بسم الله الرحمن الرحيم
القصة مؤلفة
الشمس مشرقة، الأيام اللي فاتت كانت برد أوي والشمس مكنتش بتطلع، الشتا ده أصله قارص، مش معتاد، النهارده الوضع مختلف، كإنه شتا من الشتويات الدافية اللي اتعودنا عليها، يوم كده اتسلل من وسط الأيام الصعبة، ولما شفت الشمس من شباك أوضتي قررت أمارس هوايتي المفضلة، إني أركب عجلتي وألف شوية في الشوارع وأجيب بالمرة العيش بنفسي والفطار وأي طلبات تانية للبيت...
مدخلتس حتى الحمام، لبست أي حاجة، أول بلوفر شفته على أول بنطلون، وقبل ما أخرج من أوضتي لمحت إنعكاسي في المراية، غريبة!
لو ركزت في وضعي فهو غريب، أنا شحط، عندي 41 سنة، عايش مع أمي، لا متجوز ولا بشتغل، لسه بتصرف عليا، راحت فين السنين اللي فاتت؟ ليه العمر عدى كده، ليه ذاكرتي مشوشة ومش فاكر تفاصيل الماضي، إيه اللي وصلني لده؟
-رايح فين؟
أمي سألتني أول ما شفتني بلبس الخروج..
رديت عليها:
=هدخل الحمام بس أغسل وشي وأنزل أجيب الفطار وأي طلبات عايزاها.
-أيوه يا حبيبي بس الدنيا برد عليك.
=لا، النهارده دفا أوي، مش شايفة الشمس؟
-معرفش، مش مرتاحة للمكوجي الجديد اللي فتح قصادنا.
=هيعمل إيه يعني، هياكلني؟ ولا خايفة أتهور عليه؟
-طب خلي بالك من نفسك، روح هات اللبن والفطار وشوية الطلبات اللي هقول لك عليهم لما تخرج من الحمام ، متسرحش زي عادتك في الشوارع، تيجي علطول.
وخرجت، ركبت عجلتي وانطلقت، مين يقول إن ده رمسيس؟ رمسيس أصله نعمة ولعنة برضه، فرق توقيت، أغلب الوقت تمشي فيه تبقى مش طايق نفسك، من الزحمة للميكروباصات والأتوبيسات اللي في الدوران والشوارع الجانبية والرئيسية وكل شبر والروايح الكريهة بالذات لما تقرب من المحطة، على بعد كيلو منها!
لكن في الوقت ده، الساعة 9 الصبح في يوم شتا دافي، العيال في مدارسهم والناس في مصالحهم، رمسيس بيتحول لحي أصيل، كل شبر فيه بينطق جمال وتاريخ، حاجة كده رايقة...
جبت العيش الطازة من الفرن، كنت ماشي بالعجلة بروقان والعيش ورايا على المسند، فارد دراعاتي وبضحك لما لمحت مشهد في القهوة اللي جنبي، باب القهوة الحديد كان مقفول نص قفلة لتحت، من الفراغ شفت راجل بيمد إيده بشاكوش وبيخبط واحدة على راسها وهو كاتم بوقها بإيده التانية!
من الخضة وقعت من العجلة وكيس العيش طار، وهو...القاتل...لمحني...
ساب الجثة ووقف للحظات وهو بيبصلي وبعدين اتحرك...
جي عليا، بيقرب بسرعة، اتشليت في مكاني، دماغي وقفت عن التفكير، كنت عاجز، مش عارف، مش عارف أعمل إيه، وأخيرًا اتحركت...
ركبت العجلة وانطلقت بأقصى سرعة، كنت ماشي من غير اتجاهات، مش مركز في المسار، علطول، الأقي عربيات أدخل شمال، ألاقي ناس متجمعة أدخل يمين، الأكيد إني كنت بعيد عن البيت وشوية شوية مبقتش عارف أنا فين، وفي لحظة الدنيا ضلمت....
حسيت بوجع رهيب في كل جسمي ومكنتش شايف حاجة، أدركت إني وقعت والوقعة كانت صعبة بقدر السرعة اللي كنت ماشي بيها، جسمي كان مكسر ووشي في الأرض!
إيه اللي حصل؟
رفعت راسي بالعافية لقيت العجلة معجونة وجنبها واقف توكتوك، هو ده، التوكتوك اللي خبطني، الرؤية كانت مشوشة، السواق جري عليا، جربت أتكلم مقدرتش! كنت بحاول أوصف اللي حصل، واللي خلى لساني معقود هو إني مكنتش فاكر ملامحه، القاتل! كل ما أفتكره أشوف وش من غير ملامح، وش ممسوح....
-تعالى معايا.
فوقت على صوت السواق، أنا فعلًا كنت محتاج مساعدة لكن مش قادر أتحرك، السواق ومعاه اتنين رجالة جم وحاولوا يقوموني، صرخت صرخة مكتومة من الألم، الطريق من الأرض لحد التوكتوك كان طويل أوي بالنسبة لي على الوجع اللي حسيت بيه.
-متشكرين يا رجالة.
ده كان السواق، رفع إيده وسلم على الناس اللي ساعدت ومشي بالتوكتوك وأنا معاه...
أنا مش عايز اروح مستشفى، عايز أروح للبيت، أرجع لأمي...
قلتله:
=واحد موت ست في القهوة، مش فاكر شكله، ملامحه ممسوحة، ضربها بشاكوش.
مردش عليا.... هو أنا كنت بتكلم بصوت عالي ولا بكلم نفسي؟ مش عارف أميز، حاسس بدوخة رهيبة...
وأخيرًا الشوارع رجعت مألوفة من تاني...
قادر أميز المحلات والأرصفة و....القهوة
ليه وقفنا قدام القهوة، نفسها اللي الست اتقتلت فيها، فضلت أبص حواليا، محتار، مش عارف ابدأ منين....
السواق نزل، مد إيده ليا...
قلتله:
=لا، لأ، بلاش هنا.
-ليه؟
=هنا الراجل قتلها، جوه القهوة دي.
-القهوة دي؟
=أيوه.
-لأ، أكيد قهوة شبهها، مفيش هنا حاجة، تعالى أحطلك قهوة على دماغك على الأقل، عشان النزيف.
نزيف؟ هو أنا دماغي بتنزف؟ للدرجة دي اتشحورت؟
نزلت معاه ودخلنا القهوة، لقيته من ورايا بيقفل الباب الحديد، مفيش حاجة باينة فعلًا، مفيش جثة، مش هي القهوة، لكن...ثواني!
في نقط دم على الأرضية، والنقط بتزيد كل لما بمشي لحد...الجثة، الست أهي، مرمية على الأرض، دماغها متفشفشة...
فتحت بوقي وكنت هصرخ لولا إني لما اتلفت لقيت الراجل ماسك الشاكوش وبيشاورلي على بوقه: "شششششش".
أنا مش شايف ملامحه، معقول الوقعة كانت بشعة كده، أنا عندي ارتجاج ولا إيه؟ لا شايف ملامحه دلوقتي ولا قادر افتكرها من وقت ما شفته بيقتلها..
فضلت ماشي قدامه زي ما بيوجهني لحد الحمام، قفل عليا والدنيا بقت ضلمة كحل...
صوت أنفاسي كان عالي أوي، عشان مفيش غيره، مفيش أي صوت، معنديش فكرة هيحصل فيا إيه بعد كده، هو أنا لو صرخت في حد هيسمعني؟ متجرأتش، خفت أصرخ تبقى آخر صرخة والراجل يقتلني في ساعتها، بعد شوية الباب اتفتح...
جثة الست اترمت جنبي، الراجل بص لي، كان معاه الشاكوش، رافعه في وضعية الضرب، رجع تاني بص للجثة، نزل الشاكوش وقفل الباب ومشي...
قبل ما يقفل الباب كنت أنا زحفت على ركبي، حاولت أوصل له، إترجيته:
=أرجوك، خرجني من هنا، مش هنطق، مش هقول حاجة، عايز أرجع لأمي، أرجوك، وربنا ما هتكلم.
لكنه ملتفتش ليا، جالي إحساس قوي إنه كان...ناوي يقتلني بس لما بص على الجثة افتكر إنه لسه هيدور يخفيها ويتخلص منها مش ناقص هو حمل أكبر، هيتصرف في جثتين إزاي؟ ده بس الي وقفه، لولا كده كان زماني في خبر كان...
جالي فكرة، دخلت إيدي جوه جيوبي، إيه ده هو أنا مجبتش الموبايل؟ بسيبه عادي كده وبنزل من غيره؟
ريحة الصرف كانت ممزوجة بريحة الدم اللي عامل زي الصدا، ريحة بشعة، حاسس إني هتخنق، معرفش أنهي إحساس طاغي على التاني، الرعب اللي أنا فيه ولا القرف، سامع قلبي بينبض جامد، صدري بيوجعني، عامل زي الفار اللي اتحشر في مصيدة، مصيدة مؤلمة، مش قادر يتحرك ولا يفكر، عاجز تمامًا...
سمعت حركة الراجل، كان رايح جي، مش مبطل مشي، حركة هستيرية، بيفكر، بيفكر هيخلص من مصيبته إزاي، لو يعرف، أنا مش هتكلم، والله ما هتكلم، كل اللي عايزه أرجع تاني لبيتي، لأوضتي، مكنتش متخيل إني بحب أوضتي كده، وحضن أمي، عايز أترمي في حضن أمي...
وفجأة سمعت حركة تانية، باب القهوة بيخبط!
قمت واتكعبلت في الجثة وأنا بقرب على الباب وبلزق ودني عليه...
سامع حد بينده من بعيد، بيقول:
-إيه يا فتحي فينك؟ عايز أمخمخ بكوباية شاي في الخمسينة، فينك ياض مش فاتح ليه...
الزاير سكت شوية وبعدين قال:
-سامعك يالا، أنت معاك حته جوه ولا إيه؟
الباب الحديد اتفتح بسرعة، الزاير ضرب على وتر حساس، هو فعلًا في معاه حد جوه لكن مش معاد غرامي، معاه جثة ورهينة.... أنا...
المعلومة اللي طلعت بيها إن الجاني إسمه "فتحي"، المجرم اللي خاطفني وحابسني مع الجثة في الحمام اللي ميسعش غير نفر واحد...
"فتحي" فتح الباب عشان خاف يتفضح، كون إن في حد متأكد إنه موجود وإصراره إنه ميفتحش ده بالعكس يثير الشبهات...
وأول ما فتح الزاير قال له:
-إيه يا عم، مانت لوحدك، مش بتفتح ليه وفين العيال بتوعك؟
-قلتلهم ييجوا بليل، عايز أريح.
-خير؟ ما القهوة علطول شغالة؟
أهو حاسس إني مش مظبوط من إمبارح، باين دور برد، وكنت عايز أبعد عن البيت، شادد مع أهلي.
سمعت خطوات تانية، الناس بدأت تيجي على القهوة...
-مش شغالين، تعالوا بليل.
"فتحي" حاول يمشيهم لكن كانوا عاملين زي النمل، مش بيلحق يبلغ الموجودين وييجوا عليهم ناس تانيين...
هي دي فرصتي الوحيدة! لو مستغلتهاش مش هيبقى ليا فرصة تانية للنجاة....
خبطت بعزم ما فيا على الباب، ومع الخبطة التانية فتحت بوقي وكنت هصرخ، الباب اتفتح وخبطة نزلت على صدري واتزقيت، ده كان "فتحي"، خبطته الرهيبة والزغرة اللي ادهاني كانت كافية تخليني أكتم الصرخة، لسه كنت هقول له يرحمني، هترجاه يخرجني من هنا لكنه خبطني تاني، إيده قوية أوي، حاسس كإن عضم صدري اتكسر، أنا عايز أروح لأمي، كل اللي عايزه أروح لأمي، مش عايز حاجة تانية، أنا اصلًا مش عارف أشوف ملامحه، لحد دلوقتي مش عارف أشوفه، مش فاهم في إيه...
إيه اللي بيحصل لما الواحد يقعد في الضلمة وقت كبير؟ اللي بيحصل إن عينه بتاخد عليها وبيبدأ يشوف في العتمة، زيه زي حيوانات الغابة، بقيت قادر أشوف الجثة، عنيها كانت مفتوحة عالآخر وبوقها كمان، الدبان ملموم حواليها، شعرها مبلول، كإنه متحني بحنة حمرة، وخيوط الدم ناشفة على جبينها وحتت تانية من وشها، حاسس إنها بتبصلي، لما بتحرك عنيها بتتحرك معايا، رصداني، مش عايز أموت، مش عايز أبقى زيها....
الناس في القهوة بيضحكوا وبيرغوا، وفي الشارع كمان، قادر أسمع خطواتهم وكلامهم من الشباك، صحيح الكلام مش واضح، مش عارف أفسره، لكن قادر أميز الطاقة اللي فيهم، الدنيا ماشية، الكون موقفش عشان أنا غايب!
أخيرًا الحركة في القهوة اختفت، الناس كلهم مشيوا، "فتحي" نجح يقنعهم ييجوا بليل، ورجعنا تاني أنا وهو والجثة لوحدنا...
سامعه بيقرب من الحمام، أول ما يفتح هقول له تاني، هحلفله إني مش هتكلم، هتحجج بأي حاجة لأمي، هقول لها إني خبطت في توكتوك وإني أنا الغلطان وإني اتفشفشت، وحد وداني أقرب مستشفى عشان كده اتأخرت، هنسى اللي شفته وإني عرفت البني آدم ده من الأساس...
بس هو مفتحش، ليه، ليييه؟
سمعته بيتكلم، قال:
-بتعمل إيه يا واد عمي، لسه الناس اللي عندك مسافرين؟ وأنت طبعًا مقطوع للبيت بتحرسه؟ بجد؟ صايع فين وسايب البيت؟ خبرك إسود، مش خايف تتقفش؟ اسماعيلية إيه اللي أنت فيها؟ طب بقولك، كنت عايز أعدي أركن التوكتوك هناك عشان هروح لواحد معرفة بيغفر في نفس المنطقة، بيغفر بيت قريب منكم ومش عاوزه يشوف التوكتوك عشان العين، مش ناقصين، كنت قلتلي عوايدك تسيب المفاتيح وتخبيها لما تطلع مشوار عشان متضيعش....حلو أوي، في حوض الزرع بره البيت، ماشي....لا متخفش، مش هغيب وبعدين مسافر أنت الإسماعيلية وخايف مني أطول؟ لا، أكيد همشي قبل ما أنت تهل بكتير.
هيسيبنا ويمشي؟ أخدت نفس طويل، ارتحت للفكرة، وجوده بيوترني وبعده ولو لساعة هيريحني شوية، أخيرًا بدأت ضربات قلبي تنتظم، بعد ما كان في عركة جوه صدري، ده كان قبل ما الباب يتفتح وألاقي "فتحي" داخل عليا، كان ماسك ملاية، شال الجثة وحطها جواها ولف الملاية عليها لحد ما اتدارت، قال لي وهو بيعمل كده بنفس متقطع:
-يالا...على...بره.
إيه؟ هيمشيني؟ أخيرًا اقتنع وقلبه رق، صعبت عليه؟ صح، وجودي ملوش لازمة وأكيد بعد الرعب اللي شفته مش هنطق، لقيته بيشاور على بره الحمام براسه، قصده أخرج بره الحمام مش زي ما جه في بالي هيحررني.
خرجت من غير كلام. "فتحي" كان لسه شايل الجثة، لاحظت إن الباب الحديد مش مقفول على الآخر، فيه فراغ تحت، بس ده فراغ قليل...
خطرت على بالي فكرة، "فتحي" شايل الجثة دلوقتي، مش هيلحق، مش هيلحق يمسكني، معقول؟ أهرب؟
بس الفراغ بسيط مش هيساعي جسمي، يقدر يعدي منه طفل، مش راجل بحجمي، ولو، هجرب، هيحصل إيه يعني؟
جريت على الباب الحديد، مددت وإتدألجت من الفتحة وعديت منها!
إزاي؟ قدرت أعدي إزاي؟ أنا حتى متزنقتش، عديت بمنتهى السهولة، ما علينا، المهم إني عديت، وجريت، جريت بأقصى سرعة، فضل أجري شوية وبعدين وقفت، قررت أستنجد بالناس بدل ما أكمل جري، قربت من ست في الأربعينات وقلتلها إن في راجل خطفني وبيطاردني، شفت على وشها الذعر، كانت خايفة مني، تلاقيها فاكراني بعمل عليها دور وعايز أخطفها ، بعدت عني وسرعت في خطوتها، روحت لمجموعة شباب تانيين وحاولت أتكلم معاهم، تجاهلوني، وكإني لوحدي في الكون برغم الزحمة اللي حواليا، هي الناس حصل لها إيه؟ إيه اللامبالاة دي؟ يأما مش مصدقين، يأما خايفين، يأما أصلًا مش مهتمين، ودول الأغلبية....
ودي كانت أكبر غلطة عملتها، إني وقفت، لو كنت كملت جري كنت نجيت، لكن "فتحي" لحقني، التوكتوك بتاعه ظهر قدامي، كان قريب، قريب أوي مني، معنديش فرصة أهرب، نزل وهو غضبان، برغم إني لسه مش شايف ملامحه، لسه وشه ممسوح، بس كنت قادر أميز كمية الغضب اللي فيه، جرني وسط الناس اللي محدش فيهم اتحرك وحطني في التوكتوك وجري بسرعة تاني على القهوة.
زقني على الحمام وقفله وفضل يضرب فيا، كنت هموت، كان بيضرب بإيديه الاتنين في كل جسمي من غير ما يركز هو بيضرب فين...
-أي حركة ولا نفس كمان وهتحصلها، فاهم؟
حركت راسي بأكد على اللي بيقوله من غير ما أتكلم...
بعد شوية، مش عارف قد إيه بالظبط، كتير ولا قليل أصلي فقدت إحساسي بالوقت، سمعت الباب الحديد بيفتح وخطوات بتخرج من القهوة...
"فتحي" قال بصوت عالي:
-متشكر يا كبير، مش هتأخر عليك، بليل عربيتك هتكون عندك.
بعدها الباب اتفتح عليا..."فتحي" قال:
-يالا.
=هنروح على فين؟
-لسه بتجادل وبتسأل؟
وضربني على كتفي...
برغم اللي كنت فيه كان على لساني اسأله "هو وشك ماله؟ ليه ملامحك مش باينة؟"
كان عندي فضول رهيب أفهم ليه وشه ممسوح، وياترى أنا بس اللي شايفه كده ولا كل الناس؟
طلعنا عالشارع قدام القهوة بالظبط، كان في عربية مركونة، عربية موديلها قديم، مهكعة، فتح الشنطة وحط فيها الملاية اللي فيها الجثة وقفل، فتحلي الباب القدام وأمرني أدخل، دخلت فورًا.
ركب جنبي في كرسي السواق ومشي بالعربية، كان ماشي بسرعة رهيبة، وبرغم كده بعد شوية حسيت إننا بنتحرك ببطء، شايف كل حركة بره العربية بطيئة، بطيئة بشكل مريب، كل لحظة بتعدي عليا كإن حد بيطعنني في صدري، مرة ورا مرة ورا مرة... أمي، عاملة إيه؟ يا ترى حاسة بإيه وأنا ضايع ومش عارفة تلاقيني؟ مش قادر أوقف نفسي عن التفكير فيها وده زود الوجع، حرقة قلبها عليا، إحساس العجز اللي أكيد حاساه، لجأت لمين، عملت إيه؟ نزلت الشارع تدور عليا، كلمت الشرطة؟ لسه متماسكة؟ هشوفها تاني ولا لأ؟ لو كنت أعرف....مكنتش نزلت أو على الأقل قعدت شوية زيادة معاها الصبح، اتمليت من وشها...
أنا شايف وشوش الناس، ملامحهم واضحة، كل الناس بره العربية ملامحهم واضحة، بصيت جنبي على "فتحي"، وشه ممسوح! لسه مفيش ملامح باينة، بس مش وشه بس اللي غريب، أنا عيني لقطت السما، السحاب والفراغ اللي في الوسط، الألوان غريبة، وكمان السحاب مش متناسق، بمعنى السحابة يبقى ليها شكل معين وفجأة تبقى خطوط أو متكملش، كإنها رسمة مش مظبوطة...
-وصلنا!
فوقت على صوت "فتحي"، إحنا في مكان فاضي، مدينة من المدن الجديدة، مش عارف أحدد أنهي مدينة، البيوت هنا ما بينها مسافات، والناس في الشارع يتعدوا على الصوابع، وأكيد كل واحد في حاله، لو الأرض اتشقت وبلعت بني آدم محدش هينجده ولا هيلتفت، إذا كان في الحي بتاعي الشعبي الأصيل الناس باعتني وفضلوا سلامهم النفسي، هيبقى هنا في أمل؟
لأ، "فتحي" مش هيقتلني، لو كان عايز يقتلني كان قتلني فعلًا، كان في قدامه فرص كتير لكن معملهاش، ده اللي بحاول أقنع بيه نفسي، كإني داخل أوضة عمليات وأنا مدرك إني احتمال كبير مطلعش منها حي، رايح لقدري برجلي بس مضطر، معنديش إختيار، ومفيش غير الأمل أمسك فيه وأقول يارب، "يارب".
لقيت نفسي بدخل بيت كبير، بنزل السلالم لحد أوضة معينة و"فتحي" بيأمرني أدخلها، دي أوضة الغفير قريبه، هي أوسع أكيد من الحمام وظروفها أحسن، مفيهاش نفس الريحة البشعة، لكن هل أنا حالي أفضل هنا، أكيد لأ...
الحيرة زادت، مبقتش فاهم "فتحي" بيفكر في إيه، ليه نقلني هنا؟
اتجرأت أخيرًا وسألته:
=إنت سايبني ليه؟ هتعمل فيا إيه؟ ليه المكان ده؟
-ششششششش، ياض أنت زنان يالا، يا عيني على أهلك اللي مستحملينك، عيل لزج، أقعد هنا وأكتم مسمعش حسك لحد ما ااجي.
وقفل عليا....
المرة دي الجثة مش معايا ، أخدها ومشي...
لقيت نفسي غصب عني بفكر في حاجات مكنتش تخطر على بالي، زي هل أنا كنت كويس مع أمي؟ كنت بسمع كلامها ولا بعند وبضايقها؟ ولا مش بسمع الكلام بما فيه الكفاية؟ طب أنا السبب في إن أبويا يهجرنا ويمشي، أنا اللي زودت الحمل ولولايا كان زمانهم لسه مع بعض ومكنش حس بالعجز والقهر عشان مش قادر يسد على مصاريفنا؟ هل كنت كويس مع صحابي وحيوانات الشارع والناس المساكين اللي مالين الشوارع؟
لو أقدر أرجع بس، أرجع لكام يوم كنت هبقى أحسن واحد في الدنيا مش هزعل أمي ابدًا ولا هضايق حد، مدرس الدين بتاعي قال لي إن الإنسان سيرة، لما سألته يقصد إيه، قال إن أفعال الخير بتبقى والناس بتفتكر البني آدم بيها بعد ما يموت وبتدعيله، ليه الذكرى دي مش بعيدة، ليه حاسسها قريبة كإنها حصلت قريب أوي مش من سنين كتير؟