" النهارده الشمس ظاهرة ومدفية الجو مع أن المناخ شتوي ، ليلة إمبارح قمت من شدة البرد وجبت غطا تاني حطيته على الغطا بتاعي بس صحيت بإحساس مختلف تمامًا ، حاسس بحرارة ..لأ أنا مش مريض ، مش حرارة برد أو حُمى، قصدي حران ، متهيألي أني مش في حاجة للهدوم التقيلة دي، كأن الجو قلب ربيع وإحنا لسه ف عز الشتوية ، النهارده يوم مش عادي أبدًا ، أنا متحمس للغاية كأنه..كأنه زفافي أنا.....
البداية كانت مختلفة، أنا فاكر كويس، زمان وأنا لسه صغير وأنا سني 3 و4 كنت بشوفه دايمًا فرحان، ملامحه كلها بهجة . كنت بجري على الباب تو ما يخبط عشان ده معاد رجوعه مالشغل، ببقى متأكد أنه هو ، مش بس عشان الميعاد، عشان الحضور كمان... مجرد وجوده بالقرب مني، كنت بعرف أنه هو، أصلي مؤمن أن كل واحد مننا ليه حضور، مش ريحه ولا صوت معين، حاجة غيرهم ، حاجة تانية، زي لون العين اللي بيميز كل واحد عن التاني كذلك "حضوره".. وحده وحده الفرحة قلت، اللمعة في عيونه انطفت..."
قطع كتابة فؤاد إعلان عبر الراديو، أسرع إليه في تحمس وقام برفع الصوت: "اليوم تبدأ إستعدادات الزفاف، مصر كلها تحتفل، هذه ليست فرحة الملك الشاب بل فرحة الأمة المصرية بشيوخها وشبابها، برجالها وسيداتها، بشوارعها وميادينها، الأرصفة ترقص والطيور تزقزق والشمس تأبى أن تأفل"
عاد فؤاد إلى مكانه أمام الكراس وأمسك القلم وأكمل الكتابة بعد أن خفض صوت الراديو.
"هي مش فاكر تفاصيل كتير عنها، أظن ضحكتها كانت حلوة ودمها خفيف، في مشهد معين فاكره عنها إنما محتمل يكون حلم أو مشهد نسجه خيالي، فتحت عينيا لقيت النور بيتسلل شويه شويه على مهله وإكتشفت أن السبب مش أني بفتح عيوني ببطء، السبب هو إنها فتحت الستارة بهدوء ، محتمل عشان متخضنيش أو تزعجني ومع ذلك النور كان ساطع ، والمصدر مكانش الشمس، المصدر هي... ضحكتها كانت نور، وعيونها كانت نور ووشها وكل ملامحها ، أمي. لكن الذكرى كانت أقرب لمشهد سيما يمكن متأثر شوية بالمشخصاتيه أو أبطال رواية أو يمكن أنا اللي نسجته بالشكل ده ف خيالي وإن كان فيه شيء من الحقيقة....."
ثم إنطلقت موسيقى إقشعر لها بدن "فؤاد" صاحبها صوت جميل، قوى وذا تأثير ، غناء الشابة "أم كلثوم":
"إجمعي يا مصر أزهار الأماني، يوم ميلاد المليك وإهتفي من بعد تقديم التهاني شعب مصر يفتديك، طلع السعد عليها يوم ناداها البشير قائلًا فاروق هلا ونما البشر إليها وأفاها السرور بهلال قد تجلى"
برغم أن الأغنية في الأصل صُدرت لإحياء عيد ميلاد الملك فاروق إلا إنه تم تشغيلها عبر محطة المذياع استغلالا لمناسبة أخرى، مناسبة رقصت لها قلوب المصريون وأحيت بهم الفرحة العارمة دون تفسير و"فؤاد" من ضمنهم، إقتراب زفاف الملك فاروق وصافيناز ذو الفقار المعروفة بإسم "فريدة"....
أمسك القلم مرة أخرى وأكمل.
"اللمعة اللي إتطفت ف عيون والدي ليها علاقة بغياب أمي، بقيت مدرك لده، بعد سنين من غيابها فهمت، في البداية مكنتش فاهم هي غابت فين في الأساس أو إيه السبب ووالدي مقعدش ولا مرة واحدة عشان يحكي معايا عنها ويفسرلي غيابها ، بالعكس كان بيتفاداني ومن وقتها وأنا بعاني من كوابيس كل ليلة، متهيألي لو كان فهمني مكنتش هخاف بالشكل ده! أنا لسه مش مدرك الموت بشكل كبير، اللي أعرفه أنه غياب للجسد وبقاء للروح إنما مهما كان العلم بالشيء وإن كان قاسي أحسن من الجهل، أهو العلم والصدمة بيخلوا الإنسان يتخطى بشكل أسرع ، يوم ف يوم الذكرى بتخف والألم بيقل لكن الجهل بيخلي الشكوك والوساوس والأسئلة تتسلل وتكبر جواه وده اللي حصل لي ، مبقتش عارف نينا راحت فين وليه سابتني وبقيت حاطط 100 إحتمال من خيالي وده سببلي كوابيس ورعب من كل حاجة تو ما الليل يخيم وأبقى لوحدي في الضلمة"
"فريدة" ملكتنا الصغيرة المستقبلية ذات ال16 ربيعًا، الورده اليانعه في بستان المحروسة سلبت لُب الكشاف الأعظم ، مليكنا العظيم وأينعت به الورود والشغف كما أينعت بنا الأفراح، كلا هذا ليس زفافك يا "فريدة" بل زفافنا نحن، زفاف المصريين"
غريب أمر هذا الحدث، هذا ما خطر ل"فؤاد" ، لم يكن المذيع يبالغ، الحماسة التي تحدث بها عن الزفاف، تلك الروح كانت بالفعل سائده في الأجواء وبين جموع المصريين، كأنها فرحة العيد أو هلول ليلة العام الجديد، حتى وإن جلس "فؤاد" في غرفته وحيدًا في آخر ليلة من العام ومع دقات الساعة وتجاوزها للثانية عشرة في منتصف الليل شعر بتجدد غير مفهوم لروحه، حماس وترقب لأمل جديد لا يحُدِث به أحد، بخاصة والده الذي أفل منذ زمن ولم تنجح أي مناسبة في إحياء النور في وجهه، صار مُظلمًا وبقى مُظلمًا ..
إلتصق قلمه بالورقة بينما شرد نحو الحائط، يفكر فيما سيكتب لاحقًا ثم فجأة سمع صوت باب الشقة، عاد والده من الخارج!
كان المذياع مازال دائرًا وهو لم يتحرك من هول المفاجأة والذعر، بقى على حاله ممسكًا بالقلم لا يتزحزح.
مر "إمام" من الطرقه ، رفع رأسه إلى "فؤاد" الجالس في غرفته وقد كان الباب مفتوحًا . بذات الملامح الجادة المعتادة والحاجبين المعقودين نظر إليه ، بقى صامتًا لثوانٍ مما زاد من إندفاع الأدرينالين في جسد الصغير والبرودة في الأجواء.
-قاعد عندك بتعمل إيه؟
قالها بذات النبرة العصبية المتحفزة المعتادة مما زاد من خوف الصغير وجعله عاجزًا عن الرد:
-اه بتعمل الواجب المدرسي، عال عال كمل.
لقد نسى "إمام" تمامًا أن "فؤاد" يقضي إجازة نصف العام، كما نسى أشياء عدة، نسى كل ما هو هام، كل ما يأبه له الصغير، كل ما يفرحه أو يطمئنه، وما تذكر غير الأشياء التافهة وكل ما قد ينغص عليهما، أصبح كائنًا قاتمًا مخيفًا، كأنه الموت يمشي على رجلين!
-صحيح يا والدي؟
-أيوه يا "فؤاد"، خير؟
-صحيح اللي بيقولوه عن الملكة "فريدة"؟
-بيقولوا إيه؟
-ملامحها؟ ملائكية، بشرتها ناعمة صافية وعيونها واسعة وبريئة وشعرها جدلات حرير لون السما في ليل مفيهوش قمر وأخلاقها في جمال وشها؟
-بيقولوا كل ده؟
-يعني حاجة زي كده.
-شكلك هتطلع مؤلف يا "فؤاد".
ما هذا؟ أكانت تلك...؟ أتحركت عضلات وجهه لتصنع ما يشبه الإبتسامة؟ تقلصت شفتاه وإرتفعت وجنتاه وضاقت عيناه، إقترب منها، اقترب من رسم إبتسامة للمرة الأولى وهو ينطق جملته تلك.
-مش عارف ليه، حسيت الوصف ده يشبه وصف أمي.
عادت ملاح والده لتتقلص مرة أخرى، إنعقد حاجباه ولاحت الجدية والغضب على صفحة وجهه. ما الذي فعله الصغير؟ كيف إنفلت من حصون الحذر وأسوار الخوف بهذه الطريقة، أشعر بالأمان لمجرد شبه إبتسامة، طمأنته النظرة الحانية التي لم تدم إلا لثوانٍ، كيف يجرؤ؟!
-الكلام في الماضي مش محمود!
-بس ده... ده مش ماضي، دي أمي، أمي مش من الماضي، أمي كان ليها وجود ولسه ليها وجود، الماضي هو اللي مضى وإنتهى مبقاش ليه أثر بس هي أثرها منتهاش ومش هينتهي!
-بلاش فلسفة وكلام فاضي، أنا محبش أسمع السيرة دي أبدًا.
-متحبش تسمع سيرة ماما؟
زاد غضبه وامتلأت عيناه حمرة دبت الرعب في أوصال الصغير الذي لم يعلم سبب هذا البركان الثائر، ما الذي قاله أو فعله بالضبط؟
-مش هو ده قصدي، مبحبش أسمع سيرة الماضي أو أمور مش ف إيدي أغيرها.
رغم صغر سنه وقلة خبرته إلا أنه استوعب الكثير من جملة والده الأخيرة، هذا هو الأمر إذًا ، لا يحب التحدث عن والدته لأنه عجز عن إنقاذها! تركها تموت وتمنى لو كان بإمكانه تغيير ذلك، لكن ليس بإمكانه ولا كان الأمر بيده منذ البداية، هذا هو الخلل الذي حدث في إدراكه! حتى الصغير لم يعاتبه، لم يسخط عليه يومًا إذ ذهبت بينما هو بقى، لم يفكر يومًا أن والده قد قصر أو تسبب بطريقة ما في موتها ، إنما كان التقصير بعد ذلك، بعد موتها. كان التقصير هو تجنب الصغير، هو تحوله وجفاف حنانه وعواطفه، هو تحول وجهه واستبداله بوجهٍ غير ذي حياة ولا ملامح، وجه جامد يبعث على الاضطراب ويزيد من ظلمة أركان المنزل التي لم تعد أشعة الشمس تؤثر فيها أو تعطيها أي بريق. سيرة والدة "فؤاد" تفتح جرحًا لدى "إمام" ليعود فينزف مرة أخرى، لكن حان الوقت! فلا يمكن وليس من المعقول أن يظل جرح "فؤاد" ينزف طوال الوقت دون تطبيب خوفًا على جرح الكبير، من حق الصغير أن يحظى براحته وشفاءه.
-بس أنا عايزه أحكي لحد عليها ومفيش غيرك أحكي معاه.
إنتفض "فؤاد" من مكانه في عصبية وقد إنفجر باكيًا بعد جملته الأخيرة تاركًا والده غارقًا في جلد الذات ومراجعة النفس عما تسبب به من أذى طوال تلك السنين دون أن يدري.
جلس وحيدًا في غرفة المعيشة ممسكًا بكراسه الذي احتوى على أفكاره وكل ما شعر به وكل ما إختلج صدره ونتاج خيالاته وما مُنع من قوله إلى والده أو التصريح به لأي كان.
أطرق "إمام" لدقائق ، مر أمامه شريط حياته منذ أن رحلت حبيبته، تلك السنين العجاف، ضحكته التي انطفأت، الخذلان لعدد لا متناهي من المرات المُنعكس في عيون صغيرهِ بعد انسحاب التحمس منهما، حيث قابل حماسته وحبه وترحيبه ببرودة وقسوة، تهربه من التحدث إليه حيث خشى أن يتطرق إلى سيرتها، فقدان سبل التواصل معه شيئًا فشيئًا حتى أصبحا كالغريبين، كم كنت مغفلًا يا "إمام"!
"كل ما كان يبخل عليا، كل ما يهرب من سيرتها بتصبح بالنسبة ليا حية أكتر وأكتر، بشوفها أكتر ف أحلامي وف صحوي كمان برغم أن تفاصيلها مش واضحة، أما هو فبيتحول لشبح، كل يوم صورته قدامي تهتز وتتشوش وف ذاكرتي بتضعف ومبقتش أتذكر ملامحه لما بيبغيب عني شوية، هي بقت حية وهو أقرب للموت"
بدأت الشمس تغيب و"فؤاد" لا يزال جالسًا على الأريكة في غرفة الجلوس، يمسك بقلمه وكراسه ، الدفء إنحسر مع إنحسار الشمس والحزن الذي خيم عليه وإعتصر قلبه ومع ذلك لم يتحرك، شعر بالبرد القارص يزحف إلى أطرافه الصغيرة وباقي جسده لكنه شُل عن الحركة وبعد برهه سقط ناعسًا بينما إحتضن كراسه.
خرج "إمام" أخيرًا من غرفة الفتى الصغير بعد أن جلس مع نفسه يحاسبها ويراجعها في كل ما مضى خلال السنين الأخيرة، وجده غارقًا في النوم، تتدلى رأسه بينما يجلس القرفصاء وفي حضنه كراسه الغالي...
فعل شيئًا صعبًا للغاية، أجبر نفسه على الابتسام! كأنما أمسك سكينًا وجر نصله على طرفي شفتيه كي يصنع الابتسامة، شعر بقلبه يعتصر وهو يفعلها، لم يكن الصغير صاحيًا حتى، لم يكن الغرض أن يرى الابتسامة على وجه أبيه، بل رغب "إمام" في التدرب على صنع الابتسامة حتى يتعود عليها ويراها "فؤاد" فيما بعد، علم أن الشمس لم تعد كافية كي تضيء أركان البيت وتضيء قلب الصغير، لم يكن النور ليعود إلإ بابتسامته، لم يكن قلب الصغير ليحيا إلا برجوعه إلى الحياة والتخلي عن الظلام، عليه أن يدفن مرارته حتى ينمو الصغير...
فُتح الستار ببطء فتسلل النور برفق إليه، شعر به يزغزغ عينيه وحواسه وبذات الصفاء فتح عينيه، كان الوجود مازال مشوشًا، الأشياء مبعثرة والألوان متداخلة، ثم ما عاد بذات الصفاء فقد انتابه الرعب! ما الذي يحدث بالضبط؟! من هذا الذي أزال الستار وبذلك الأسلوب؟ شخص واحد أعتاد أن يقوم بذلك في زمن بعيد، والدته! لكن والدته قد توفت منذ سنين ولم يبقى منها إلا صورتها التي أُحييت مؤخرًا في ذاكرته...
فُتحت عيناه عن آخرهما وأخيرًا بدأت الموجودات تتضح والألوان تزدهر، لقد كان...كان والده! "إمام"، هذا الواقف هناك بلا حراك، يبتسم إليه، تنطلق خيوط النور من خلفه وتحيط به لتصل إلى الفتى وكأنما عادت الأم في جسد "إمام"، احتلت روحها عينيه وشفتيه وزاحمت روحه في ذات الجسد.
-إيه الكسل ده يا "فؤاد" مش تشهل شوية الساعة بقت 10 صباحًا؟!
-أنا إزاي وصلت لهنا؟ كنت نايم في المعيشة.
-أنت بدأت تكبر، قربت تكون راجل، وزنك زايد بس قدرت أشيلك وأجيبك هنا.
-غريبة، محستش تمامًا.
-أفهم من كده إنك كنت متطمن، أصل اللي ميتنبهش ولا يقلق من حد يحركه بالشكل ده يبقى بيطمنله، مسلم نفسه وروحه ليه، مأتمنه ولسه مربوط بيه حتى لو الروابط إتدفنت فترة كبيرة.
صنع النور هاله حول "إمام" حتى أن ملامحه لم تتضح، وزاد من قوة النور إبتسامته وكلماته. لم يملك "فؤاد" إلا الإبتسام بدوره، لم يرد على تعليق والده الأخير وإكتفى بالنظرة التي رماه بها.
-الله ما تقوم بقى يا "فؤاد".
-مفيش مدرسة يا بابا.
-عندي علم، إمبارح بعد ما نمت فجأة اتذكرت ، إحنا في إجازة نصف العام وانا اللي فاكرك كنت بتعمل الواجب، لكن مش هسألك عن الكراس واللي مكتوب في الكراس، دي حاجة خاصة بيك أنت وبس.
تدلت رأس "فؤاد" في استحياء ثم رفعها وسأله:
-أمال أقوم ليه؟
-عشان تحضر نفسك.
-إحنا خارجين.
-طبعًا خارجين!
-رايحين على فين؟
-هيكون على فين يعني، قصر القبة، إنت مش واخد بالك أن احتفالات الزفاف هتبدأ النهارده، المحروسة كلها متوجهة لهناك، المحروسة كلها بتحتفل.
إنفلتت ضحكة من "فؤاد" من التحمس، فجأة لم يعد مهتمًا بالراديو، لا يرغب في فتحه لسماع المستجدات بشأن الزفاف أو أخبار عن تحضيرات الحفل وزينة الملكة "فريدة" ووصفها وقصة حبها مع الملك "فاروق" الصغير، سيتسنى له مشاهدة الفستان الأسطوري الذي يحكون عنه والذي جاء من باريس مباشرة ليحظى بشرف الإنسدال على جسدها والالتفاف حول خصرها ، لن يكون مستمعًا ولا حتى متفرجًا، بل مدعوًا مشاركًا، سيكون ضمن أهلها ويسلمها إلى صاحب الحظ الأسعد في الكون ليحرص على مشاهدة تلك النظرة في عينيه، التعهد بالحفاظ عليها وحبها وإكرامها حتى يفرقهم الموت.
-الفرحة شلتك يا "فؤاد"، مش عايزك كده لا دلوقتي ولا في المستقبل.
-آسف، مش فاهم.
-مش عايزك تغرق ف أحلامك ولا خيالاتك حتى لو باسم الفرح أو الحماسة، ولا تغرق ف حزنك فيصيبك نفس الشلل، شايف ف عينك إنعكاس ليا، متطرف المشاعر مستسلم للعواطف، متخليش تحمسك يشلك عن الحركة، إحنا المفروض نتحرك، نكون ف قلب الفرحة، نعيش واقعها مش نبقى متفرجين عشان تفضيلنا الخيال عن الواقع...
-حاضر.
كان متشوقًا لهذا الحديث وإن كانت نصائح وإن كان عتاب وإن كان تعنيف، يا ليت هذا يستمر، كل يوم وكل ساعة..
قام من مكانه بعدها مسرعًا، إرتدى أفضل الثياب، ملابس العيد الفائت، البذلة والطربوش والحذاء اللامع كأنه بيك صغير ينافس أرقى البكوات..
نزل الإثنان من بيتهم في الحلمية متوجهين إلى قصر القبة. كانت الشوارع مزدحمة، لم يسبق لهما أن شاهدا مثل تلك التجمعات ، وعندما ركبا الترام ظلا متلاصقين، وكان ذلك حال باقي الركاب لكن لم يكن أحدًا منزعج، بالعكس إنتشرت روح غريبة، فرح ولهفة، كأن الناس كانوا بحاجة إلى تلك المناسبة، أنقذتهم من همومهم والقلق بشأن لقمة عيشهم وسعيهم وحزنهم والمسؤوليات التي أثقلت كاهلهم، اليوم ومعه اليومين المقبلين لا يوجد شقاء، لا يوجد إيجار بيت ولا تعنت مدير ولا مصاريف مدارس ولا ديون ولا مطالب ولا غرباء يحتلون شوارعنا ويقتاتون على خيراتنا، لا توجد خسائر ولا مستقبل مجهول ولا يوجد خوف...
-بص يا بابا!
نظر "إمام" إلى حيث أشار "فؤاد"، وجد منظرًا لم يظن أبدًا أنه ليشهده، أتوموبيلات مغطاة بالزينة والورود وأخرى غير مغطاة وعربات تجرها الخيول وخيولًا يمتطيها الناس وجمال يمتطيها آخرون وعجلات وأفواجًا تجري، وأفواجًا تسير، أتى الناس من كل حدبٍ وصوب، من كل المحافظات، كل هؤلاء مدعوون إلى الزفاف، كلهم يحتفلون!
ترجل الاثنان أخيرًا من الترام، أمسكا ببعضهما جيدًا حتى لا يتفرقا، تعالت ضحكاتهما مع ضحكات الجمهور حولهم..
-تفتكر هقدر أشوفها؟
-هتشوفها يا "فؤاد" انا متأكد!
-بس الدنيا زحمة أوي، متهيألي هيبقى صعب.
-هتشوفها ،هتبقى زي الشمس اللي نورها بيغطي الوجود، الكل هيشوفها ويتدفى بيها.
"عاهدت نفسي إني أكتب كل التفاصيل في الكراس، مسبش حاجة تو ما أرجع البيت، عشان كده كنت مركز جدًا وده شكل ضغط عليا عشان أنا زي ما والدي وصفني "حالم" بسرح وبنسى وبوقع تفاصيل كتير، لو حد سألني عن حدث ما يمكن أقوله نص الحقيقة، باقي المشهد بكمله من خيالي، يعني النتايج المتوقعة لنص المشهد الأولاني اللي فاكره، المرة دي بقى، المشاهد دي ، حفرتها جوه ذهني، صورتها كأني كاميرة سيما، بأدق التفاصيل ، وتفوقت عليها كمان بالألوان الحية، الأرض كانت مفروشة ورد، عدد الورود يمكن فاق عدد البشر المهول، والوشوش كانت مشعة كأنها إتبدلت، كأننا وصلنا لنهاية رواية أو فيلم، نهاية سعيدة مفيش بعدها أحداث ولا وجع ولا فراق ولا حيرة، الأصوات فجأة عليت، الناس بتهتف وتضحك وتصرخ! الملكة وصلت، الفستان كان فيه خيوط فضة، أكمامه طويلة أكيد لأن المليك كان شديد الغيرة عليها زي ما بيحكوا، والتاج ف وسطه زمرده وأعلاه ماسة على شكل قلب، أما الملكة فسابت كل الحضور وابتسمتلي! مش عارف كان بيتهيألي ولا لأ...أنا متأكد، في لحظة اتبسمت لي أنا بالذات، وشها ساعتها اتبدل بقى وش تاني مشفتوش من زمن، نوره كان ساطع والمصدر مكانش الشمس كان هي، في اللحظة دي كان وش أمي"...
"تمت"