بسم الله الرحمن الرحيم
القصة مستوحاة من أحداث حقيقية
-مش قدامه!
الكلمتين دول قالهم عمي لأبويا لما جاب سيرة أمي وأنا موجود، باين كان عندي 8 سنين، مش فاهم هم ليه كانوا متخيلين إني مش هستحمل سيرتها، اه أكيد كنت متأثر بموتها، لكن مش بيجيلي نوبات مثلًا لمجرد إني اسمع إسمها أو حد يحكي عنها قدامي، كان في حساسية زايدة عن اللزوم، وتقريبًا محدش كان بيتكلم عنها في وجودي لحد ما كبرت….
قبل ما أتم التلاتين أبويا كان مات هو كمان وبعديه عمي اللي كان أقرب واحد ليه في السن، نفسه اللي نبهه ميتكلمش قدامي عن أمي لما ماتت…
أنا حفار قبور، اتعلمت الصنعة من أبويا، في ناس في منطقتنا كان بيتشائموا منا، وناس تانية كانوا بيتباركوا بينا، مقدريننا، وده عشان أخلاقنا، طول عمرنا في حالنا ومش بنطلب فلوس زيادة ولا بنستغل حزن الناس في وقت دفن اللي بيحبوهم زي ما حفارين تانيين بيعملوا، بالعكس كنا بنحترم حرمة الأموات وهيبة الموقف، وكان عندنا كرامة، مش بنقبل الفلوس اللي الناس بتديهالنا في إيدينا غير كل فين وفين، نفسنا كانت عزيزة.
عشان كده مكنتش بزعل من الناس اللي بيتشائموا مني أو بيتجنبوني، زي ما في كده في اللي بيحترمني وبيشيلني فوق راسه….
وبرضه، أوقات كنت بقدر اللي بيخافوا…أصل محدش يعرف اللي كنت بشوفه وبحس بيه…
الهمسات اللي كنت بسمعها من وقت ما أبويا كان عايش وكترت من بعد ما مات، لما الليل ييجي، كنت بسمع أصوات…همسات لناس كتير، أصوات متداخلة…ليالي كنت اسمعها في البيت أو عشان أكون دقيق الأوضة اللي كنا عايشين فيها في المدافن، وليالي كنت بسمعها وسط المدافن، مكنتش قادر أفسر حاجة من الهمسات، معرفش اذا كان كلام أصلًا ليه معنى ولا لأ…بس عمري ما كنت بتهز، أنا شغلتي كانت حفر القبور للأموات وياما شفت جثث تشيب، مكنتش هخاف من شوية همسات….
-جرى إيه يا "مأمون"؟ أنت ناوي تقضي حياتك كده؟
ده كان واحد من أهل عزبة الجيزة، راجل طيب كان قريب مني ومن أبويا الله يرحمه… رديت عليه:
=مالها حياتي؟ تقصد إيه يا عم "زكريا"؟
-منفسكش تشوف عيل صغير شبهك، يشيلك لما تكبر وياخد باله منك، طب بلاش العيال، هتفضل عايش وحدك من غير ونيس، دي عيشة دي…
ابتسمت، فهمته، الغريب إني فعلًا مجاش في بالي أتجوز، معرفش بقى، كبرت قبل أواني ولا إيه، الشغلانة بتاعتي خلتني اتعظ وأزهد في الدنيا، مفكرش في ست ولا ونيس زي ما عم "زكريا" قال، مفكرش في نفسي ومستقبلي، أعيش اليوم بيومه، واحفر القبور واترحم على اللي بيترموا فيها…
=ومين العبيطة اللي هتقبل بيا؟
-ليه بقاااا، أنت فاكر نفسك قليل؟ طب وما ليك عليا حلفان، بنات ياما نفسهم ينولوا الرضا، واللي مخليهم هيتهبلوا عليك هو تقلك ده وأنك معمي عنهم ومش حاسس بيهم…
=الله الله، ده في حكاوي وقصص بتحصل من ورايا…
-يوووه، دانت مدوب قلوب العذارى، ياما بنات نفسهم ينولوا الرضا وأهاليهم كمان، بس معلش أنا أولى، أنا اللي كلمتك الأول، وأنا اللي أقرب ليك ولأبوك ربنا يرحمه ومش بعد ما فتحت عنيك هتروح تبص بره…
ابتسمتله، مكنتش فاهم عايز يقول إيه، معلقتش وسبته يكمل…
-أنا حجزتك لبنت أختي، البنت يتيمة، أبوها وأمها اتوفوا وأنا اللي باقيلها ، بس بقولك إيه أنا زيي زي أبوها، يعني لو فكرت تيجي عليها على أساس ملهاش ضهر أكسرلك ضهرك وضلوعك.
مكنتش عارف أرد أقول إيه، بصراحة مكنتش واثق إذا كنت عايز ده، ابتسامتي ليه كانت مزيفة، لا كنت متضايق ولا مبسوط، مش متخيل نفسي متجوز، عايش مع حد تاني في البيت وكده، اتعودت على الوحدة، معاشرتش غير الأموات و…الهمسات…
واتجوزت "سلوى".....
من أول ما شفتها وأنا حسيت إن في ضوء نور حياتي، ابتسامتها نور، نظرتها نور، روحها نور، ده إيه الضلمة اللي كنت عايش فيها دي!
البيت اللي كان في وسط المدافن وعبارة عن شبر في شبر حسيته واسع وبهج، كانت بتحب الفرفشة والهزار، ملهاش في النكد، راضية بأي حاجة، بتفرح بالفلوس الكتيرة والقليلة، بتقبل أي أكل بجيبه، ومحسساني إني أحسن راجل في الدنيا…
كل حاجة كانت مثالية، لمدة شهر…
في ليلة من الليالي كنت راجع من دفنة، كنت منهك، عضمي كله مكسر من الحفر والشيل والحط، إحساسي بالبيت إنه واحة عشان وجودها، مزاجي اتبدل أول ما حطيت رجلي جوه البيت، بس…كل ده اتغير لما سمعت الهمس، أول مرة يبقى واضح كده، مكنش كلام، كان ندا، حد بينادي…بينادي بإسمي…
ندهت:
=سلوى؟!
بس هي مردتش… الندا اتكرر …"مأمون"، "مأموون"...كان صوت واحدة، صوت رقيق أوي، بس بعيد، كإنه جي من مسافات، ومن كذه جهة في نفس الوقت…
فتحت النور، "سلوى" كانت رايحة في سابع نومة…قعدت جنبها، فضلت مكاني، لا عارف أنام ولا متجرأ اتحرك…وبعدها بدأ الهمس…نفسه الهمس القديم، زحمة أصوات داخلة في بعض…
اللقطة اللي بعدها "سلوى" كانت قدامي، جايه عليا وبتبتسملي…
-صح النوم!
إمتى ده؟ معقول؟ أنا نمت؟ آخر لقطة فاكرها كنت قاعد جنبها وهي نايمة وكنت متلبش من الأصوات اللي حواليا…
……………………
استنيت "سلوى" تحكيلي أي حاجة عن أحداث مريبة بتحصل في البيت، لكن ده محصلش أنا بس…أنا اللي بسمع الهمسات، أنا اللي بحس بوجود معانا، نفس تالت مش بيفارقنا، خصوصًا لما الليل يغيم….
فاتت 3 شهور على جوازنا، وسعادتي مع "سلوى" اتضاعفت لما عرفت انها حامل، بغض النظر عن الهمسات والحركة اللي كانت عمالة تزيد كل مدى….
………………………..
الساعة كانت داخلة على 8، كنت لسه حافر قبر قبلها بساعة وقعدت مع جماعة صحابي في الترب نحكي في أي كلام فاضي، يدوبك سبتهم وقمت وكنت في طريقي للبيت اللي بروحله مشي لما سمعت صوت جري ورايا…
-استنى يا مأمون، في شغلانة تانية.
ده الواد "راجي" اللي بيشتغل معانا في الترب…اتلفت وبصتله وأنا مستعجب، شغلانة إيه الساعة دي…
اداني ضهره وجري وأنا مشيت وراه بسرعة… عيني كانت بتغفل، النعاس طب عليا، كنت مهدود، اشتغلت أكتر من شغلانة يومها، معرفش كنت هجيب القوة منين لشغلانة تانية…
"يالا بسرعة!"
دي كانت ست واقفة جنب عربية فخمة، من العربيات دي اللي بيطلعوا بيها الجبل ويمشوا بيها في الصحرا، طول بعرض وكوتشات تفرم الواحد لو عدت عليه…
الدنيا عتمة، لمبات العربية هي اللي منورة المكان والست كانت لابسة نضارة شمس!
النضارة كانت واكلة نص وشها وشعرها اللي منزلاه على خدودها وأورتها مداري الباقي، هي اللي كانت واقفة بره العربية بس مكنتش لوحدها…في اتنين تانيين جوه العربية…
=إيه ده؟ فين الجنازة؟ فين الناس؟
-أنت مالك أنت؟ هو أكل وبحلقة؟؟
ردت عليا في عنف، اللي لابسة نضارة شمس في عز الليالي…
كملت وقالت:
-أنا بس اللي مهتمة أحضر جنازته، حبايبه مكنوش كتير..
مدفن العيلة اتفتح قدامي وكان مطلوب مني أحفر وأفتح القبر…
حفرت من سكات، متكلمتش كلمة بعدها، اللي في العربية فضلوا في العربية والست لما اتأكدت إن الراجل اتدفن خلاص رجعت عربيتها وساقت بأقصى سرعة، مقرتش ولا آية عليه! ولا قالت أي أذكار على الميت…في حاجة مش تمام، إحساس قوي جوايا بيقول لي كده، ومع ذلك مفيش حاجة كنت أقدر أعملها، عملت شغلي وبس…
أخدت فلوس أكتر من العادي وده اللي أكدلي شكوكي…مشيت وأنا بحاول أنيم ضميري، كنت في طريقي للأوضة اللي مسميها بيت وسط المدافن… عيني كانت بتقفل، بمشي في خطوط معووجة من التعب كإني سكران، بس في حاجة فوقتني، اللي كان ماشي ورايا!
سمعت خطوات، خطوات خفيفة كإن حد بيتسحب، فتحت النور بتاع التليفون، لفيت ورايا وحوالين نفسي، مفيش حد…
فضلت مولع نور الموبايل وأنا ماشي، عيني غفلت مرة تانية ولما فتحتها شفت ضل على الأرض، ضل لحد كان ورايا!
اتلفت بسرعة وأنا بنهج وبرضه ملقتهوش، بيلحق يروح فين ده؟؟
ومين اللي ليه غرض يترصدني؟
المرة دي حاولت أفوق، مغفلش ولا أترنح، خفت لأغفل فاتغفل واللي بيمشي ورايا يهجم عليا ويعمل فيا حاجة…
مسمعتش خطوات ولا شوفت ضل لحد ما وصلت البيت…
"سلوى" كانت صاحية، قاعدة على السرير، استقبلتني بابتسامة ردت فيا الروح وزاحت المخاوف…
مفيش، دقايق وكنت غرقان في النوم…
فتحت عنيا، نور الصبح كان هل، قمت بالراحة، دخلت دورة الميه، شطفت وشي، عيني جت على المراية ووشي مبلول، كان في خدوش في خدي! خدوش بسيطة، مررت صوابعي عليها، دي من الحفر بتاع امبارح؟
خرجت من دورة الميه، "سلوى" كانت لسه نايمة، غريبة، أنا بصحى ألاقيها صاحية، هو الحمل تاعبها ولا إيه؟
صعب عليا أصحيها، مددت جنبها وأنا فايق…بعد شوية أخدت بالي إنها مش بتتحرك، دي في العادي مش بتبطل فرك، بتفضل تتحرك يمين وشمال حتى في عز نومها..
كانت نايمة على ضهرها، متخشبة، بصيت في وشها، عنيها كانت مفتحة عالآخر ووشها أزرق ومفيهاش نفس!
="سلوى"؟
مردتش عليا، هزتها وندهت بصوت أعلى:
="سلوى"؟
مالها، "سلوى" مالها؟؟ متخشبة كده ليه؟ ليه مش بتنطق؟
"سلوى"...ماتت…
مكنتش عايز أصدق، خرجت من البيت وصرخت، قلت بأعلى حسي "يا ناس الحقوني"! ولما عدد اتجمع قلتلهم حد يطلب دكتور…
الدكتور جه وكشف عليها وأكد أنها ميتة، طب ماتت إزاي؟ أسباب طبيعية، ماتت وهي نايمة، ده اللي قاله الدكتور…
يعني إيه؟ "سلوى" كانت زي الفل، مكنش فيها حاجة، صحتها كويسة والحمل حتى مكنش تاعبها، استغفر الله، معقول كده؟ معقول تسيبني فجأة؟
الدكتور لما كان بيقول لي "ماتت وهي نايمة، أسباب طبيعية" جه في بالي صورة ضل…عيني كانت بتتحرك بسرعة تحت جفوني المقفولة، كنت حاسس بتقل على صدري وأنا نايم، في ثانية فتحت عنيا على الآخر لما التقل انزاح من على صدري وشفته واقف بيراقبني، على بعد خطوات مني، ضل!
مكنش له ملامح، كيان زي الضل بالظبط…قربلي، طلع على السرير، بقى فوقيا علطول، كل ده وأنا مش قادر اتحرك، مشلول، مد صوابعه اللي كانت عمال تطول وخربشني بمخالبه على خدي!
ده كان إيه ده؟ حلم؟ مشهد من فيلم اتأثرت بيه وجسدته وبدلت الأدوار؟ بقيت أنا البطل؟ بس هو…هو نفسه الضل اللي كان ماشي ورايا الليلة اللي قبلها، من ساعة ما حفرت القبر اللعين في مدفن العيلة ورميت الراجل فيه، واللي ظروف موته أكيد كانت مش تمام، والضل قطرني لحد البيت….هو إيه ده؟ إيه تفسيره؟
كتمت في نفسي ومقولتش لحد. هقول إيه، في حد هيصدقني؟ ده الدكتور نفسه قال موت طبيعي.
اللي عملته هو أني سبت نفسي للحزن، بقيت بروح اشتغل وارجع من غير ما اتكلم مع حد، مش برد على الناس اللي بتيجي تخبط، عايزه تطمن عليا.
……………….
مبقتش مستحمل الهمسات، في ليلة حطيت المخدة على راسي من كتر الهمس، اصوات كتيرة، كتيرة اوي، همسات داخلة في بعضها، مش مفهومة…
وروحت في النوم….
الغريبة إني في الليلة دي وكل الليالي التانية كنت بغرق في النوم من غير ما ادري، معرفش امتى وازاي بنام وازاي بالعمق ده وانا شايل هموم الدنيا وهموت من غير "سلوى"....
-"مأموون"
فتحت عيني بالراحة بعد ما سمعت صوت بيندهني، كان في شوية همس…الضوء كان خفيف، قلت في نفسي الساعة تلاقيها ٥ الفجر ولا حاجة، وبعدها سمعت تخبيط…
الصوت كان بعيد، مش واضح ومش مدرك جي منين بس وحدة وحدة بقى اوضح، الصوت اتركز في جهة واحدة…الباب…
ومعاه ظهر صوت كمان، صوت واحد بينده من وراه…
-افتح يا مأمون أنا خالك!
فتحت الباب شوية، مش للآخر، بصيت من وراه على الضيف اللي طلع فعلًا خالي، وبعد ما اتأكدت فضلت برضه محلك سر…
-إيه مش هتدخلني؟
=الناس كلها كويسة عندك في البلد؟
-هو أنا لازم لما اجي يبقى في مصيبة، وأه في حد مش تمام.
=مين؟
-أنت.
اديته ضهري وسبت الباب اللي اتفتح على اخره…أيًا كان الكلمتين اللي عنده مكنتش قابلهم..
-أنا سبت بني سويف مخصوص عشانك، إيه يا راجل أنت مش مؤمن ولا إيه؟ إن مكنتش شغلتك تخليك عارف إن الموت والحياة موجودين مع بعض طول الوقت مبيفترقوش زي الميه المالحة والحلوة، مفيش حد منهم بيوقف التاني..
=ونعم بالله.
-أنت لازم تكمل حياتك، متسيبش الزعل ياكلك، لازم تتجوز تاني وتفرح بعيال يملوا عليك دنيتك…
وهو بيتكلم عيني كانت تقيلة، جفوني بتنزل غضب عني، نعسان، مش قادر، مخدتش كفايتي من النوم…عيني غفلت في لحظة ولما فتحت تاني شفت إيدين سود على كتف خالي، ورقبة ووش على راسه، ضل كثيف إسود ساند عليه، داخل من الشباك اللي وراه!
اتنفضت من مكاني وشهقت، خالي اتخض من خضتي وسألني:
-في إيه يا مأمون؟
سكت ثواني وبعدين اتكلمت، كان لازم أطمنه…
=لا مفيش، ده فار عدى من وراك، كان جوه وبعدين خرج لبره..
-فار إيه يا راجل اللي تتخض منه؟ هو انت مش شغلتك نبش التراب للميتين؟
=حتى حفارين القبور ممكن يتخضوا من الفيران عادي.
-كنت بقول إيه، اه، أنت لازم تتجوز.
=ليه لازم، ليه؟ مانا كده كويس.
-لا منتاش كويس، هيئتك وريحتك والعفانة والكركبة في البيت بتقول أنك مش كويس.
=قصدك الأوضة.
-أوضة بعفشة ميه وبوتجاز عنتين، يبقى بيت، ومتستهبلش يالا، انت عارف إن الف واحدة تقبل بيك ببيتك ده.
=مش قادر.
-اِقدر، عشان خاطرها، تفتكر هي تبقى مبسوطة وانت متعوس وحياتك واقفة؟
طب والعفاريت؟ "سلوى" مخدتش بالها لكن يمكن غيرها تتلبش من العفاريت اللي ساكنة معايا ومش بتسيبني.. ده اللي جه في بالي بس كتمته…
خالي كمل وقال إن عنده عروسة ليا من البلد. اعترضت طبعًا، قلتله إن أكيد طباعنا مختلفة، اتريق عليا وقال "إياك فاكر نفسك عايش في الشانزليزيه"... أهي أي تلاكيك كنت بقولها…
في الآخر استسلمت، قلت أشوف العروسة وأطلع فيها القطط الفطسانة وأقول مفيش نصيب…
روحت البلد وشوفتها وللأسف مقدرتش أمسك عليها حاجة! البت زي الفل، مفيهاش غلطة، وللأسف كمان ملت ليها، عايزها مراتي….
طب وعفاريت المدافن؟ عادي…مادام أنا عارف أعيش معاهم هي كمان تعيش وتتعود…
وفي خلال شهر كان الفرح…
ليلة الفرح أخدت العروسة "إلهام" ورجعت بيها على البيت وسط المدافن….
قعدت على السرير بفستان الفرح، مكنتش بتبصلي في عيني، قعدت جنبها وابتسمت، الليلة كانت طويلة وسفر وشقى، للحظات حسيت إني هسلم للنوم، النعاس هجم عليا ووقتها سمعت… "مأمووون".... حضروا!
والهمس اشتغل ….
…………………….
الأمور مشيت طبيعية، وبطبيعية قصدي العادي بتاع كل يوم وليلة، حفر مقابر وأشباح بتمشي ورايا وبسمعها في المدافن والبيت وفي كل مكان، مكنش في أي جديد، لحد ما في يوم قمت ولقيت حلة بتسيح على البوتاجاز!
جريت وطفيت النار، اتلسعت لسعة خلتني أصرخ، يدوبك برفع راسي لقيت على الحيطة جملة "نوم العافية"! والجملة كانت مكتوبة بالدم!
حسيت بلسعة في بطني أقوى من لسعة الحرق اللي في إيدي، رفعت الفلنة ولقيت شق بالعرض!
كنت بنزف….
اتدورت أنده لإلهام وأحاول أفهم إزاي مصحيتش وكل ده بيجرى بس ملقتهاش، افتكرت إنها كانت قالتلي هتصحى بدري وتجيب طلبات….
الجرح اللي في بطني مكنش عميق، مؤلم بس مش خطير، لكن الوضع نفسه كان خطير، الأشباح مبقتش ودودة، لولا إني صحيت بالصدفة كان زماني في خبر كان…
………………………
مسحت الحيطة من الدم ونضفتها بالصابون والميه قبل ما تيجي "إلهام"، غسلت الجرح وحطيت عليه كحول وطهرته وكملت يومي….
دماغي مكنتش فيا وأنا بشتغل، يا ترى هيحصل فيا إيه؟ المفروض أمشي، طب لو همشي هروح على فين؟ مليش مكان تاني، هبيع الأوضة؟ طب والفلوس اللي هتطلع منها هتسكنني فين؟ وهشتغل إيه؟ معرفش غير حفر القبور…
وتغيب أيام، واللي طلع عليا هو إني كنت بحاول أقاوم النوم، مش عايز أغفل لحسن اتأذي، ليالي كنت بنجح وليالي لأ….
وفي ليلة صحيت على دوشة، باب الأوضة بيخبط، تخبيط ورا تخبيط من غير فواصل، "إلهام" صحيت مفزوعة، مسكت فيا وسألتني "في إيه؟"
مردتش عليها، هعرف منين أنا وأنا مرزوع جنبها….
قمت ناحية الباب وسألت بزعيق "مييين؟"
-افتح يا مأمون أنا الخطاط.
ممدوح الخطاط ده نقول عليه كبير الحانوتية في أطراف الجيزة، عم الحانوتية، اللي بيشتغل تحت إيده عدد كبير منهم وهو كبر في المقام لدرجة إنه بقى يشرف على شغل الحانوتي من غُسل وتكفين ونقل الأموات للمقابر، كأنه كان فنان مش حانوتي وبس، اختياره لخليط أنواع المسك اللي بتتحط للميت، توجيهه للحانوتي في طريقة الغُسل وتنضيف الجسم، فنان حقيقي ميقلش عن بتوع الرسم والعزف…
فتحتله، منطقتش بكلمة، لا عزمت عليه يدخل ولا حتى سلمت….
-عندنا شغلانة دلوقتي، تعالى معايا….
عيني ضاقت وفضلت باصصله من غير كلام، بحاول استوعب، شغل إيه اللي بعد نص الليل؟؟
-يالا يا "مأمون" أنت هترسمني يا أخويا؟
=أيوه بس دي أول مرة…ليه أهل الميت ميستنوش للصبح، ده فاضل ساعات للفجر؟
-واحنا هنقعد نسألهم ليه ومش ليه؟ هنفتح معاهم تحقيق؟ ما كل واحد حر يدفن الميت بتاعه في الساعة اللي تعجبه.
كلامه كان يبان منطقي ونبرته بريئة لكن عيونه…في حاجة في عيونه، لؤم خلاني أحس إن في حاجة مش تمام وإن الخطاط على علم بيها….
قلت:
=طيب هغير في السريع..
-متغيبش، هي دقيقة…
استناني بره الأوضة، لبست أي هدمة وخرجتله، اتفاجأت إنه بيديني في إيدي حاجة، الدنيا كانت ضلمة فمقدرتش أميز بالنظر هي إيه، لكن بالملمس عرفت….دي كانت فلوس، قد إيه، الله أعلم، بس كان واضح إنه مبلغ محترم، ليه، إيه الداعي؟
المفروض كنت رجعتله الفلوس في نفس اللحظة لكن للأسف ده محصلش، مسكت فيها وكملت معاه الطريق….