-أنا بقى عندي ليكم قصة، كنت سمعت أجزاء منها وأنا صغيرة ، لكن التفاصيل اللي هقولها لسه عارفاها قريب، القصة عن ناس، مش زي أي ناس، أشكال وطباع مشفتوهاش ولا حد شافها في أي حته في الأرض، الموضوع يتعدى لون البشرة وسمات الوش والجسم، مش مسألة عربي ولا أوروبي ولا ساكني استراليا الأصليين، لأ الفروق دي اصلًا مش مهمة، اختلافهم أكبر بكتير....
دا المفروض كان تجمع من تجمعات القرايب المكثفة عشان فرحي كان فاضله شهر واحد... أصل أنا ومجموعة كبيرة كدا من قرايبي اتربينا مع بعض وبحكم إن أعمارنا قريبة وأن أهالينا قريبين برضه من بعض جاتلنا فترة، سنين كتير مكناش بنفترق، لازم نتجمع على الأقل مرة واحدة في الإسبوع، دا في فترات الدراسة، أما بقى ف أجازة الصيف فعلطول كنا مع بعض وسفرياتنا برضه مع بعض... ولما كبرنا وحد فينا خطب أو اتخبطت كنا بنكثف التجمعات قبل ما العريس أو العروسة ينشغلوا بمسؤوليات الجواز وشكل الحياة الجديد. وجه الدور عليا....
بقينا نتجمع يومين مثلًا في الإسبوع، نسهر مع بعض زي زمان، نتفرج على أفلام أو نحكي للصبح، ودا كان تجمع منهم.. معرفش الموضوع جه إزاي بس بطريقة ما قررنا نحكي في قصص غريبة مرعبة على مثيرة، تجارب شخصية أو قصص عامة، لحد ما "سهيلة" بدأت تحكي عن الناس العجيبة اللي مختلفين عن بقية الأجناس على الأرض، شدت إنتباهنا وكلنا سكتنا، عايزين نسمع ونعرف أكتر....
سهيلة كملت:
-الحكاية بدأت بقبيلة عاشت من آلاف السنين، المكان اللي عايشين فيه الحياة فيه كانت بدائية، بسيطة، وبقول المكان اللي عايشين فيه عشان الله أعلم بباقي الأرض كانت عاملة إزاي، أنا بقيت مقتنعة أن كلمة "بدائي" مش متعلقة بالزمن على قد ما متعلقة بالحضارات، بمعنى أن مش شرط الجيل الأول من البشر يكونوا بدائيين ، ممكن جدًا كان عندهم إمكانيات وقدرات تخلي حياتهم مرفهة، وممكن برضه بعد أجيال كتير نلاقي جماعة من البشر في مكان ما يفتقروا للحضارة والعلم والإمكانيات وحياتهم تبقى بدائية، ودا أظن كلنا لازم نكون متفقين عليه، عشان مثلًا القدماء المصريين كانوا في قمة تقدمهم مش بس من 3 آلاف سنة، يمكن من 9 أو أكتر ودا بناء على الآثار والاكتشافات اللي كل يوم بتظهر، وزي برضه حضارة أتلانتس يعني لو كانت القارة فعلًا موجودة وفقًا لأفلاطون، دا غير حضارة بلاد ما بين النهرين وحضارة الصين القديمة وغيرهم ...المهم أن القبيلة كانت موجودة في مكان يتسم بالبدائية، الحياة مكنتش سلسة، والبقعة دي كانت منقطعة عن باقي العالم، مفيش لا تجارة ولا تواصل مع أي جنسية أو بلد تانية، وجت القبيلة زودت من صعوبة الحياة على سكان الأرض دي... أفراد القبيلة كانوا شرسين جدًا، زي فتوات كدا، رفضوا إنهم يشتغلوا ويتعاملوا بالمقايضة زي ما باقي السكان كانوا بيعملوا، نظرًا للتخلف والبدائية فالسكان مكانوش وصلوا لإختراع الفلوس فكانوا ماشيين بنظام المقايضة، حاجة منتهى البؤس والفقر... دول بقى أعلنوا العصيان، قالوا لا هنقايض ولا هنشتغل ولا هنوجع دماغنا، بقوا يقطعوا الطريق، يسرقوا وينهبوا ويخطفوا الستات عشان سبيهم والأطفال عشان استعبادهم. محدش كان عارف يقف في طريقهم، محدش قادر يدافع عن نفسه.. الموضوع إستمر لسنين كتير، أجيال فاسدة وشرسة وراها أجيال فاسدة أكتر وشرسة أكتر لحد ما جيل قرر يتنقل جوا كهف في جبل كبير، الكهف كان ضخم، محدش عارف حجمه أو عمقه...
=وفين بقى كل الأحداث دي؟
-مانا قلتلكم يا "حكيم" مش فارقة فين، المهم اللي هيحصل بعد كدا ومع ذلك، هقولك اللي المصادر متفقة عليه والعلم عند الله طبعًا، المكان في سيبيريا ، والكهف في جبال التاي، التلوج بتغطي الجبال في الشتا، الجو بشع، مش أي بشر يتحمله...الجيل الجديد من القبيلة الشرسة قرر إنهم لازم ينفصلوا عن السكان التانيين، هما كدا كدا ليهم وضع خاص والناس بتترعب منهم وبتعمل لهم الف حساب، لكن عشان زيادة الهيبة والرهبة شافوا إنهم لازم ينفصلوا بشكل نهائي، يعيشوا في عزلة، عشان كمان الناس لما تعرف إنهم دخلوا جوا الكهف الموحش المرعب تتبني أساطير عنهم، عن إختلافهم وطبيعتهم الحادة اللي فوق البشر ، والناس تخاف أكتر وأكتر.... واتنقلوا جوا الكهف... السكان من كتر الإشاعات والأساطير اللي انتشرت ما بينهم فعلًا بقوا يقدموا لهم قرابين، كل فترة عدد من السكان يقفوا على باب الكهف، يحطوا حيوانات حية وفرو من حيوانات مسلوخة عشان الشتا القارص وكمان بشر، ستات وأطفال ورجالة. رب الأسرة كان بيختار حد من أسرته ويقدمه ليهم عشان باقي السكان يتقوا شرهم...
علقت على كلامها، قلت وأنا بضحك:
=جميلة الحدوتة دي يا سهيلة ورومانسية كمان.
-الحكاية منتهتش يا "هاشم"، في الواقع أنا معنديش تفاصيل بكل أحداثها اللي بعد كدا، عشان في جزء كبير من الأحداث لسه محصلش أصلًا!
"حكيم" أخوها قال:
-يعني إيه بقى؟
=يا سيدي اللي حصل بعد كدا أن البحر هاج، طلع على البر وطفى نيران التنين! أقصد أن حصلت حاجة وقفت شر القبيلة... وجود القبيلة وبقائها كعقاب أبدي متجدد مستمر كان شيء مفروغ منه، وجودهم بالنسبة لباقي السكان بقى زي وجود الحياة نفسها، الواحد بيتولد، يكبر ويشيخ ويموت والقبيلة موجودة، بتدبح في الناس للمتعة، بتسرق كل نتاج الأرض والحيوانات اللي الناس تعبت في تربيتها ورعايتها وبتخطف العيال والكبار على حد سواء... لكن في حاجة كسرت الروتين دا ، حاجة برا السكان، برا تخطيطهم وتمنياتهم وقدراتهم البشرية، زلزال!
زلزال قوي جدًا ضرب سيبيريا، كل اللي كانوا في السفوح وعلى الأرض المستوية على ضفاف نهر الكاتون وفي الغابات نجيوا، مفيش أي ميت أو مفقود، لكن مصير قبيلة الكهف كان مختلف....
الحجارة الضخمة وقعت من أعلى الجبل، اللي حاول يتحرك برا الكهف مصيره كان الموت، حجارة ضخمة وقعت عليه أو فقد الاتزان ووقع من ارتفاع كبير، أما اللي فضلوا فالكهف اتسد عليهم، بقوا محبوسين...
سألتها:
=اتحسبوا قد إيه؟
-الله أعلم، هنعرف بعدين.
=مش فاهم.
-هم لسه مطلعوش، نحسب بقى عدد السنين لما يخرجوا بالسلامة.
"لاميس" بصت ل"سهيلة" بذهول وقالتلها:
-نعم؟! هم لسه جوا الجبل؟
=اه، اللي بيحكوا القصة بيقولوا كدا، بيقولوا إن القبيلة فضلت في جوف الكهف سنين ورا سنين، تكاثروا جواه، وجيل ف جيل انفصلوا تمامًا عن العالم الخارجي، بمعنى مش بس الإنفصال المادي والجسماني، مبقاش عندهم فكرة عن وجود ناس غيرهم براه، وطبعًا الانفصال دا وغياب نور الشمس عنهم فيما عدا الشعاع البسيط اللي بيتسلل من مخارج صغيرة للكهف خلاهم يتوحشوا أكتر... في الأول ولما كانوا وسط الناس أو بيتعاملوا معاهم كانوا مجرمين، مع الوقت بقى والانعزال التام اتحولوا من مجرمين لوحوش، مبقوش مدركين لطبيعتهم، إنهم ينتموا للجنس البشري وكل اللي عملوه في عز مجدهم كوم واللي هيعملوه بعد ما يخرجوا من الكهف كوم تاني...
بعد ما كان الكل سرحان ومود القعدة بقى جد أوي والأجواء مرعبة.. قلت وأنا بضحك:
-واللي حكوا القصة، مواطني سيبيريا بتوع دلوقتي أو علماء التاريخ أو أيًا كان، عرفوا منين بقى إنهم هيخرجوا وإنهم بقوا كائنات متوحشة وإنهم هيعملوا وهيسووا؟!
=هجاوبك على جزء جزء، هما مش بيتنبأوا، في بوادر فعلًا، الكهف مش معروف عمقه أو حجمه بالظبط، أصلًا المدخل الرئيسي بتاعه اللي المفروض مسدود تمامًا بالحجارة محدش يعرف موقعه في الجبل، محدش يقدر يميزه، لكن برده في مخارج كتير صغيرة لجبال التاي.. البوادر بتاعة النظرية والدلائل هي الأجساد البشرية المشوهة، والجثث اللي إتمثل بيها، البلاغات بدأت تزيد عن سياح أو ناس من أهل البلد نفسها، قرروا يعملوا جولة، بتسلقوا الجبل، وبعدين أخبارهم بتنقطع تمامًا محدش من معارفهم بيقدر يوصلهم وبعديها بفترة بيكشتفوا جثثهم في أماكن معينة قرب الجبل، الملفت هي طريقة موتهم، كإن حيوان بري شرس هجم عليهم، أجسامهم متقطعة بطريقة بشعة، أطرافهم أو أجزاء من جسمهم مش موجودة أساسًا.. والمسافات مع الوقت بتبعد، يعني الأماكن اللي بيلاقوا فيها الجثث المشوهة مبقتش بس قرب الجبل، كل مدى بتقرب من العمار.. الشرطة هناك في حالة تأهب وبحث مستمر عن الحيوان الضاري اللي بيمثل خطر على الحياة البشرية هناك وبيقلق نوم السكان... أما بقى اللي القبيلة هتعمله لو خرجت فدي توقعات منطقية بناء على المعطيات الموجودة... مبدئيًا كدا الناس دي مكانش وراهم حاجة لآلاف السنين غير الأكل والتكاثر يعني أعدادهم أكيد مهولة، نظرًا كمان إننا منعرفش مدى عمق الكهف وإتصاله بكهوف وأماكن تانية في جوف الأرض. ثانيًا ، حتى لو أعدادهم مش كبيرة أوي ودا مش صح لإني متأكده إنهم أعداد ضخمة، لكن هنقول لو عددهم مش كبير لكن مش مدركين لطبيعتهم الإنسانية وبقوا زيهم زي الإسود أو الضباع أو الكائنات اللي منعرفهاش اللي بتتجول في عمق المحيطات، فعددهم بالنسبة لنا مش هيبقى العنصر الفاصل في معركة النجاة، هيقدروا يتغلبوا علينا بالطبيعة الحيوانية دي، لإن معاها عقل وإدراك على مستوى ما، يجمعوا ما بين الوحشية والذكاء، حتى لو كان بدائي.. تخيلوا كدا معايا لو القروش بقى عندها ذكاء البني آدمين، إيه اللي ممكن يحصل؟ ومين هيبقى ليه الحكم؟ ومع تطور الأوضاع واحتدامها الفترة دي أو تكرار السيناريو في المستقبل، قصدي إن العالم بقى على صفيح ساخن وفي تهديد بقيام حرب عالمية تالتة، في عز ما الدول في حالة استعداد للحرب وكل دولة ماسكة وراها خنجر للدولة التانية ، الخطر الحقيقي ممكن جدًا يتجول على مرئى ومسمع من الكل من غير ما حد يلاحظه، سكان الكهف لو خرجوا وإحنا في الحالة دي هتبقى بس مسألة وقت عبال ما يسيطروا على كل العالم وكل العالم يبقى سيبيريا القديمة ، هنبقى بجد دولة واحدة زي ما في جماعات عايزين دا وبيخططوله، العالم كله هيبقى قرية صغيرة بس بشكل تاني خالص بعيدًا عن سيطرة أي حد، كلنا هنتشارك الفزع وحرقة القلب وحرب النجاة...
كلنا سكتنا، كلنا بقينا مرعوبين بجد، متهيألي هم كمان زيي، كل واحد فينا تخيل السيناريو الإسود، لو قبيلة الكهف أو مثلًا يأجوج ومأجوج اللي أفعالهم وأوصافهم برضه مرعبة أو سكان باطن الأرض أو غيرهم من البشر أو الكائنات عرفوا بوجودنا أو كانوا عارفين وقرروا يهاجمونا وإحنا بالحالة اللي إحنا فيها، العالم اللي متقسم جبهات وصراعاتنا عمالة بتشتد، هنعمل إيه؟ هنستخبى منهم فين والمواجهة هتبقى عاملة إزاي؟
لما "سهيلة" شافت وشوشنا، بالذات وشي أنا قالتلي بنبرة هادية وهي بتبتسم:
-إيه يا عريس روحت فين؟ لأ إجمد كدا ، دا كل اللي قلناه كوم والرعب اللي مستنيك كوم تاني، أنت لسه قدامك فرح وتجهيزات وحاجة البيت اللي لسه مجاتش والوقت الضيق والجمعيات ومصاريف شهر العسل وقبل ما تفوق هتلاقي مصاريف الدكتور ومستشفى الولادة والحفاضات وأكل البيبي من الصيدلية والمدارس والجامعات وهوبا جواز العيال.
رديت وأنا بضحك:
=اه صحيح، ده دي قصة الرعب اللي بحق وحقيقي.
......................................
صحيت من بدري عشان الحق الروقان والشوارع الفاضية، خطيبتي كان نفسها نروح المشوار دا من زمان وأنا اللي كنت عمال أاجل.. بس مبقاش في وقت، كان لازم نروح...
"هند" كانت مصممة على الغورية بالذات، قالت إن في هناك محلات حلوة للملايات والفوط والمفروشات.. الحاجات اللي بنبقى شايفنها في العادي بسيطة دي بتوتر اللي بيبقوا داخلين على جواز، عشان حاجات بسيطة على حاجات بسيطة بتعمل بنود كبيرة وبتنغص عيشتهم وبيبقوا شايلين همها، بيبقوا عايزين يخلصوا من سيل الشرا والمصاريف...
جهزت، كنت خلاص على وشك إني أنزل من البيت لولا إن في حاجة فجأة شغلتني....
فكرة مش عايزه تسيب دماغي، القصة اللي "سهيلة" حكتها لينا الليلة اللي فاتت، سكان الكهف ووحشيتهم والتهديد منهم لو خرجوا في أي وقت ومصير البشرية. الواحد بتقوم عليه حاجات غريبة وبيتهوس بأفكار تافهة بس بتكبر في خياله زي دبانه تحت عدسة مكبرة....
لقيت نفسي بكلم "سهيلة"...
=الو، يا سهيلة عاملة إيه، أنا بس بطمن عليكي، عليكوا كلكم، أنا سهرتكم إمبارح، كان بقالنا كتير معملناش كدا...
-تمام يا "هاشم" أنا كويسة، إحنا كلنا اصلًا كنا مبسوطين، ياريت سهر من دا كتير بدل ما بنسهر في أشغالنا المملة المتعبة..."هاشم" أنت كويس؟
كانت حاسه، صوتي برغم المحاولات كان باين إنه مهزوز... كانت حاسه إني متوتر أو خايف...
=أنااا كويس... بقولك إيه، هو إنتي ، يعني إنتي ك"سهيلة" مقتنعة بموضوع قبيلة الكهف دا، يعني وجودهم في حد ذاته وطبيعتهم اللي بقت وحشية وخطرهم لو فعلًا خرجوا؟
-ليه يا "هاشم"؟ ليه تشغل نفسك بمواضيع زي دي؟ أنت كدا هتخليني أندم إني حكيتلكم....
=يا ستي عادي، أنا أكيد هتلهي بالرعب اللي مستنيني زي ما قلتي، عادي... بس جاوبيني، إنتي شخصيًا مقتنعة بكل الكلام دا؟
سكتت، كنت سامع صوت أنفاسها العالية كإن الموضوع تقيل عليها أو مش عايزه تجاوب بس مضطرة عشان ضغطت عليها...
-هو...اه، أنا عن نفسي مقتنعة جدًا بالسيناريو دا أو سيناريو شبهه ، قبيلة الكهف أو غيرهم بسهولة ممكن يسيطروا على الأرض، لإننا سايبين الباب مفتوح، مشغولين بخناقات البيت ومش محرصين على بابنا، أقصد مشغولين بخلافتنا مع بعض، العالم بيقطع ف بعضه والدول بتتخانق على أراضي وثروات وبترول ونووي ومناجم وغيره ، وزي ما قلت، في الوقت دا أي خطر خارجي يقدر بسلاسة يتسلل، زي الوباء المنتشر دلوقتي مثلًا، أهو كائن غيرنا، مجرد فيروس، فجأة بقى وباء، من قبل حتى ما ندرك بوجوده وكيفية انتشاره، في رأيي ممكن كان السيناريو يختلف لو كنا فايقين ومستعدين ليه....
=تمام يا سهيلة..
-أنت متأكد إنك كويس؟
=قلتلك إني كويس، أنا كويس...
هتلهي في حاجات كتير، اليوم هيبقى زحمة، كفاية وجع الدماغ اللي خطيبتي هتسببهولي.. كنت بقول لنفسي لكدا، أكيد هنسى أشكالهم المرعبة المتجسدة في خيالي والتصورات عن اللي هيعملوه لما يخرجوا من الكهف...
كنت ناسي، مش مدرك قد إيه الغورية وحشتني، عجلة الحياة السريعة والطحنة بتاعة تحضيرات الجواز نستني كنت بحس بإيه لما باجي الشارع دا... لدقايق نسيت كل حاجة، نسيت هوسي بموضوع سكان الكهف والخيالات اللي في بالي والهموم والمسؤوليات المادية اللي مستنياني والضغط النفسي بتاع المرحلة الجديدة والتحول اللي داخل عليه...
نسيت كل حاجة ومبقاش في غير الغورية بس، بمحلاتها ودوشتها والناس الهيمانة فيها كإنهم مش رايحين مكان محدد، ميعرفوش جايين منين ولا رايحين فين، الوشوش التايهة السرحانة في أصالة الشارع دا....
(صوت جهور لراجل بيستعرض صندوق)
-"مين عنده الجرأة؟ مين يقدر يبص في مرايته، يشوف تفاصيل نفسه؟ يشوف اللي ورا ضهره، اللي مستنيه، اللي بيلاحقه واللي مستخبي فيه... اللي معايا دا صندوق، صندوق ظريف مليان حكايات، إنعكاسات لماضينا ومستقبلنا واللي غايب عن عيوننا، مين عنده الجرأة يبص جواه، ويشوف، مين مستعد يشوف؟؟!"
الصوت العالي للراجل المتجول سكت كل الأصوات التانية.. كان لابس هدوم مهلهلة مقطعة، شعره قذر مترب منكوش، معلق حوالين رقبته قماشة سميكة موصولة بصندوق ضخم ماسكة بين إيديه، كان زي ما يكون بيعمل عرض...
"هند" مسكتني من إيدي وجرتني وهي بتقول:
-ما تيجي نشوف إيه دا..
=عندنا وقت للكلام دا يا هند؟ واضح إنه راجل بيعمل فقرة، معاه حاجات بيبيعها بس عايز يجذب الناس.
-بس طريقته حلوة أوي، تعالى شوية بس...
ما باليد حيلة، أصلًا مكنش ليا قرار... هي كانت بتجرني بالعافية... وصلنا لحد عنده، كنا من ضمن دايرة الناس اللي اتلمت حواليه..
شكله من الدراويش، فاصل عن الدنيا، كل الناس عنده واحد.. دا اللي كنت فاكره لحد ما فجأة بعد ما لف بعينه ثبتها عليا... رفع راسه تجاهي وفضل باصص ليا. ابتسم إبتسامة لئيمة وقال لي:
-أنت، مش عايز تجرب؟
=أجرب إيه، وإيه الصندوق اللي معاك ده؟
-صندوق الدنيا..
=ايوه إيه يعني؟
-هرفع القماشة وتدخل راسك جواه وتتفرج.
=اتفرج على إيه؟ رسومات بقى وكرتون بصور وكلام من دا؟.
-حاجة زي كدا.
=لأ، شكرًا.
مسكت دراع "هند" ، كنت شايف العرض سخيف، مكانش في وقت للفقرات البهلوانية دي، وبعدين الراجل مش من الدراويش زي ما مظهره كان بيقول، دا عارف بيعمل إيه كويس، نقاني أنا وسط الغلابة والناس البسيطة المتجمعين عشان السبوبة، فاكر ياما في الجراب يا حاوي وهديله قرشين حلوين..
كنت متعصب، بدأت أجرها وأمشي بيها.. لكن اللي قاله وقفني..
=صندوق الدنيا بتاعي إنعكاس لدنية المتفرج، والمادة متهمنيش، مش ببيع سبح ولا بخور ولا باخد فلوس إلا لو التجربة عجبتك، الدخول ببلاش والخروج بفلوس لو بالمزاج ولو فيها خروج.
قربت منه.. قلتله وأنا بتحداه:
=دانت واثق أوي من نفسك ومن لعبتك.
-واثق في صندوقي، الدور والباقي عليك، هل يا ترى عندك الشجاعة الكافية عشان تدخل جوه صندوقي؟
كلامه استفزني.. يعني إيه عندي الشجاعة والجرأة؟ هو مكبر الموضوع ليه؟ إيه الرسومات اللي جوا الصندوق اللي بالعظمة والهيبة دي عشان أخاف أبص عليها؟؟!
بصتله بتحدي وقلت:
=ماشي يا سيدي وأنا قبلت التحدي، إيه بقى اللي جوا الصندوق؟
-مقدرش اقولك، معنديش إجابة نموذجية..
=يعني إيه، متعرفش إيه اللي جوا الصندوق بتاعك؟
-لأ، معرفش، معرفش اللي جواك، ولا مستقبلك ولا ماضيك ولا اللي شاغل بالك.
=والصندوق يعرف؟!
-شوف بنفسك.
دا طلع مسلي أوي! استخفيت بيه، كلامه وطريقته مسلية.. عقبال الصندوق كمان ما يطلع مسلي....
رفع القماش في حركة إستعراضية مبالغ فيها..دخلت دماغي جوا الصندوق والقماش انسدل من ورايا...
عتمة.. مفيش بصيص نور.. المفروض اشوف إيه بقى؟
وبعدين..في نور خفيف إتسلل، ولقيت صورتين ثابتين، عليهم رسومات لدواير كتير، بعد وقت قليل الدواير بدأت تتحرك، أكيد دا كان تأثير طريقة الرسم نفسها، الدواير المتداخلة، بتدي إيحاء إنها بتتحرك وهي ثابتة في مكانها والتأثير نجح... بقيت حاسس أن الدنيا بتدور بيا...
بعد شوية الدنيا ثبتت، الدوخة راحت... بصيت جنبي لقيت المكتب عليه الموبايل والمنبه اللي الناس كلها بقت شايفاه موضة قديمة واستغنت عنه وأنا لسه معتز بيه وبظبطه على مواعيد صحياني..
المنبه رن.. بس كنت قمت قبلها ، دا بيحصل معايا كتير، دماغي بتصحى قبل المعاد اللي بظبط عليه المنبه..كنت مصدع، متهيألي كنت بحلم..
اه افتكرت! حلم غريب جدًا، كنت ماشي في الغورية مع خطيبتي ، المفروض كنا رايحين نجيب شوية ملايات وحاجات من دي، بس... في حاجة عطلتنا، راجل، درويش ماسك صندوق، اختارني من وسط الناس المتجمعين عشان أجرب الصندوق، أدخل راسي جواه واتفرج... وبس!
سبحان الله، كان حي جدًا الحلم ده، مكنتش متخيل إنه حلم وأنا جواه...
غريبة! المكتب مليان تراب، مش طبقة واحدة، أشبار من التراب، برضه الموبايل والمنبه وكل اللي في الأوضة متغطي بالتراب.. حتى السرير اللي كنت نايم عليه، إزاي أصلًا كنت مستحمل وبتنفس عادي ومش مخنوق؟!
إيه اللي حصل للأوضة وأنا نايم؟
الأغرب من دا إني لما ركزت لقيت الدنيا هادية تمامًا، مفيش أي صوت.. في شبرا خلوصي ومفيش صوت جي من الشارع!
دا الحركة هنا لا تتوقف لدرجة متميزش الليل من النهار، مفيش على الأرض موضع لقدم، الناس بتمشي بقوة التدافع، إيه اللي سكتهم كلهم مرة واحدة؟!
نزلت رجلي أخيرًا على الأرض، الأرضية زي ما تكون صحرا، رجلي مش لامسه البلاط من كمية التراب...
خرجت من الأوضة، ندهت على أبويا وإخواتي، محدش رد...
دورت عليهم في الشقة كلها، محدش موجود، راحوا فين؟ وليه مبلغونيش إنهم هيخرجوا؟
دخلت أوضتي تاني ومسكت الموبايل، كان فاصل.. ملقتش الشاحن، تمام أوي كدا لا عارف أوصل لحد من أهلي ولا هعرف أكلم "هند"..
مغيرتش هدومي، فتحت باب الشقة ونزلت...
كنت عايز أجيب شاحن وشوية حاجات وعندي فضول، عايز أعرف الهدوء دا سببه إيه...
وقفت قدام العمارة، رجلي مش شايلاني، المنظر قدامي كان ممكن يسبب لأي حد سكتة قلبية.
الدنيا تقريبًا صحرا تمامًا، مفيش أسفلت، العربيات مركونة ومفيش حد جواها ولا في جنس مخلوق في الشارع.. بدأت أمشي ببطء...المحلات مهجورة، اليفط واقعة.. البلكونات أسوارها مدغدغة والطيور معششة فيها.. الناس كلها راحت فين؟؟
لمحت بالصدفة إنعكاسي في إزاز عربية، وشي كان مختلف...في خطوط كتير على جبهتي وحوالين عيني، جلد رقبتي مكرمش ومترهل، شكلي أكبر بكتير من سني، على الأقل عشرة خمستاشر سنة!
قضيت النهار بمشي ما بين الشوارع والطرقات، مفيش أثر لبني آدم ولا حيوان، مفيش حتى كلاب ولا قطط... ايه اللي حصل بليل، إيه اللي قلب الحياة بالشكل دا؟
كمية الأجهزة المرمية في الشارع رهيبة، موبايلات، أحدث الموبايلات مرمية على الأرصفة ومفيش موبايل شغال...
بس... سمعت صوت، صوت مش واضح، كلام وسط خروشة... قربت لمصدر الصوت، كان راديو صغير أنتيكا! المفروض الراديوهات دي إنقرضت من زمان.. في إرسال، قناة ما إذاعية وفي نشرة بتتذاع.. مسكت الراديو.. لما ركزت لقيت إن النشرة بتتكرر، جمل محددة بتتكرر....
"وصلوا سينا! قبيلة الكهف وصلوا سينا، اللي سامعنا ولسه موصلوش حد من الكهف يتحرك، اتحركوا للحدود، الأردن لسه محصنة، لسه محمية"
سكان الكهف! القبيلة، بتوع سيبيريا! أكيد لأ، لأ! وإيه اللي حصل لي ، ليه مش فاكر حاجة وشكلي كمان! في فجوات، سنين مش فاكرها، أكيد ذاكرتي سقطت السنين دي، اتعرضت لصدمة...
مكنتش عارف المفروض أعمل إيه أو أروح فين، طيب أهلي، أدور عليهم ولا بقوا في خبر كان، وخطيبتي وأي حد أعرفه؟!
-شششش ملناش دعوة!
دا كان حد بيتكلم بصوت واطي، كان بيهمس...
في حد عايش! حد لسه هنا...
لفيت حوالين نفسي، مصدر الصوت ممكن يكون واحد من المحلين اللي جنب بعض... قربت بهدوء، ندهت، قلت إني محتاج مساعدة وإني مليش حد ، إني لوحدي تمامًا وخايف...
-قلتلك ملناش دعوة..
بعد الجملة دي اتأكدت من المكان اللي خارج منه الصوت... خبطت على باب المحل... انا فاكره كويس، دا كان محل صيانة موبايلات وأجهزة كمبيوتر وإكسسوار موبايلات، مبقاش باين له ملامح...
فضلت أخبط بإيدي الاتنين، كأن دا آخر أمل ليا...
أخيرًا الباب اتفتح، وراه كان شاب صغير في أوائل العشرينات بالنسبة لي بهيئتي دي وسني كان طفل...
-احنا دخلناك بس عشان الدوشة اللي إنت عاملها، أنت كدا هتعرضنا للهلاك...
اللي بيتكلم كان راجل عجوز قاعد على كرسي مكسر في ركن....
رفعت راسي وبصيت حواليا، المكان كان بائس وقذر، والغريب إنهم تقريبًا عايشين فيه، مش متخيل شكل حياتهم...
زي مانا كنت مستغربهم، هم كمان كانوا مستغربينني... سألتهم:
=هو إيه اللي حصل؟
الشاب رد باستهزاء:
-قصدك إيه بالظبط؟ إمتى يعني، النهارده مثلًا ولا إمبارح؟
=كل السنين اللي فاتت، من 2022!
-نعم؟! أنت مدرك إحنا سنة كام؟
=لأ، من فضلك قول لي.
-2037!
=15 سنة، فاتت 15 سنة؟!
-هو أنت إيه حكايتك بالظبط؟
=أنا، تقريبًا كدا إتعرضت لصدمة، في فجوة في الذاكرة بتاعتي، مش فاكر أي حاجة من اللي حصلت في ال15 سنة اللي فاتوا، ممكن تحكولي عن اللي حصل؟
الاتنين بصوا لبعض بصة طويلة، ملامحهم ما بين الدهشة والاستخفاف، زي ما يكونوا بيقولوا لبعض بعنيهم إن عقلي خف..
الراجل العجوز حرك راسه، بيديله إذن عشان يتكلم...
-الحرب قامت...
=ايوه، أنا حضرت الحرب دي، حرب روسيا وأوكرانيا..
-روسيا وأوكرانيا إيه؟ لأ دي كانت بداية الحرب، معاركهم دي كانت الصفارة في البوق اللي أعلنت عن الحرب الحقيقية...العالم اتقسم جبهتين، كل شوية دولة تنضم لجبهة منهم ، العالم كله ولع، الحروب بقت في كل حته، زي العاركة بتاعة فريد شوقي في أفلامه لما كل اللي في القهوة رفعوا كراسيهم وبقوا يرموا بعض بيها...النووي اشتغل، دول كاملة اتخسف بيها الأرض.. عشان كدا ما خدناش بالنا.. قوة تانية، جنس غريب بدأ يزحف من جوف الأرض، يتسلل للأراضي المكشوفة...المفروض إنهم بشر لكن بسبب ما كانوا محبوسين جوه كهف أو سلسلة كهوف في جبال سيبيريا على ما يبدو لسنين كتير أوي أشكالهم وطباعهم بقت مختلفة، بقوا أشبه بالحيوانات... شفت الأفلام بتاعة الأموات الأحياء؟ أهم حاجة زي كدا، خرجوا بأعداد مهولة ولقونا مستعدين لغزوهم، أرض الله كلها ممهدة ليهم بسبب عمايلنا.. الكائنات دي كل اللي يهمها الغذاء والتكاثر وبس، كل الزرع والحيوانات والبحيرات العذبة وكل مصدر للميه، كله بخ، عاملين زي الوحوش مفيش حاجة بتسد جوعهم ولا عطشهم...
=يا سلام! يعني عايز تفهمني أن العالم كله بالأسلحة بتاعته والتكنولوجيا مقدرش يقف قدامه، لا أمريكا ولا روسيا ولا جيوش الدول كلها؟؟
-جيوش مين ودول مين، الدول كان كلها الدود، بقولك النووي اتضرب واتخسف بينا الأرض...
=طب فين الناس؟ راحت فين الناس كلها؟؟
-الناس يا ماتت يا هاجرت! قلة الأكل والميه اتسببت في موت مجموعة كبيرةـ، دا غير... القبيلة مش بس بيتغذوا على الحيوانات والمحاصيل الزراعية، دول كمان آكلي لحوم بشر... أما بقى المجموعة الباقية اللي لسه فيهم حيل قرروا يمشوا، يفضلوا يمشوا لحد ما يبانلهم صاحب، لحد ما يلاقوا صحرا، أو جبال، أماكن يقدروا يستخبوا فيها أو أماكن تداريهم، زي ما القيلة عملت بالظبط زمان، ساعة رمل إتقلبت والأماكن اتبدلت... أما إحنا بقى، أنا والراجل الطيب دا فمكنش عندنا اختيار، دا كان صاحب المحل اللي قاعدين فيه، زمان لما كان المحل شغال وبيشغي من الزباين، عم "جورج" قرر يتبناني، يشغلني معاه عشان خاطر أهلي الغلابة وعشان مكنتش في مدرسة ومش هيبقى معايا شهادة تشغلني في أي مكان...المهم إنه شغلني من وأنا طفل وعلمني إزاي ابيع وعلمني حسابات البيع والشرا..ولما حصلت النكبة، الحرب ومن بعدها غزو القبيلة...مكنش هيقدر يهرب أو يمشي نظرًا لعجزه وظروفه الصحية فأنا قررت أفضل معاه خصوصًا إن أهلي كلهم ماتوا، مكنتش هسيبه ولا يمكن هسيبه، شاء ربنا إننا نقدر نستخبى منهم ، نتخفى عن عيونهم وإننا نعيش برغم إنعدام الحياة، الحياة زي ما كنا متعودين عليها.....
حاجة لمست رجلي، نطيت من مكاني، من كتر الخضة مقدرتش حتى أصرخ ولما شفت اللي لمسها الرعب بقى اضعاف... عقرب!
عم "جورج" قال وهو بيضحك:
-لا دانت فعلًا فاقد الذاكرة، مخضوض من العقرب؟ عايز أقولك بس على معلومة، إحنا مبقيناش حضر، هنا وباقي الأرض كلها يأما صحرا يأما أدغال وزي ما في أسد في الأدغال في أسد جبلي..
=أسد؟ دي إستعارة ولا...
-لأ مش استعارة ومش بضرب مثل، بقى في إسود وكلاب برية وعقارب ووطاويط وتعابين وحشرات مكناش نعرفها ولا نعرفلها كتالوج...
بلعت ريقي بصعوبة، عيني مكنتش بتطرف... قلت وأنا بتنقل بعيني ما بين الاتنين:
-طيب بما إن المنطقة هنا فضيت من الناس ومبقاش فيها أكل يكفي حد، غيركم إنتوا الاتنين، يبقى أكيد أفراد القبيلة فقدوا أي أمل للمكان، هجروا الشوارع دي وراحوا أماكن تانية، مش كدا؟ مبقاش في خطر هنا...
الشاب اللي طلع إسمه "سلام" رد:
-لأ، لو عينك الاتنين غفلوا، مسبتش واحدة مفتحة هتبقى فريسة! مفيش حاجة إسمها الخطر زال! برغم طبيعتهم البدائية إلا إن عندهم ذكاء حاد بيخدم مصالحهم ورغباتهم، هما مدركين دماغنا هتفكر إزاي وسابقيننا بخطوات، بيرجعوا يمشطوا المناطق اللي شفطوا خيرها وطفشوا أهلها كل فترة عشان لو في ناس اعتمدت على إنهم مشيوا ومش راجعين وقرروا يرجعوا تاني....
رجعت خطوات لورا ، سندت بضهري على حيطة.. برغم إني مش فاكر أي حاجة من السنين ال15 اللي فاتوا، بس في ليلة فاكرها كويس جدًا، ليلة من وقت بعيد... لما اتجمعت مع قرايبي وقعدنا نحكي في قصص رعب.. افتكرت كل كلام سهيلة عن القبيلة وعن توقعات الناس اللي معتقدة في وجودهم لو خرجوا... أنا الوحيد اللي إتهوست بالقصة ولسبب ما بقيت خايف جدًا وحاسس إنهم هيخرجوا قريب بعكس كل اللي كانوا قاعدين معانا... خوفهم كان لحظي، وقت ما سهيلة كانت بتحكي ، جزء منهم مكنش مصدق أصلًا أن الحكاية حقيقية والجزء التاني مش بينكر تمامًا بس كان متخيل إن الموضوع بعيد عننا، لو اتحقق يبقى في الأجيال اللي جايه بعد عمرٍ طويل...
مكنتش متخيل أن الأجواء ممكن تبقى مرعبة أكتر. لكن لما جه الليل، إكتشفت إن في مستوى تاني من الرعب.. كشاف صغير بائس بس هو اللي كان شغال، هو المصدر الوحيد للنور.. مقدرتش طبعًا أنام، كل شوية يتهيألي إني سمعت صوت حركة، ممكن تبقى حشرة أو حيوان، كل شوية بتلفت حواليا...
واللي يخاف مالعفريت يطلعله...
المرة دي مكنتش بتهوم، كان في فعلًا حركة، مش حشرة ولا عقرب، دا كان تعبان! تعبان ضخم، معرفش بحجمه دا إزاي دخل جوا المحل....كان شبه التعابين بتاعة مستنقعات أمريكا اللاتينيية، زي الأناكونده!
صرخت بهيستريا..."سلام" و"جورج" قاموا مفزوعين على صريخي...
"سلام" شاورلي عشان أسكت...بس بعد ما شاف التعبان هو نفسه بقى يصرخ...
كان لازم يبقى في تصرف سريع.."سلام" اختفى لثواني وبعدين رجع ببندقية. "جورج" حاول يوقفه قال له يستخدم سكينة أو أي سلاح تاني عشان الصوت ممكن يجذب أفراد من القبيلة لو موجودين قريب، بس مكنش في رفاهية للاختيارات ومينفعش كان يجازف. صوب البندقية على التعبان وضرب نار...
زي ما يكون "جورج" كان بيتنبأ....
سمعت صوت دبيب أقدام، الصوت مكنش قريب أوي بس عشان الفضا اللي عايشين فيه قدرنا نسمعه بوضوح..
"سلام" اتحرك بسرعة، شال "جورج" اللي جسمه ممدد على الأرض.. وزعق فيا عشان أتحرك معاهم، لكن دي كانت محاولات بائسة.. قبل ما نخرج سمعنا صوت الإزاز بتاع المحل بيتكسر...
قلبي كان بيضرب بسرعة رهيبة بس برغم الرعب اللي كنت فيه ، كان جوايا فضول... عايز أشوف اشكالهم، يا ترى هيبقوا عمالقة، أجسامهم ضخمة وعشان نعرف نبصل لهم لازم نرفع راسنا لفوق ولا كفوفهم شبه كف الوحش الضخم بتاع جزيرة سندباد...
فضلت متسمر مكاني لحد ما دخلوا وبقوا واقفين قدامي...
لا عمالقة ولا كفوفهم ضخمة ولا بيطلعوا نار من بوقهم! بني آدمين أحجامهم عادية جدًا، المختلف هو إن الشعر كان مغطي أجسامهم ووشوشهم، الشعر في كل حته، عنيهم حادة وعندهم عضلات جامدة، ده أكيد من كتر الحركة والفتونة على خلق الله.
سألت "جورج" و"سلام":
-إحنا معندناش حاجة عشان ياخدوها والأكل قليل زي ما قلتولي، ممكن يمشوا لما يكتشفوا دا...
"سلام" رد وقال لي:
-وعشان كدا، عشان مفيش أكل إحنا هنبقى الأكل!
اللي حصل بعد كدا بشع، أيًا كان اللي شفته في ال15 سنة اللي فاتوا وخلاني أفقد الذاكرة، فالمشاهد اللي حصلت في المحل الليلة دي تستدعي أن الذاكرة تتمحي للأبد...
"سلام" كان أول واحد عشان الأصغر، شاب وصحته كويسة وأكيد طعمه ألذ...
دبحوه قصاد عيننا وقطعوا جسمه ودخلوا في أوضة صغيرة في المحل وبالهنا والشفا وأكيد أنا اللي كان عليا الدور مش "جورج" العجوز...
سلمت أمري لله واستسلمت، مفيش داعي أقاوم أو أبقى ساخط، دا قدري وبشكل ما ذنبي ، مش أنا برده كنت من الجيل إياه، الجيل اللي بعد عن ربنا وبقى خاضع ومهووس بالتكنولوجيا والسوشيال ميديا ، الجيل اللي فقد الإحساس بالبشر اللي زيه لدرجة إنه بطل يتعاطف مع ضحايا الفقر والجوع والحرب وبقى متابع أخبارهم كإنهم شخصيات كرتونية أو إفتراضية واتفرج على الحرب والإبادات الجماعية كأنه بيتفرج على ماتش أهلي وزمالك، كلنا فاسدون لا أستثني أحدًا...
في وقت الراحة بتاعتهم، وهما نايمين قدامنا وبيتقلبوا كانوا بيكحوا جامد جدًا، وورا بعض.. لما قاموا زائد الكحة كانوا حاطين إيديهم على صدرهم كإنهم بيتألموا وبعد فترة أجسامهم بقت تتخبط ، مش عارفين يمشوا في خطوط مستقيمة وفي النهاية مبقوش قادرين يتنفسوا ، أجسامهم إنهارت وماتوا!
مكناش فاهمين حاجة، إيه اللي حصل لهم؟! ماتوا كلهم من إيه، إتسمموا مثلًا؟ بس دي مكانتش أعراض تسمم..
شلت "جورج" وخرجنا برا المحل.. شفنا منظر مذهل، جثث كانت مالية الشوارع، الناس بتوع القبيلة كانوا مرميين في الطرق..
"جورج" بدأ يضحك ضحك هستيري..سألته بذهول:
=إيه اللي حصل لهم وبتضحك ليه؟
-عارف إيه اللي كان عندهم وقضىى عليهم؟
=إيه؟
-الوباء إياه اللي حل علينا في 2019! اللي مع الوقت بقى بالنسبة لنا زي أي دور برد عادي، يتعبنا شوية وبعدين يعدي، أجسامنا مع الوقت إكتسبت مناعة وبقينا نقاومه.. هم بقى عشان كانوا منفصلين عننا لآلاف السنين معداش عليهم الأمراض بتاعتنا ولا الأوبئة عشان كدا الفيروس اللي شايفينه خفيف دا بالنسبة لهم شرس جدًا، قدر على اللي البشر كله مقدرش عليه، قضى عليهم....
المنظر قدامي مكنش مفرح، مفيش حاجة في المشهد ده تفرح، حتى لو القبيلة كلها ماتت، حتى لو بقى لينا أمل، أنا خسرت أهلي وكل الناس اللي أعرفهم، مبقاش في حضارة، إحنا والصحرا والأدغال والحيوانات البرية وبس. وأكيد شوية وهنرجع نقطع في بعض ونستأنف صراعاتنا...
العتمة زادت حواليا، عم "جورج" إختفى، الجثث والصحرا وكل حاجة اختفت.. وظهرت قدامي صورتين.. الصورتين جواهم دواير متداخلة، تخلي الواحد يدوخ...حركت راسي بعنف، خرجتها من المكان اللي كانت فيه...
وقعت على ضهري..قدامي كان الراجل اللي ماسك صندوق الدنيا وجنبي "هند"...
مكنش حلم! أنا فعلًا في الغورية، راسي كانت جوه صندوق الراجل المريب، شفت كل دا، خروج القبيلة وتصحر العالم والرجوع للبدائية وكل البشاعات، كل دا شفته جوه الصندوق...
قمت وأنا جوايا غضب رهيب. مشيت بسرعة ناحية الراجل ومسكت في هدومه...
=أنت عملت إيه؟ وديتني فين؟ وسبتني كل دا جوه..
هند قالت في ذهول وهي بتحاول تفك إيديا من الراجل:
-كل دا إيه، أنت دخلت 3 دقايق بس. سيب الراجل يا هاشم..
الراجل فضل يزعق ويقول:
=أنا مليش دعوة، دي أفكارك أنت، دي دماغك أنت!
يقصد إيه؟ يعني فعلًا الصندوق إنعكاس لينا؟ كل واحد هيدخل هيشوف حاجة مختلفة؟ أنا شفت مخاوفي، إتجسدت قدامي... فعلًا دي كانت مخاوفي والهوس بتاعي من ساعة ما سمعت قصة القبيلة.. لكن لأ، الموضوع مش بالبساطة دي.. الراجل ده مش طبيعي وقدراته مش عادية.. وصندوق الدنيا بتاعه خطير ومش زي أي صندوق تاني,,,
عبال ما فقت الراجل كان بعد، بقى في آخر الشاره.. لف وبص لي وهو بيبتسم بخبث.. عنيه كان بتطرف من اليمين للشمال كإنه من الزواحف!
قررت ابطل إتهوس بالقصة إياها بتاعة القبيلة والبشر المتوحشين، لكن لفت إنتباهي خبر بعد مدة.. انهيار جليدي في جبال سيبيريا يكشف عن مدخل ضخم لكهف....
"تمت"