أوي لكن موهوب، دي مش مجرد موهبة لما تبقى في طفل زي ده اسمها "عبقرية"، كنت بقوم قبل ما الشمس تبقى جامدة على صوت العزف، بقعد في مكاني دقيقة، بنط برجلي الصغيرين على الأرض، بمشي في الطرقة الطويلة لحد السلالم، بقف في مكاني وأنا ماسك الدرابزين، براقبه، ابتسامتي بتوسع، واوقات كنت بغمض عيني من كتر ما أنا مستمتع، وهو زي ما يكون كان بيحس بوجودي عشان كان بيتألق أكتر في العزف كإنه بيتباهى...

وفي مرة وقف عزف ورفع راسه للمكان اللي كنت واقف فيه...

-أنت صحيت يا إبرام؟

=اه يا "مايكل"، الموسيقى حلوة أوي، كل يوم بصحى عليها وباجي أشوفك..

رجع بص قدامه وقال وهو بيمد إيده على البيانو:

-عارف!

على قد ما كنت فرحان بإقامته معانا، على قد ما ادايقت لما إقامته طولت، ليه يقعد شهر معانا، حتى لو عنده ظروف وباباه ومامته سافروا وسابوه، ليه إحنا اللي نستقبله دونًا عن كل قرايبنا ولحد إمتى؟

إحساسي اتبدل من فرحة رهيبة وونس بعد الوحدة اللي كنت فيها لإنزعاج، إحساس بالضيق، بالزحمة، مبقتش مرتاح في سريري الصغير، زهقت من إني مش عارف أتقلب براحتي وأنا نايم، زهقت من إني بقسم الأكل مع غيري، وإيدي بتاكلني وأنا بديله لعبي يلعب بيها، هو إمتى هيمشي؟

المرة دي العزف كان مختلف!

كان حزين، لحن هادي وحزين أوي، حسيت بتقل رهيب وأنا باسمعه، قومت، نطيت برجلي الصغيرين على الأرض، مشيت لحد السلالم من فوق وراقبت "مايكل" وهو بيعزف، كمل عزف شوية وبعدين رفع راسه وبصلي، عنيه كانت مغرغرة، مليانة دموع، كإنه عرف باللي جوايا وعاتبني بنظراته، واللحن الحزين كان انعكاس لإحساسه، إخص عليا! إخص عالبني آدم، صحيح إحنا جاحدين، وميملاش عنينا إلا التراب، شفت إيه من مايكل عشان اشيل منه، ضايقني في إيه، كل ده عشان أناني، اتعودت على الوحدة، مكنش ليا اخوات، مش مستحمل حد يشاركني حتى وقتي...

هربت منه، روحت على الحمام وقلت في نفسي لما أطلع هحايله، هضحك معاه وأعمل كل حاجة بنفس، زي الأيام الأولى ليه في البيت، أول ما خرجت سمعته بيعيط...

بيعيط بشحتفة، صعبان عليه نفسه، روحت لمصدر الصوت، لدولابي، ملقاش غير الدولاب ملجأ ليه، ينعزل ويهرب ويشكي حاله لربه، لكن...ملقتهوش!

الصوت كان لسه موجود بس في حته تانية، في الفراغ اللي ورا دولاب كتب الأطفال، روحت بتحمس بس ملقتهوش!

فضل يعيط، مقطعش ولا ثانية، وطول اليوم بجري من مكان لمكان أدور عليه ومش عارف ألاقيه...

قررت أقول لأمي وأمري لله، كنت عارف إنها هتعاتبني على المعاملة الوحشة اللي عاملتهاله لدرجة إنه يزعل بالشكل ده...

فاكر كويس، كانت ماسكة الإبرة والخيط، بتمارس هوايتها المفضلة، الكروشيه...

دخلت عليها وأنا راسي في الأرض وقلت:

=ماريا البيبي بيعيط!

أنا أصلي كنت ومازلت بناديها بإسمها، اتعودت على كده...

سابت اللي في إيديها، بصتلي وحواجبها اتعقدت وقالت:

-أنهي بيبي؟

=سوري، قصدي يعني مايكل..

-مايكل مين؟!

=مايكل يا ماريا، قريبنا، اللي جه من شهر عشان باباه ومامته سافروا ومكنش في حد يقعد معاه، هو قال لي كده...

ابتسامتها وسعت وقالت بنبرة حنونة وشقية في نفس الوقت:

-بجد؟ طب وأنت مبسوط مع صاحبك "مايكل" ده؟

مريحتنيش نبرتها، فهمت إنها بتاخدني على قد عقلي وده معناه...أنا بس اللي شايف مايكل! أنا بس اللي اتعاملت معاه طول الفترة اللي فاتت، لا أبويا ولا أمي شافوه ولا سمعوه، إيه اللي بيحصل؟

هل "مايكل" مش موجود؟ إزاي؟ أنا في حلم؟ بتخيل كل ده؟ لكن...

صوت العياط لسه شغال، كنت لسه سامعه بوضوح، والعزف على البيانو كل يوم؟ والأحاديث اللي دارت ما بينا؟ واللعب اللي لعبناه؟ والضحك، كل ده كان إيه؟

وصوت العياط اللي لسه شغال، العياط اللي كل شوية في مكان شكل، بيعمل صدى صوت في كل أركان البيت؟؟

جريت على أوضتي وقفلت على نفسي الباب، مددت على سريري وحطيت المخدة على دماغي، لكن العياط كان لسه واضح! كإن مفيش عازل على ودني...

اليوم بطوله ولحد ما الليل جه العياط فضل موجود، لا عايز يبطل ولا أهلي هيصدقوني، لكن الصبح افتكرت حاجة، مايكل لما عرف عن نفسه، قال إن إسمه "مايكل جورج"، والبيانو....

لو اللي في دماغي صح ماما ممكن تصدقني، أهي كانت محاولة...

لأول مرة من أكتر من سنة روحت وفتحت باب أوضتهم الصبح قبل ما أدخل الحمام، ماما كانت هي اللي بتجيلي الأوضة...

مشيت على أطراف صوابعي لحد السرير وهزيت ماما...

فتحت عنيها وهي مخضوضة، قالت:

-مالك يا إبرام؟

شاورتلها على بوقي بمعنى من غير كلام، وبعدين مسكت إيدها ومشينا بره الأوضة...

نزلنا من الدور التاني للأول، واتحركنا لحد البيانو...

زي ما توقعت، القماشة الضخمة كانت متشالة من عالبيانو...

بصتلي باستغراب وقالت:

-إيه يا إبرام؟ عايز توريني إيه؟

=البيانو...مكشوف.

عنيها وسعت عالآخر، مش بس عشان القماشة البيضة الكبيرة اتشالت من عليه وصوابع البيانو كانت مش متربة زي ما يكون حد بيعزف عليها من مدة، لكن برضه عشان خلال الشهر ده ماخدتش بالها، رايحة جايه هي وبابا على الصالونات وأيام تنضيف كامل للبيت ومع ذلك ملاحظتش، أكيد مكنش الموضوع على بالها من أساسه، والقماشة مختفية، مش موجودة في أي مكان!

ده اللي افتكرته، قلت يمكن يكون دليل على إني مش بخرف ولا ليا صديق خيالي زي ما هي كانت بتفكر، ده غير اسمه...

قلتلها وهي لسه في صدمتها:

-الولد قال لي إنه قريبنا، وان اسمه "مايكل جورج"...

بؤبؤ عنيها اتحرك واتثبت عليا، بوقها اتفتح، فضلت جامدة زي التمثال لثواني وبعدين ميلت عليا وقالتلي:

-إبرام، اسمعني كويس، كل اللي شفته ده كان حلم، مجرد حلم، مفيش حاجة منه حقيقة، مش حقيقي...

مكنتش محتاجة حد عبقري ولا كبير عشان يميز إنها بتكدب، أمي كانت بتكدب عليا عشان تحميني...

فطرت وروحت على أوضتي وبعد شوية خرجت منها واتسحبت على عتبة أوضة بابا وماما...

الباب كان مفتوح سنة صغيرة ومن الفتحة قدرت اشوف وشوشهم وأسمع كلامهم...

ماما قالت بنبرة مهزوزة:

-الولد بيشوف ولد تاني في البيت بقاله فترة..

-وفيها إيه طفل وخياله واسع؟ صديق خيالي أكيد.

-جدي كان عنده أخ مات وهو عنده 7 سنين بسبب نزلة شعبية، الولد كان إسمه "مايكل" وكان موهوب بطريقة غريبة، كان بيعزف على البيانو كإنه ملحن كبير..

-وده ماله ومال الولد اللي إبرام بيشوفه؟

-إبرام قال لي إنه اسمه "مايكل جورج"، أبو جدي إسمه جورج، والقماشة اللي على البيانو مش موجودة يا مينا بقالها مدة، وصوابع البيانو مش متربة...

بابا برق، سرح في الفراغ وبعدين ميل راسه وسألها:

-أنتي متأكدة إنك محكتيلهوش على مايكل؟

-وإيه المناسبة اللي هحكيله فيها؟

بابا وقع قاعد على الكرسي اللي في الأوضة، قلع نضارته وفضل ماسكها وهو سرحان...

وقتها بس فهمت إني اللي شفته...كان شبح، بس مكنتش لسه أدركت الحقيقة كاملة...

ومن هنا الأحداث كرت، كل حاجة حصلت بسرعة...

بدأت أحلم وأفتكر أحلامي كويس أوي، أحلام مكنتش مفهومة، وشوش أغلبها غريب عني، معرفهمش، وش معين كان بيتكرر معايا، كان مشوش، مش عارف أشوف الملامح بوضوح، بس اللي متأكد منه إن صاحبة الوش مكنتش سعيدة، في الأحلام يعني...

كنت بشوفها بتتقلب في سريرها، بتحاول تهرب من اللي شايفاه في أوضتها، بني آدم جسمه مدهون كله بالأبيض، بالظبط كإنه دهان، مش لون أبيض طبيعي بتاع الناس، متشعلق في السقف، بيبص لتحت، ليها، بيفتح بوقه عالآخر وسنانه السودة بتظهر، سنانه اللي عددها كبير، بوقه بيتمدد وهو بيبتسم عشان يساعي السنان دي...

وكنت بطير وبدخل جواها ووقتها، بروح عمارة، بطلع سلالم، بالراحة، سلمة وره سلمة،إيدي حاططها على الدرابزين، بوصل للدور التاني، بمد إيدي على الباب وبدخل، في صوت أنين، وكل لما أقرب من أوضة معينة الصوت بيعلى، في جوه الأوضة جثة واحدة ست، شعرها منعكش وهدومها متبهدلة، خط في نص بطنها نازل منه دم كتير مغرق الفرش وأحشاء خارجة من البطن!

أنا عارف إني مش أنا اللي بعيش الحالة دي لإني ببص على الإيد اللي بتفتح الباب ودي مش إيدي، دي إيد واحدة، البنت، البنت اللي وشها مشوش، كإني متقمصها، وبروح في أحلام تانية على غابة، بشوفها هناك مع واحد تاني، بيهربوا من أشباح وبيدوروا على شخص ضايع، كل اللي أعرفه إن البنت هادية، ده وصف الشخصيات التانية ليها في الحلم...

ده بالإضافة لوشوش كتير تانية، حوادث بشعة، كائنات غريبة، ناس بأزياء قديمة وأزياء من زمن تاني، زمن لسه مجاش...

كنت لسه تامم 6 سنين، لسه يدوبك من يوم واحد لما ماما قررت تاخدني ونروح نزور عمها في جاردن سيتي، العمارة عتيقة وأصيلة، حاجة كده فخمة، تصميمات مش بنشوفها دلوقتي، الأساسنسير كان الستايل البدائي شوية، بباب خارجي حديد، بنطلبه وييجي على رواقه، نفتح الباب الخارجي وبعدين الباب الداخلي الخشب وندخل ونقفل الباب ورانا والأساسنير ينطلق، أو بمعنى أصح يتمتخر على الدور اللي رايحله...

الدنيا كانت نهار وعشان كده كنت قادر أشوف كويس، ماما طلبت الأسانسير، كنت سامع صوته العالي كإنه قطر جي من سكة بعيدة، عيني اتثبتت فوق عند حبل الأساسنير في الدور الأخير، وده عشان شوفت وشين طالين عليا وبيبتسمولي، وش راجل في الأربعينات، وطفل وشه أسمر ومسمسم، كانت وشوش بس من غير أجسام، وعشان كده كان ليا استنتاج، بصيت لمامتي وقلتلها بمنتهى البراءة:

=ماريا، هم مين الناس الميتين اللي فوق دول؟

مسكت كفي جامد، شوية وكان هيتعصر في إيدها، قالت بصوت مهزوز:

-يالا بينا نمشي من هنا.

=ليه، طب وجده مشيل؟

-هنجيله مرة تانية..

جريت بيا على بره العمارة، وقفت تاكسي ورجعنا البيت..

المرة التانية اللي زورته فيها كانت بعد سنتين، خلالهم كانت بتزوره لوحدها، اللي عرفته لما كبرت إن كان في طيار في الأربعينات عايش في الشقة اللي قصاد جدي "ميشيل"، عم ماما، الراجل ده كان باين عليه إنه مبسوط أوي، عايش الدنيا بالطول والعرض، وسامة وخفة دم وستات بيترموا عليه من كل الجنسيات، سفر وسهرات واحتفالات طول اليوم، ودايمًا وشه مبتسم ومورد، هو وجدو "ميشيل" علاقتهم كانت لطيفة، مش صداقة عميقة بس علاقة لطيفة، بيصبحوا ويسلموا في الأيام اللي بيصادفوا فيها بعض، من وقت للتاني بيشربوا القهوة في بيت ده ولا بيت ده، الكلام ده فات عليه حوالي 40 سنة، جدي أكبر منه بسنتين مثلًا، وفي يوم...

جدي سمع صوت خبطة جامدة، صوت بره شقته، الساعة كانت 3 بعد نص الليل، قام مفزوع، خرج بره شقته وهو حافي، بقى يدور حواليه على مصدر الخبطة، إيه اللي وقع؟

ملقاش حاجة، رجع الشقة وكمل نوم...

تاني يوم الصبح صحي على صويت، خرج للمرة التانية مفزوع بالفانلة اللي كان نايم بيها عشان يشوف منظر رهيب، جثة الطيار على ضهر الأساسنير، "ممدوح" انتحر!

صوت الخبطة هي جسمه اللي خبط في الأسانسير بعد ما فتح الباب الحديد ونط...

"ممدوح" اللي فيما يبدو عايش حياة سعيدة، سعيدة إيه، ده وصف قليل عليها، عايش حياة الكل بيحسده عليها انتحر، "ممدوح" اللي ضحكته مش بتفارقه، مرعب اللي مستخبي وره الأسوار العالية، أسوار النفس البشرية...

لحد اللحظة دي محدش عارف الطيار "ممدوح" انتحر ليه، إيه المأساة اللي عاشها وخباها عن الكل بما فيهم أهله، لحد ما جدي "ميشيل" مات كان لسه بيحكي عنه، بيحكي كإنه بيعرفنا عليه لأول مرة، وده بسبب الخرف والنسيان، والموضوع زاد لما اتصاب بالزهايمر، بقى يتكلم عن "ممدوح" كتير أوي، وعنيه بتغرغر بالدموع...

.................

في بواب إسمه "حسونة" كان مسؤول عن عمارة جدو "ميشيل" زمان، كان معاه بس إبنه "مؤمن"، "مؤمن" كان صغير سنه ميكملش ال8 سنين، محدش يعرف ليه بس "مؤمن" اللي مع "حسونة"، فين باقي الأسرة؟ محدش اتجرأ من العمارة يسأله عشان ميجرحوش، لكن في الغالب أم "مؤمن" كانت متوفية، و"حسونة" كانت روحه في "مؤمن"، بيدلعه دلع فظيع، مش هو بس، كل سكان العمارة، وده بصراحة عشان الولد كان أمور أوي، اسمر خالص وملامحه مسمسمة وعنده غمازتين في خدوده، اللي رايح واللي جي يديله حتة شكولاته ولا فلوس، ولا حتى يجيبلوله هدوم، وفي يوم الولد ركب الأسانسير، والأسانسير وقف بيه، وللأسف حاول يخرج بإنه ينط على أقرب دور لكن وقتها الأسانسير اشتغل وجسمه اتفصل عن راسه، الصدمة كانت شديدة أوي على جدو ميشيل وأهل العمارة كلهم، لكن وضعهم ميتقارنش بوضع "حسونة" طبعًا، الراجل شبه فقد عقله، حاول يتماسك ويكمل شغله بس مقدرش، وزي ما استنتجتوا كده ده الوش التاني اللي شفته في حبال الأسانسير من فوق، وش الطفل...

ماما عرفت قبليا، عرفت إني طفل مش طبيعي...

افتكرت في الأول إن موضوع شبح "مايكل" كان مرتبط بالبيت اللي عايشين فيه، بما إنه عاش هناك زمان، لكن بعد موضوع عمارة جاردن سيتي استوعبت إن المسألة متعلقة بيا أنا، وده من غير ما أحكيلها على كل الأحلام اللي كنت بشوفها....

لكن كل الظواهر مكنتش مستمرة بشكل يومي أو حتى كل أسبوع، كل فترة، لكن الأكتر والأوضح كانت ظاهرة تانية...

أول مرة حصلتلي كان عندي 10 سنين، كنت قاعد بذاكر مع ماما زي ما متعود، الجو كان حر وتراب، ما بين الشتا والصيف، مودي مكنش لطيف وماما كمان وده مش بس عشان الجو، عشان أنا متعب في المذاكرة ومش بركز، كنا قاعدين على الأرض قرب البيانو، فارشين الكتب والكراسات وفجأة قمت...

ماما ندهتني عشان أقعد واكمل مذاكرة بس أنا اتجاهلتها وبعدين...

بحركة عصبية فضلت ألف في دايرة كبيرة، من غير ما اقف، لمدة ربع ساعة!

محدش قدر عليا، اللي كان يقربلي سواء ماما أو بابا كنت بزقه بقوة وأوقعه زي الحيوان المسعور وأكمل لف وأخيرًا وقفت...ووقعت مكاني...

أغمى عليا وفضلت على كده ساعات، جابولي دكتور، قال إني نايم، نوم عميق...

كانوا هيتجننوا من القلق والحيرة، إيه اللي حصل لي، دي نوبة؟ عندي صرع؟...

الإجابة جت تاني يوم...

حصل زلزال قوي!

بيتنا اتهز جامد، النجف والسراير والطرابيزات، بس الحمد لله محدش اتأذى.

لكن مش كل الناس نجيت، في مباني اتهدت، ناس اتعورت وناس ماتت، وجثث فضلت تحت الأنقاض أيام، صحيح نسبة الوفيات مكنتش كتير، بس ده ميمنعش إن الزلزال كان مرعب، ومش متوقع، بس بطريقة أو بأخرى نقدر نقول إن في حد توقعه، حد زيي...

ومن هنا بقى في نمط...

لما بقوم فجأة وألف في دايرة أبويا وأمي بيفهموا إن في حدث كبير جي، زي لما في اسكندرية في بداية الشتا واحنا بنتمشى على الكورنيش، وقفت في مكاني وهم كانوا مكملين مشي، بعد ثواني اخدوا بالهم إني مش جنبهم، لفوا ليا وشافوا المنظر...

بعد ما النوبة خلصت أخدوني ورجعنا الشقة اللي كنا مأجرينها، لمينا حاجتنا ورجعنا القاهرة، تاني يوم كان في نوة، البحر هاج، الموج علي وغرق مطعم صغير بالقرب من البحر، المطعم اتهد وفي ناس ماتت...

وهكذا، كل لما تجيلي النوبة دي تحصل كارثة كبيرة....

للأسف قرايبي أخدوا بالهم وده لإن كذه مرة تجيلي النوبة وسطهم وبعدها حد بيموت، حد له علاقة بالمكان اللي بتحصل لي فيه النوبة...

يعني يا تكون في كارثة طبيعية جايه يا حد يموت...

ومن وقتها وكل قرايبي بيتجنبوني، كلهم بيتلككوا عشان ميشوفناش، لا أنا ولا أمي ولا أبويا، بقوا بيتشائموا مني...

وشوية شوية دخلت جوه الجحر بتاعي، قررت انعزل عن العالم كله، محاولش أقرب من حد ولا أسمح لحد يقرب مني، أنا مختلف، والناس بتخاف من الحاجة المختلفة، مقدرش ألومهم ولا هستحمل الخوف في عيونهم لما يشوفوا تصرفاتي...

......................................

كانت بداية الدراسة، شهر 10، أبويا وأمي مكنش معاهم فلوس يخلوني اشترك في أتوبيس المدرسة، كنت وقتها كبرت كفاية وأتعودت على المواصلات العامة، أظن كان عندي 15 سنة...

ركبت الأتوبيس العام اللي بيعدي على مدرستي، قعدت جنب الشباك كالعادة، فضلت باصص منه على الطريق، اللي يبان إني براقب، لكن الحقيقة إني مكنتش مركز، ولا في بالي، ولا شايف ولا سامع حد، وبرغم كده انتبهت بعد فترة إن في حاجة مش مظبوطة...

الدوشة حواليا اتبدلت، الأصوات مبقتش هي الأصوات...

مبقاش جعير رجالة وستات كبار متذمرين وخلقهم ضيق، دي أصوات أطفال ومراهقين، لفيت راسي الناحية التانية، لقيت الأتوبيس كله عيال، لابسين لبس موحد، بيضحكوا ويزعقوا ويغنوا، في ولد وجه كلامه للسواق وقال بصوت عالي:

-هو إحنا قدامنا كتير؟

-لأ خلاص، داخلين عالعباسية، أقعد مكانك...

السواق بعدها ملامحه اتغيرت، اتشنج، عنيه قفلت، قال بصوت واطي أوي: آه..

في حاجة مش مظبوطة، السواق فيه حاجة، إيديه فلتت من الدريكسيون والأتوبيس خرج عن مساره...

"الحقونا!"

طلعت راسي من الشباك وطلبت المساعدة من الناس في الشارع، محدش عبرني...

العيال بقت تصرخ، والأتوبيس عمال يتهز يمين وشمال وأنا بصرخ معاهم، مش عايز أموت، مش عايز أموت، الأتوبيس بيخبط في عربية من قدامه وعربية تانية من وراه بتخبط فيه، وعربية وراها خبطت وعربية وراها، عدد كبير، الدنيا بقت معجنة، صويت في كل مكان، دم...دم مغرق الأرصفة، وأنا...أنا إيه حصل لي، أنا فين دلوقت؟...

أنا قاعد لسه في مكاني والمنظر حواليا اتبدل، رجع تاني زي الأول، رجالة وستات كبار متذمرين، حواجبهم معقودة ومش طايقين نفسهم، نفسه الأتوبيس العام اللي ركبته، لكن، كلهم، كلهم كانوا بيبصولي باستغراب، واحد منهم قال لي:

-مالك يا بني؟ نلحقك من إيه؟

=الأتوبيس، أتوبيس المدرسة، السواق، سكتة قلبية، العربية هتفلت منه، العيال، العربيات!

اللي حطت إيدها على بوقها، واللي قال "لا حول ولا قوة إلا بالله"، واللي مصمصت بشفايفها، افتكروني مجنون!

المفروض كنت أعمل إيه؟ وإيه اللي شفته بالظبط؟ هل دي كانت مشاهد من الماضي ولا المستقبل؟ دي كانت أول تجربة ليا بالشكل والوضوح ده...

لكن إحساس قوي كان بيقول لي إن ده حدث لسه هيحصل، والمفروض أتحرك عشان أوقفه...

أتحرك في أنهي اتجاه؟ أروح لمين؟

أبلغ الشرطة، وده طبيعي؟ هيصدقوني؟ ولا مصيبة لو صدقوني، يفتكروا إن الأتوبيس عليه قنبلة مثلًا وأنا إرهابي ولا أهلي إرهابيين وعندي معلومة ببلغها...

ده شبه...شبه موقف البنت إياها اللي كنت بشوفها في الأحلام، اللي شافت جريمة قتل، وقدرت توصل للقاتل بمساعدة ظابط، لكن دي كانت أحلام، إيش عارفني الحقيقة من الخيال وإيش عرفني إن ده هيحصل معايا؟؟

كنت هتجنن، مش عارف أعمل إيه، الوقت بيمر والحادثة كان ممكن تحصل في أي وقت، لكن تاني يوم افتكرت حاجة....

أقرب عمارة لينا ساكن فيها ظابط، وشه مألوف، بنتقابل كتير صدفة، أقول له...لأ، لأ، إحنا مكناش قريبين للدرجة دي، يدوبك معرفة سطحية، بس أنا مكنش عندي غيره...

لقيتها!

أنا عارف بيركن عربيته فين، هو ده الحل...

كتبت في ورقة كل المعلومات اللي عندي، إن المدرسة في العباسية وإن الأتوبيس هيكون في طريقه ليها الصبح، وصفت الشارع اللي هتحصل فيه الحادثة، وشكل الأتوبيس وشكل السواق، كل تفصيلة كنت فاكرها، ونزلت بدري عن معادي، لزقت الورقة في الإزاز الأمامي بتاع عربيته، وصليت لربنا إنه يقراها...

كان عندي أمل كبير إني ممكن أمنع الحادثة بالمعلومات اللي عندي، بس الأمل اتحطم لما الحادثة حصلت بعدها بإسبوع وأخبارها بقت في كل مكان!

اللي سمعته بعد كده إن في ظابط ادعى إنه لقى ورقة فيها تفاصيل الحادثة قبل ما تحصل لكنه رمى الورقة وتجاهل المكتوب...

أنا الوحيد اللي يعرف مين الظابط ومين صاحب الرسالة، وكل المعلومات دي بما فيها تفاصيل الحادثة ملهاش لازمة، ملهاش لازمة!

ومن ساعتها قررت...

أيًا كان اللي هشوفه بعد كده، والنوبات اللي هتجيني، والأحلام، والأشباح، مش هتحرك، مش هعمل مجهود، القدر مفيش حد يقدر يوقفه...

وفعلًا تجاهلت كل اللي بشوفه لمدة 10 سنين كاملين، لحد ليلة معينة...

عيني فتحت فجأة بعد نص الليل، وده عشان سمعت حاجة، خرجت من أوضتي، مشيت في الطرقة الطويلة وأنا حافي لحد السلالم من فوق...

مديت إيدي ومسكت الدرابزين، الصوت بقى أوضح، عيني اتثبتت على البيانو، وده عشان المقطوعة اللي كانت شغالة وصوابع البيانو اللي بتتحرك قصاد عيني...

المقطوعة دي مألوفة...

سمعتها فين قبل كده، سمعتها فين؟

دي الموسيقى اللي كان مايكل بيعزفها، لفيت لقيته في وشي، مايكل!

-تعالى معايا...

مد إيده ومسك إيدي، والدنيا بقت مشوشة...

كنت بتحرك بسرعة في حاجة تشبه النفق، بسرعة رهيبة كإني جوه صاروخ، لحد ما أخيرًا وصلت...

حواليا كانت قرية بسيطة، الناس كانت لابسة جلاليب وعبايات ولبس عادي شبه بتاعنا، الكل كان بيتحرك، بس فجأة الحركة خفت، اللي في السوق بيلم بضاعته واللي ماشي بيسرع في ماشيته، الدنيا بدأت تفضى، الناس بتروح فين؟

قربت مني بنت شكلها عندها 18 أو 19 بالكتير، بصتلي باستغراب وقالتلي:

-بتعمل إيه هنا؟ الشمس بدأت تغيب، روح..

أيوه بس أنا مش عارف أروح، مش عارف السكة، مش عارف أنا فين...

البنت هي كمان جريت واختفت وأنا بقيت لوحدي، هو صحيح أنا لوحدي؟

في وجود معايا، زحمة، أنا مش لوحدي، ورايا، أنفاس في ضهري، لفيت ببطء وشفتهم في كل مكان...ضلال سودة..

صحيت وأنا بشهق، مش عارف أخد نفسي، كان حي أوي، الحلم حي أوي، كإنه حقيقة...

قعدت على السرير، فضلت سرحان في الفراغ قدامي، شوية شوية أنفاسي انتظمت، لفيت بجسمي، حطيت رجلي عالأرض وبدأت اتحرك...

برغم ذعري أول ما صحيت، لكن هديت وكملت روتيني اليومي عادي جدًا، لبست اللبس الفورمال الخنيق بتاع الشغل ونزلت واتوجهت ليه، حاولت أنسى الحلم بتفاصيله زي ما كنت بنسى وبتجاهل أي حاجة ليها علاقة بالجانب الغريب ليا، حتى إني كنت بدأت أقنع نفسي إن دي كلها أوهام، الأشباح والأحلام والرؤى كلها مجرد خيال خصب مش أكتر..

كنت مستعد أكمل تجاهل لولا المنظر اللي شفته في الشغل، شفت زميلي حاطط على وشه قناع، قناع مخيف، بشع، مفيهوش أي ابتكار، مجرد في شرطتين في مكان العيون وشرطة على المناخير والبوق، وزي ما يكون...زي ما يكون معمول من الجلد، في البداية اتخضيت ومفهمتش المقلب السخيف اللي زميلي عامله فيا، بس بعدين اكتشفت إنه مكنش مقلب، وزميلي مكنش لابس قناع، أنا اللي شفت القناع الجلد للحظات وبعدين مبقاش موجود!

يا أهلًا...

واضح كده إنها كانت بداية سلسلة جديدة من التخاريف...

لكن معرفش ليه كان عندي إحساس قوي إن المشهد ده كان ليه علاقة بالحلم الغريب اللي شفته الليلة اللي قبلها، بتاع القرية الريفية، أو اللي في الصعيد...

وزي ما توقعت دي كانت بس البداية...

الليلة اللي بعدها حلمت إن ماما بتهزني وبتفوقني وهي بتقول:

-في ضيفة عشانك بره...

الدنيا كانت بتتهز حواليا، ماشي بتخبط، الرؤية مشوشة، نزلت السلالم وأنا مبهدل وحافي وشفتها قاعدة في صالون من الصالونات....

هي، هي نفسها البنت اللي كنت بشوفها زمان في أحلامي، لكن المرة دي ملامحها واضحة و...كبيرة كتير عن ما كنت بشوفها، البنت الهادية...

-إبرام؟

=إنتي؟...

-أنا هادية..

=هادية!

حركت راسي ورجعت بصيت ليها:

=أنا كنت فاهم غلط، إسمك هادية، مش الوصف بتاعك، إنتي..بتشوفي من وإنتي صغيرة حاجات غريبة، بتشوفي العالم المحجوب وساعدتي في حل قضايا وجوزك...

-"رائد" وأخوه "ريان" اللي كان سبب في إني أتعرف عليهK كان عنده مشكلة كده وساعدته...أااا...أنا شبهك، لحد كبير، مع شوية اختلافات، أنت مش بتشوف جن وشياطين، أنا بشوفهم، زمان كنت بشوفهم أكتر، وبشوف تفاصيل جرايم وظواهر خارقة اتسببت في أذية ناس، لكن أنت عندك حاسة رهيبة، حاسة سادسة تشبه اللي عند الحيوانات اللي بيستقبلوا ذبدبات فوق قدراتنا، ومن خلالها بيعرفوا إن في كارثة طبيعية هتحصل، ده اللي بيميزك...ومن وقت للتاني بتشوف تفاصيل عن حوادث في المستقبل أو الماضي، ده غير إن قلبك بيتقبض لما بتدخل مكان فيه طاقة سلبية، قصة مأساوية مثلًا...

كنت بفكر وقتها إمتى هصحى من الحلم، الحلم طول قوي...

غمضت عيني وفتحتها لقيتها لسه قدامي!

-إبرام، أنت مش بتحلم!

يا الله، أنا مش بحلم!

التشويش قل والدنيا بقت واضحة، ماما فعلًا صحتني ولسه مكنتش فايق عشان كده الرؤية كانت منغبشة ومن غرابة اللي بيحصل افترضت إنه حلم...

"هادية" قالت بعصبية بعد ما كانت محافظة على هدوئها:

-في قرية في الصعيد، في قنا، فيها حاجة بشعة بتحصل!

هزيت راسي جامد بنفي كلامها ورديت:

=تخاريف.

-تخاريف؟ أنا بقالي شهر بشوفك في أحلامي وكام يوم بشوف القرية وبشوفك فيها، طب القرية دي أنت مش بتشوفها؟...

قمت وأنا متعصب وأديتها ضهري وزعقت:

=كلها تخاريف..

-بجد؟ أنت مصدق ده؟

لفيت ليها تاني وقلت:

=مفيش حد يقدر يمنع القدر، التنبؤات أو الرؤى صاحبها مش بيقدر يعمل حاجة عشان يوقفها، بتبقى زي لحظات تجلي وشفافية، زي ما قلتي قدرات عادية عند الحيوانات مثلًا، وبالنسبة لنا استثنائية وخارقة، بيحسوا ب ذبذات، نقول حركة في طبقات الأرض، اللي هو الزلزال، وعشان كده بيعرفوا قبلنا، لإن الحركة بتبقى فعلًا بدأت، لكن هل الحيوانات تقدر بكل الدوشة اللي بتعملها والدواير اللي تمشي فيها توقف الزلزال، متضحكيش على نفسك، قدراتي أنا وأنتي، واللي زينا محدودة، في الآخر مش هنقدر ننقذ حد!

-محدش يقدر يمنع القدر، مظبوط، بس افرض لو القدر هو إننا نكون جزء من الحدث؟ جزء من القصة؟ مش المفروض نحاول؟ حوادث هنقدر نوقفها وحوادث لأ، حتى لو مش هنقدر نمنع حدوثها في حد ذاتها يا نحذر الناس، يا نحقق العدالة، أنا كنت زيك فاقدة الأمل، وكنت بكره الهبة دي وشايفة إني عاجزة وإني بدبل يوم بعد يوم، لكن لما تقبلتها واتحركت، مبقاش يهمني رأي الناس، يقولوا عليا مخبولة ولا نصابة، لما اتحركت لقيت نتايج وكله أكيد ضمن قدر ربنا اللي كتبه، أنا مجرد سبب...

=إسم القرية؟

-الضلال السودة، ده الإسم المنتشر ما بين سكانها والقرى حواليها...

طلبت منها الإسم الحقيقي، قالتهولي، وحكتلي اللي تعرفه عن القرية من الأحلام اللش شافتها والبحث اللي عملته...

القرية من سنين كتير، يمكن أكتر من 60 سنة بدأت فيها الظواهر الغريبة، كإنها لعنة نزلت عليها وعلى سكانها، محدش يعرف الأصل، إمتى بالظبط الحدث الأول، أول يوم حصل  فيه سبب الظواهر...

مع بداية غروب الشمس مش بس الأحياء هم اللي بيمشوا في الحواري الضيقة والأكشاك والسوق...

معاهم ضلال سودة من غير ملامح، بتمشي هيمانة، طافية، في اللي بيشوفها ويعدي من جنبها وتعدي معاه سلامات، وفي...

اللي مبيرجعش، ولا بيعرفوا إذا كان عايش ولا جثته بتظهر، بيختفي للأبد، واللي بيفقد النطق ومش بيستجيب لأي كلام أو حركة، بيرمش بس وبليل بيتحول زومبي!

يعني بيبقى اشبه حاجة للزومبي، بيمسك سلاح، بندقية، سكينة، بلطة، منشار، فاس، أو حتى حتة خشبة، أي حاجة في إيده، ويقتل أكبر عدد من الناس لحد ما حد يقدر عليه، بيخلص الأول على أهل بيته ويخرج يخبط على الأبواب، والبيت اللي يفتحله يحصل فيه زي أهل بيته...

كل دول اتقبض عليهم وكلهم اتحولوا لمستشفى الأمراض العقلية أو اتحاكموا، محدش فيهم نطق بقية حياته إلا اتنين، الاتنين قالوا نفس الكلام، همس، بعد ما شافوا الضلال، سمعوا همس، مش بس سمعوه، ده سيطر عليهم، الهمسات مش من مصدر خارجي، دي في ودانهم وعقلهم، في كل مكان، عشان كده حتى لو حاولوا يسدوا ودانهم مفيش فايدة، الهمسات في كيانهم نفسه، انتشرت واتمكنت...

كل الهمسات ليها رسالة واحدة  :"اقتلهم...اقتلهم كلهم"

بعد ما خلصت سهمت شوية وسألتها:

=طب وإحنا بإيدينا إيه نعمله؟

-أنا شوفتك في الحلم، جوه القرية، متهيألي يا إبرام إحنا محتاجين ندور على السبب، أصل اللعنة، زي كده المريض اللي لازم زي ما يدور على العلاج يعرف مصدر مرضه، العلاج أوقات كتير أصلًا ملوش لازمة من غير ما السبب يتعرف، مش هيبقى فعال...

=وأنتي شايفة إني هقدر أعرف السبب بالقدرات بتاعتي؟...بس أنتي أكيد مدركة إن إحنا مش بنتحكم، إحنا مش سحرة، الرؤى والأحلام مش بتييجي على هوانا...

-عارفة، لكن مع قدراتك أنت بالذات... إبرام أنت تشبه الحيوانات في الحس العالي بتاعهم، ممكن متشوفش حاجة واضحة، بس أكيد بتحس بأي قوى مظلمة أو تقيلة في أي مكان له تاريخ وفورًا، شبه البوصلة، وده كتير ممكن يبقى فعال عن إنك تشوف شيطان...

قلتلها تيجيلي تاني يوم بعد الضهر، أفكاري كانت في حالة فوضى، مقررتش أصلًا إذا كنت هساعد القرية دي ولا لأ، لأني كنت خايف ومش واثق إذا كنت فعلًا هقدر أساعدهم...

صحيت الصبح على ريحة البليلة، ماما كان بقالها زمن معملتهاش...

دخلت المطبخ وانا ببتسم، قالتلي وهي باصة في القدرة:

-كنت عارفة إني هجيبك بيها، هي دي اللي هتعدل مزاجك.

سندت على الطرابيزة وابتسامتي وسعت وقلت:

=قلبي ومفتاحه.

بعد ما كانت مدياني ضهرها لفت... وشها!

وشها كان عبارة عن قناع جلد، في شرطتين في منطقة العين وشرطة عند المناخير وشرطة تانية عند البوق، قالتلي بصوت مرعب، صوت مش صوتها:

-بذمتك مش نفسك تقتلهم كلهم؟

رجلي سابت، مكنتش قادر اقف على حيلي، حاولت أخرج، بس كنت عمال أتخبطت، أخيرًا خرجت من المطبخ، جريت بأقصى سرعة لحد ما خبطت في بابا...

-مالك يا إبرام؟ في إيه؟

=ماريا، الحقني يا بابا، ماما... وشها..

ده كان قبل ما أرفع راسي وأشوف نفس القناع على وشه، ضحك ضحكة شيطانية..

فلتت من إيديه ونزلت عالسلم، مع كل درجة كان في عضو! مرة قلب، مرة كلى، مرة رئة، أشلاء في كل السلم وفي أرضية الصالونات...

وانا واقف براقب المنظر صوت البيانو اشتغل، مقطوعة مايكل، وساعتها ظهروا...

زحمة، عدد مهول من الناس في الصالونات ولحد باب البيت، مفيش مكان فاضي، وكل الناس دي لابسين أقنعة جلد!

 كلهم بيبصول عليا، هي هي، سواء رجعت لورا أو اتقدمت، مش فارقة، أنا متحاصر...

نزلت من السلم ومشيت وسطهم، بمعنى اصح كنت محشور، بتحرك بقوة الدفع، سمعت صرخة، اتلفت للمصدر، وقتها كل الناس اختفت وأبويا وأمي ظهروا بيجروا من مسافة...

وصلولي، عنيهم كان كلها قلق...سألوني في نفس الوقت:

-مالك، جريت مني ليه؟

-في إيه يا إبرام خفت من إيه؟

في اللحظة دي أدركت إني لازم أتحرك...رديت:

=اللي حصل في قرية الضلال السودة بشع، واللي هيحصل أبشع.

طلعت بسرعة على أوضتي، نزلت شنطة السفر وحطيت كام حاجة من هدومي، وانطلقت من غير ما أقول لهم رايح على فين ومن غير ما أبلغ هادية...

لا عايزها تعطلني ولا أقدر أتحمل إنها تتأذي، دي شيلتي أنا لوحدي...

المسافة بالقطر أخدت 7 ساعات، وصلت قرب العصر، يعني مكنش فاضل وقت كبير عالغروب...

أول ما دخلت القرية كإن الحياة كلها وقفت، كل الناس وقفوا اللي بيعملوه وبصولي، واضح كده إن مفيش حد غريب بيدخل القرية، محدش قرب مني، مفيش غير ولد مراهق عنده 13 سنة مثلًا هو اللي اتجرأ أخيرًا وقربلي...

-بتدور على حد؟

=أنااا..تقدر تعتبرني زي صحفي كده وبعمل تحقيق.

-تحقيق؟

=يعني، عايز أعمل موضوع، عندي شوية أسئلة وعايز إجابات، القرية بتاعتكوا عليها كلام كتير...كلام عن ظواهر غريبة، ضلال...

الولد وشه جاب ألوان، وبعد خطوتين...

مديت إيديا وقلتله:

=متقلقش، أنا عايز منك خدمتين صغيرين بس.

مسألنيش، استناني اكمل، لكن وشه كان كله أسئلة...

=أنا معايا موبايل قديم معلهوش خط، بس الكاميرة بتاعته شغالة، هديلك الموبايل ليوم كامل، لحد بكره بس عايزك مشغل الكاميرا طول الوقت، في الشارع والبيت، طبعًا هتحذر أهلك عشان يكونوا عاملين حسابهم، معلش هخنقكوا بس ده لحد بكره بس، وبعدين ليك عندي الحلاوة...

مديت إيدي في جيبي وطلعت الموبايل واديتهوله...

=الخدمة التانية...عايزك تدلني على بيت أو مكان اقدر أبات فيه، حد هنا بيأجر أوض للزوار؟

-اسأل عن عم "شحاتة".

=تمام متشكر يا ...

-توفيق..

الوضع كان مريب أوي، لحد اللحظة دي مفيش حد من الأهالي اتكلم معايا، كلهم كانوا لسه في عرض مسرحي صامت، عنيهم بس اللي بتتحرك وهم بيراقبوني وأنا بمشي...

سألت كام واحد وأنا في السكة على بيت عم "شحاتة" ودلوني على المسار...

كنت شايف البيت على بعد كام متر، والمكان اللي فيه كان هادي، مفيهوش حد، شفتها ماشية ناحيتي، بنت، شابة، شكلها مش غريب عليا...

-بتعمل إيه هنا؟ الشمس بدأت تغيب، روح..

دي هي، نفسها اللي شفتها في أول حلم ليا عن القرية...

كنت خايف، عيني بتطرف بس استجمعت شجاعتي وسألتها:

=هو إيه اللي بيحصل هنا بعد المغرب؟

عينيها زاغت، اتركزت ورايا كإنها بتبص لحاجة..

حركت إيديها واتكلمت بسرعة:

-هم هنا، موجودين، موجودين في كل حته، كل الوقت، إيه اللي جابك يا غريب، محدش في أمان منهم...

=مين هم؟

-الضلال..

بوقها اتفتح، صدرها علي وهبط بطريقة هستيرية، رفعت إيدها وشاورت ورايا...

كنت حاسس بوجود ورايا، أنفاس قوية، اتلفت لكن ملقتش حاجة، لفيت تاني ليها ملقتهاش!

معرفش إزاي رجلي شالتني لبيت "شحاتة"، البيت شبه بيوت الفلاحين القديمة، مفيش زيه في القرية، كلها عمارات قصيرة من كام دور...

خبطت وفضلت شوية عبال ما فتحلي..

فتحت بوقي عشان أعرفه على نفسي، لقيته بيقول:

-في ناس بلغتني بوجودك، اتفضل...

بعد ما قعدت قلت:

=أنا اسمس إبرام و...

قاطعني:

-في واحد زيك جه من ييجي 10 سنين، كان صحفي من مصر، كان عنده شوية أسئلة، أصل المكان هنا معروف وعليه حكاوي زي ما أنت عارف، استقبلته في البيت عندي، كان فضولي، متحمس للإجابات، عايز حكاية حلوة للجرنال بتاعه، بس بيني وبينك مظنش كان مصدق بجد في الحكاية، الضلال والمصايب اللي حصلت ولسه بتحصل، عشان كده مخدش حذره، خرج بعد ما الشمس غابت، كان مبسوط وهو خارج من البيت برغم تنبيهاتي عليه، ومرجعش...محدش شافه حي ولا ميت لحد يومنا ده...في ناس قالوا إنهم سمعوا صراخ رهيب، صراخ استمر وقت كبير كإن في حيوان بيتدبح بسكينة تلمة، لكن محدش اتجرأ يخرج من بيته يلحقه...

بلعت ريقي بصوت مسموع، القرية مرعبة أكتر ما كنت متصور وإحساس قوي بيقول لي إن الحدث الأكبر هيحصل وبسرعة أوي...

-مفيش غير قاعدة واحدة هنا، إوعي تخرج في الخلا بعد المغرب..

مقدرتش أنام ولا دقيقة، أسئلة بتدور في بالي، بس سؤال واحد منهم هيجنني، يا ترى أكمل في التمثيلية، هم لوحدهم افترضوا إني صحفي وعايز أعمل قصة، أكمل في الدور اللي رسموه ليا ولا أقول الحقيقة؟ إني عندي يقين إن في كارثة هتحصل لهم بسبب لعنة الضلال السودة، يمكن الحقيقة تنقذهم، لكن هو في حد هيصدق؟ أقول إيه، إني بشوف من صغري أشباح وبحس بالزلازل قبل ما تقع والموت قبل ما يهل؟ وإني شفت قريتهم وحسيت بطاقة الموت بتحاوطهم؟ مش بعيد يشيلوني هيلا بيلا ويرموني بره القرية...

الوقت اتسحب مني واكتشفت إن خلاص كده مش هينفع أحاول حتى أنام، خيوط الفجر ظهرت، خرجت بره الأوضة اللي "شحاتة" اتفضل عليا وخلاني أبات فيها، لازم وفورًا كنت ابدأ تحقيق مكثف مع كل واحد أقابله في وشي، يمكن أوصل للحقيقة، لنقطة الصفر ومنها ألاقي الحل، يمكن أقدر أنقذهم وكمان كان لازم أروح على المكان اللي اتفقت أقابل الولد فيه، اللي أخد الموبايل والمفروض مقفلش الكاميرا، جريت على الباب قبل ما حد من البيت يصحى، لكن وقفني صوتها...

ست كبيرة، مشيتها بطيئة...

-أنت بتعمل إيا يا إبني؟

=أنا ضيف عند عم "شحاتة"، مش حد اتسلل، ودلوقتي هخرج أشوف شغلي.

-أنا عارفة إنت مين، أنت الصحفي، أنا قصدي بتعمل إيه هنا؟ المكان ده مش للغرب، إحنا عايشين بقالنا زمن مع البلاوي وعارفين نتصرف معاها...

جه في بالي حاجة، دي ست كبيرة، فوق السبعين، يمكن أكتر واحدة تفيدني، تحقيقي لازم يبدأ من هنا...

=حضرتك..

-أم شحاتة..

=ممكن تحكيلي كل حاجة تعرفيها عن الظواهر...

-الضلال السودة؟

=أيوه...

شاورتلي على ساحة، هناك قعدت على كنبة وهي قعدت قدامي..

-كنت صغيرة، بس مش صغيرة أوي، بعدها بكام سنة اتجوزت، يعني عقلي كان شغال، والله ما أعرف، كإنه حلم، يمكن شوية منه حلم وشوية حقيقي، أصله غريب أوي، اللي حصل غريب...كنت في الشارع مع أمي راجعين من عند جدتي، ناس كتير كانت بتمشي وتشوف مصالحها، الشمس بدأت تغيب، ومع الناس، حوالينا، في كل مكان ظهرت ضلال، ضلال سودة، هايمة، الكل بقى يتلفت زي المجنون، وبعد شوية سكوت، الناس بقت تصرخ، تجري مش عاربة بتهرب لفين، مش كل الناس رجعت بيوتهم اليوم ده، ييجي 10 محدش عرف طريقهم، وأكتر منهم لقوا جثثهم متقطعة زي ما يكون الديب هجم عليهم، وتاني يوم يا ابني رجالة وستات كتير طوحوا في الناس الضرب وقتلوا ياما، كإنه الداء اللي بيصيب الحيوانات ويخليها تتجن، مكنتش أول مرة الضلال تتشاف فيها، كانت بس البداية...الضلال ظهرت في اليوم اللي بعده واللي بعده واللي بعده، وعرفنا إنهم هيفضلوا وإحنا اللي لازم نستخبى، وأدينا عايشين وبنتعامل، إحنا بتوع الصبح وهم بتوع بليل...

=عندي كذه سؤال..

-اتفضل يا ابني.

=إيه تصوركم عنهم؟ جن مثلًا؟ وبعدين حضرتك قلتي إن الموضوع بدأ وإنتي طفلة بس كنتي مدركة، وكام سنة واتجوزتي، كنتوا بتتجوزوا بدري أوي، يعني نقول لو اتجوزتي وإنتي عندك 13، مثلًا الضلال بدأت تظهر وإنتي 10 سنين...

-اه يا بني احتمال، احنا مش بنحسب السن، زمان يعني، منعرفش إذا كنا 10 ولا 15 سنة...

=يعني نقول 10 سنين قضيتهم هنا من غير ضلال، إيه اللي اتغير؟

-بالنسبة للسؤال الأولاني، اه يا ابني، أكيد أغلبنا مفكرينه جن، بس برضه، جن غريب، غير اللي كنا بنسمع عنه في حكايات الملبوسين، والسؤال التاني حلو بس معنديش إجابة ليه، مش عارفة إيه اللي رماهم علينا..

=والأقنعة؟

-أقنعة؟

=الأقنعة الجلد...

-أقنعة إيه؟

=أقنعة معمولة من الجلد، فيها شروط لفتحات الوش، العيون والمناخير والبوق..

سرحت، عنيها وسعت وبوقها اتفتح، فضلت على وضعها ثواني كإنها بتفتكر حاجة، شريط ذكريات بيعدي قدامها...

بصتلي بذهول وقالت:

-عرفت منين؟! دي حكاية قديمة، كنت أنا عيلة صغيرة...

=ااا، ليا مصادري، ممكن بس تحكيلي...

-معرفش إيه علاقة الأقنعة بالضلال، بس هحكيلك... زمان وأنا عيلة كان في راجل إسمه عم "حجاج"، كان عنده كشك صغير بيبيع فيه جبن ولبن، ضحكته مكنتش بتفارق وشه، وكان بيحب الناس كلها، بالذات العيال، وكان يوم عيد يوم ما وزع علينا الأقنعة..

=أنهي أقنعة؟

-اقنعة عملها من جلد جاموسة دبحها، لونها، إشي اصفر وإشي احمر، ألوان ياما، وبعد فترة عمل أقنعة تانيين ووزعهم على عيال تانية، بقينا نستنى اقنعة الحج "حجاج"، وربنا فتح عليه من بعديها، الكشك بقى محل كبير، وتجارته اتوسعت، مبقتش البان بس ده بقت حلويات كمان، الرز بلبن والمهلبية وغيرهم، وبقى من الأعيان، واشترى بيت كبير، بس فضل هنا في القرية، لكنه مرض بعد سنين، مش عارفة إيه اللي صابه، ولا حد عارف، في يوم راح المحل بنفسه ووشه كان...غريب، مفقفق كده وأحمر، كإنه اتحرق! وكل ما كان حد يدخل عليه المحل يقول نفس الجملة : "اتخلصوا من الأقنعة"! طبعًا الكل كان متأكد إنه بيخرف، الراجل مريض، ده واضح...وغاب الحج "حجاج"، غاب بالأيام، مكنش بيرد على تليفون ولا حد يعرفله طريق، لحد ما العمال اللي بيشتغلوا في المحل بتاعه قرروا يعملوا حركة جريئة، ربنا ألهمهم وكسروا باب بيته ودخلوا، تعرف يا "إبرام" لقوا إيه؟

قلت بفضول:

=لقوا إيه؟

-لقوا يابني جثة متفحمة، محروقة لدرجة اللي باقي العضم وشوية لحم قليلين، والدخان كان بيخرج منها لسه!

=طب وده إيه تفسيره، الطب الشرعي قال إيه؟

-مقالش! الشرطة مقالتش حاجة، تقريبًا كده غلب حمارهم، الجثة بس اللي كانت متفحمة، مفيش حاجة تانية في الشقة محروقة، زي ما يكون حد جه ولع فيه هو وبس واتكل...

=مش فاهم، إزاي يعني؟ وبعدين الدخان لسه كان بيطلع من الجثة، يعني المفروض الموضوع طازة، فين اللي عمل كده، إزاي محدش شافه، وفين كان عم "حجاج" بقاله أيام..

-علمي علمك، إنما إيه علاقة "حجاج" والأقنعة بالضلال السودة؟

ملحقتش أفكر، سمعت صراخ رهيب بره البيت، جريت في الشارع ومعايا أم "شحاتة" و"شحاتة" وباقي أهل بيته اللي اتفزعوا وصحيوا على الصويت...

مجموعة من الناس صوتهم كان داخل في بعضه، وأخيرًا بعد وقت فهمنا اللي حصل...

بيت كامل ، أسرة بالأب والأم والولاد لقوهم مقتولين في بيتهم، روحنا كلنا على البيت ولقيت الولد من ضمنهم...

"توفيق" الولد اللي اديته الموبايل ووصيته يصور كل حاجة لمدة يوم كامل لحد ما أشوفه...

الناس كانت بتتفرج على الجثث وبتعيط وبتصرخ وأنا كنت مركز على حاجة تانية، بدور على الموبايل، كنت عايز ألاقيه قبل ما قوات الشرطة توصل...

ولقيته...

خرجت من البيت بالموبايل من غير ما حد ياخد باله...

مشيت مسافة وبعدين فتحته...

آخر فيديو مدته أكتر من 12 ساعة...

مشيت جزء كبير منه لحد ما وقفت عند حته معينة...

الموبايل اترفع عند شباك البيت ومن خلاله ظهرت ضلال سودة، ضلال فضلت تحوم حوالين البيت وبعد شوية "توفيق" ثبت الموبايل وهو واسرته اتجمعوا حوالين طبلية وبدأوا ياكلوا...

" توفيق " فجأة قام من مكانه، عينه وسعت ومكنش بيستجيب لأبوه وأمه اللي استغربوا تصرفاته...

بعد فترة رجع ببندقية، رفعها وقتل كل أسرته واحد ورا التاني، وفي الآخر قتل نفسه!

وأنا مركز في الموبايل، كتفي اتخبط جامد، كنت حاسه هيتخلع من مكانه، رفعت راسي ولقيتها في وشي، "هادية"...

-أنت كده بطل وخطير، هتنقذ القرية لوحدك؟

=أنا كان ليا أسبابي، كنت مضطر أجي لوحدي...

-سيبك من الأسباب دلوقتي واحكيلي عن اللي لقيته من ساعة ما جيت..

حكتلها كل حاجة، اللي حصل ل"توفيق" وأسرته وقصة الأقنعة، وإني بشوفها في الأحلام وفي الواقع...

شفت إيديها بتترعش وعنيها بتطرف... قالتالي:

-الأقنعة، فيها سحر، وهي سبب كل اللي بيحصل، هي اللي جابت الضلال السودة...اللي اسمه "حجاج" بطريقة ما تواصل مع جن، والشيطان ده أقنعه في مقابل الثروة اللي هيديهاله إنه يعمل أعمال لبيوت القرية كلها عن طريق الأقنعة، دبح جواميسه وقدمها قرابين، وعمل طقوس بدمها ومن جلدها عمل الأقنعة، حفر بالمسامير في ضهرها طلاسم ولون الأقنعة عشان يخبيها، ده اللي شفته ليلة امبارح ومكنتش فاهماه، شفت راجل بيدبح حيوانات وبيستحمى بدمها وبيدنس نصوص مقدسة، بيتني ركبته وبيكلم كيان مظلم قدامه، شفت ضله بس، ضل ليه قرون، الأقنعة اتوزعت على الأطفال والراجل اغتنى، فجأة بقى في اقبال من أهل القرية ومن براها على محله الصغير، والربح اشترى بيه محلات جنبه وبقى عنده محل كبير للألبان ومشتقاتها وفضل على كده سنين لحد ما ظهرله الشيطان ونام عليه وهو ممدد، صحي جلده بيغلي ومفقفق، حاول يحذر أهل القرية عشان أدرك المصيبة اللي عملها بس محدش سمعله، كان حاسس إن نهايته قربت وضميره أنبه، ونفس الشيطان حرقه بنفس الطريقة اللي فاتت بس المرة دي مسابوش غير لما اتفحم...الكارثة إن مفيش حل غير إن أهل القرية يسيبوها، وده لإن الجيل ده ميعرفش الأقنعة فين، وحتى العواجيز مش ممكن يفتكروا الأقنعة اتحطت ولا اترمت فين، ممكن تكون في خرابة ولا تحت الأنقاض، قناع واحد كفاية يخلي اللعنة مستمرة، قريب أوي يا "إبرام" الضلال هتقضي على الناس كلها، الشياطين عايزه الأرض ليهم...

فجأة سكتت وسرحت ورايا... سألتها:

=مالك؟

-وصلوا.

=هم مين؟

شاورتلي براسها، اتلفت، شفتهم!

الضلال السودة...

في عز النهار، قبل ما الساعة توصل 12 الضهر، طافيين في القرية كإنها قرية أبوهم، مبقاش فيها ليل ونهار، الضلال مش هتستخبى تاني والناس يا هتموت موتة بشعة مش متفسرة يا هيتجنوا ويقتلوا بعض...

جريت ومعايا "هادية" على أم "شحاتة" وحكينالها كل الحقيقة، فهمناها علاقة الأقنعة بالضلال والعمل المعمول للقرية من سنين، سمعنا الناس بتصرخ، الكل شاف الضلال...

أم "شحاتة" خرجت للناس وقالتلهم إنهم لازم يهجروا القرية وإنها مسحورة والسحر مش هيتفك على إيديهم، والناس جريت تبلغ بعضها، بقوا يخبطوا على الأبواب ويحذروا اللي جوه البيوت بجمل قليلة، وشفت أغرب منظر في حياتي، شفت قرية كاملة بتتهجر، ناس بتسب هدومها ومالها وبيوتها وبيفروا، ومن بعيد شفنا القرية مضلمة في عز النهار، كإنها جزيرة ضلمة وسط بحر، فروع شجر ضخمة مغطياها، الفروع هي الضلال، اللي ملت كل شبر فيها، والله أعلم لو أنا و"هادية" مكناش هناك كان هيحصل إيه، يجوز الناس كانت هتفتكر الضلال هتختفي وهيدخلوا بيوتهم ويفتكروا إنهم بكده محميين، لحد ما الضلال تتسلل من تحت البيبان وتبيدهم كلهم...

بعترف إنه إحساس حلو، إحساس ممرتش بيه قبل كده، إني قدرت أغير واقع، أحرك الميه الراكدة وإن شفافيتي ليها فايدة، أنا ليا فايدة...

دخلت البيت ملقتش حد، بابا وماما مكنوش موجودين، لمحت حاجة بتعدي بسرعة في الدور اللي فوق، برغم إنه عدى بسرعة البرق لكن قدرت أميزه، قلت:

=وحشتني يا "مايكل"، إيه رأيك تعزفلي المقطوعة بتاعتك على البيانو، من زمان مسمعتهاش بروقان...

"تمت"

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
4↓الكاتبمدونة محمد شحاتة
5↓الكاتبمدونة غازي جابر
6↓الكاتبمدونة خالد العامري
7↓الكاتبمدونة ياسر سلمي
8↓الكاتبمدونة هند حمدي
9↑5الكاتبمدونة خالد دومه
10↓-1الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑19الكاتبمدونة منى كمال217
2↑16الكاتبمدونة يوستينا الفي75
3↑14الكاتبمدونة محمد فتحي129
4↑10الكاتبمدونة طه عبد الوهاب147
5↑10الكاتبمدونة وسام عسكر214
6↑8الكاتبمدونة عطا الله حسب الله137
7↑8الكاتبمدونة مروة كرم144
8↑8الكاتبمدونة سارة القصبي159
9↑8الكاتبمدونة عزة الأمير170
10↑7الكاتبمدونة اسماعيل ابو زيد62
11↑7الكاتبمدونة هبة محمد194
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1101
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب701
4الكاتبمدونة ياسر سلمي666
5الكاتبمدونة اشرف الكرم585
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري510
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني432
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين423
10الكاتبمدونة شادي الربابعة406

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب350771
2الكاتبمدونة نهلة حمودة205300
3الكاتبمدونة ياسر سلمي190444
4الكاتبمدونة زينب حمدي176725
5الكاتبمدونة اشرف الكرم138600
6الكاتبمدونة مني امين118867
7الكاتبمدونة سمير حماد 112769
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي103959
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين101367
10الكاتبمدونة مني العقدة98641

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة محمد فتحي2025-09-01
2الكاتبمدونة أحمد سيد2025-08-28
3الكاتبمدونة شيماء حسني2025-08-25
4الكاتبمدونة سارة القصبي2025-08-24
5الكاتبمدونة يوستينا الفي2025-08-08
6الكاتبمدونة منى كمال2025-07-30
7الكاتبمدونة نهاد كرارة2025-07-27
8الكاتبمدونة محمد بن زيد2025-07-25
9الكاتبمدونة ناهد بدوي2025-07-19
10الكاتبمدونة ثائر دالي2025-07-18

المتواجدون حالياً

1545 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع