بسم الله الرحمن الرحيم
غابة مظلمة واسعة... بيت وحيد وسط الخلا... حلويات في كل مكان، من غير صاحب للبيت ولا رقيب على الحلويات... جنة على الأرض...جنة وسط مكان قاحل ميت ومجاعة رهيبة...ساحرة شريرة و...شهية لأكل اللحم البشري...أهلًا بيكم في قرية "هانسل وجريتل"!
كان ياما كان زمان زمان كان في حطاب فقير غلبان، عايش مع مراته وولاده والفقر ملازمهم مش بينام، أيام وليالي بيناموا بجوعهم على بطن فاضية وبال قلقان، وده مش بس حالهم ده حال بلد بحالها بتعاني من الجوع والفقر وانعدام الأمان...
وفي ليلة من الليالي مرات الحطاب ميلت عليه ووشوته في ودنه...
إحنا بنعيش أيام صعبة ومش باين لها نهاية، لا قادرين ناكل ولا نأكلهم، مش يالا بقى كفاية، ولادك دول لازم نضحي بيهم عشان نعيش وعشان ولادي أنا وأنت اللي في علم الغيب، الأكل شاحح ميكفيش...
ما هو أصل "هانسل" و"جريتل" مكنوش ولادها، دول ولاده هو من جوازة سابقة، وأهي كانت حجة، صحيح كانوا في حالة كساد وجوع شديد، بس زي ما تكون ما صدقت، وجوزها اللي كان متعلق بأولاده رفض بشدة اقتراحها العنكبوتي اللئيم وقال في نفسه المهم إنهم يفضلوا سوا...
لكن للأسف الزن على الودان أمر من السحر، أقنعته إنهم ممكن كلهم يموتوا من الجوع ولو هي وجوزها ماتوا الأطفال مش هيبقى ليهم فرصة في كل الأحوال وهيموتوا هم كمان، فالمنطق يقول إنهم يتخلصوا من الأطفال، وقوع البلا ولا انتظاره، وممكن لما المجاعة تخلص يجيبوا ولاد تانيين، يقدروا يأكلوهم ويصرفوا عليهم....
الخطة كانت إنهم يقولوا للأطفال إنهم كلهم هيروحوا للغابة الصبح عشان تقطيع الشجر، وده كان نشاط معتاد، والمفروض إنهم هيسيبوهم هناك لإنهم مش هيستحملوا يعملوا فيهم حاجة بنفسهم، يسيبوا الولاد للطبيعة والغابة حواليهم...
لكن اللي هم ميعرفهوش هو إن الولد "هانسل" سمع كلامهم، مكنش لسه نام.. وكان لازم يفكر بسرعة، "هانسل" ملى جيوبه بحجارة صغيرة، وبقى طول ما هو ماشي في الطريق للغابة مع أخته وباباه ومرات أبوه يحط حجرة كل فترة، وبكده قدر هو وأخته يرجعوا تاني البيت بعد ما أبوه ومراته سابوهم ومشيوا، كل اللي عملوه إنهم مشيوا في مسار الحجارة...
الأب فرح لما شافهم بعكس مرات الأب، وأكيد الاتنين كان عندهم حالة ذهول، إزاي العيال اللي لسه مطلعتش من البيضة دي قدروا يلاقوا الطريق الصح وهم اترموا في عمق الغابة؟
لكن يا فرحة ما تمت، مرات الأب قدرت تقنع جوزها للمرة التانية يسيبوا الولاد في الغابة، لكن المرة دي في مكان أبعد بحيث ميقدروش يرجعوا، الأب بص في جيوب الولاد وملقاش حاجة وادى لكل واحد فيهم قطعة من العيش، اللي هم ميعرفهوش إن برضه المرة دي "هانسل" سمعهم وكان عنده خطة زي المرة اللي فاتت...
اللي عمله "هانسل" إنه طول ما هو ماشي كان بيكسر حته من العيش الناشف ويرميها، فتافيت هي اللي كانت هتدلهم على الطريق الصحيح زي ما عملت الحجارة قبل كده...
اللي "هانسل" معملش حسابه هو الطبيعة...
الطيور اللي شافت في فتات العيش وجبة مش بطالة، وكلتها كلها هم هم، وبكده الأولاد تاهوا رسميًا في الغابة...
أكيد كانت غابة مظلمة، الأشجار فيها عالية وفروعها متشابكة مع بعض بتمنع نور الشمس وبتبلع جواها الضلمة صبح وليل، وزي ما الفقر ما هو معشش في المدينة، أكيد طايل التربة والزرع، يعني مافيش لا خضرة ولا ورد ولا...حيوانات كيوت في عيونها ود...
وشوية شوية خوفهم زاد، ولا في ميه ولا زاد، وبعد ما وصلوا لقمة خوفهم لقوا الخلاص...لا مش سراب، ده بيت بحق وحقيق وسط غابة مفيهاش حياة، لقوا بيت معمول من العيش، الهيكل بتاعه كله عيش ولما دخلوا لقوه مليان حلويات، حلويات في كل مكان، وطبعًا الأطفال مقعدوش فكروا يا ترى إيه قصة البيت ده، وإزاي مليان حلويات كده ومين المالك، دول كانوا ميتين من الجوع، بقوا ياكلوا كل حاجة إيديهم تيجي عليها، ومحسبوش حساب المجهول...
يا ترى صحيح مين صاحب البيت؟
مين ده اللي في وسط المجاعة عنده بيت معمول من عجينة العيش وكمان مليان أكل وحلويات؟
وهنا ظهرت ست عجوزة، وطبعًا رحبت بيهم، وكانت من جواها مزقططة وبترقص، عشان كل الحلويات اللي في البيت دي متهماش، هي شهيتها كانت مختلفة، كانت غاوية...لحم بشري، وبالذات لحم الأطفال، والفريسة وقعت في المصيدة، اتنين بحالهم جم لحد عندها...
وده لإن الست دي في الحقيقة هي ساحرة شريرة ودي الطريقة اللي بتصطاد بيها الأطفال، بتغويهم بالحلويات اللي في بيتها...
الساحرة بتحبس الولد والبنت، وبتقرر إن "جريتل" تخدمها وتساعدها في تسمين "هانسل" اللي حطته جوه قفص، وده معناه إنها تفضل تأكل فيه بزيادة لحد ما يتخن عشان ، أنتوا فاهمين الباقي...
لكن جه الدور على "جريتل" إنها تفكر في طريقة تنقذ بيها نفسها وأخوها، زي ما هو عمل قبل كده، فعملت حيلة كده وإدعت إنها مش عارفة تولع الفرن، اللي كان ضخم، الساحرة اتعصبت عليها ودخلت بنفسها الفرن عشان توريها إزاي تشغله ولما دخلت "جريتل" قفلت وولعته والساحرة اتحرقت جوه الفرن والأطفال سرقوا كل الفلوس اللي كانت في البيت وخرجوا بره ، ولقوا مخلوقة عجيبة، بطة، بس مش زي أي بطة تانية، البطة دي أرشدتهم لبيتهم، ولما رجعوا لقوا إن مرات ابوهم ماتت، وأبوهم طار من الفرحة لما شافهم، أكيد مكنش مصدق نفسه والأب مع الولد والبنت عاشوا في سعادة طول حياتهم.
في تطور في القصة في شوية أفلام، مش بس "هانسل" و"جريتل" نجيوا وقتلوا الساحرة الشريرة ورجعوا مع الكنز اللي مخبياه في بيتها، دول كمان كبروا وبقوا صيادين بس من نوع مختلف شوية، بقوا صيادين للساحرات الشريرة اللي بيطيروا على مقشات ويقتلوا الأطفال الأبرياء، وبكده حموا بلدهم اللي هي "المانيا" من شرور فظيعة، وتوته توته فرغت الحدوته حلوة ولا ملتوته...
(ممكن في نهاية الجملة دي، الكاميرا تقرب شوية على أستاذ جويلي، وابتسامته تضيق شوية شوية، وبدل ما الألوان في الخلفية تكون ساطعة تتحول للأغمقن لو ده متاح، مجرد فكرة)
الحدوته ممكن تكون حلوة، بس الحقيقة مش حلوة أبدًا...
الأخين "جاكوب" و"فيلهلم جريم"، مؤرخين المان، قرروا في قديم الزمان، بدماغ صاحية مش بتنام، يجمعوا القصص الشعبية الألمانية ويعملوا منها مادة لكتاب، وبدأوا يدوروا على ناس تحكيلهم الحواديت زي ما هي من غير تقاليع وأبديت...
بدأت رحلة الأخين "جريم" في تجميع القصص الشعبية والغرض من التجميع هو تسجيل الفلكلور عشان كانوا خايفين من احتلال فرنسا الثقافي ليهم بسبب حملات نابليون، وقدروا يجمعوا عدد كبير من القصص، يعني هم مكنوش روائيين، مش الغرض يحكوا قصص ممتعة وأكيد مش للأطفال...
ومن أهم المصادر للقصص هي جارتهم واسمها " هنرييت دوروثيا وايلد"، الست دي حكت لهم كتير من القصص المنتشرة وممكن تكون عرفتها من الناس الكبار في السن، لإنها في وقتها مكنتش كبيرة وبالمناسبة هي اتجوزت " فيلهلم" في مرحلة ما بعد كده، وأكيد بالنسبة له كانت كنز، حلم أي كاتب أو مؤرخ يبقى معاه صندوق كل شوية يطلع منه حكايات...
طيب يا ترى إيه النسخة الأصلية لقصة "هانسل" و"جريتل"؟
مثلًا الشريرة في الرواية الأصلية مكنتش مرات الأب، كانت أمهم، أيوه، الست اللي وزت أبوهم عشان يتخلص منهم في الغابة كانت أمهم، واقترحت عليه إن لما المجاعة تخلص يخلفوا أطفال تانيين، لإن "هانسل" و"جريتل" كده كده كانوا هيموتوا من الجوع لو فضلوا معاهم، لا عارفين يأكلوا نفسهم ولا الولاد، ده غير إن الأب في النسخة الأصلية كان قاسي شوية واستجاب ليها علطول، ومكنش فيه بطة سحرية ضخمة بتتكلم وبتساعد الأطفال يرجعوا من الغابة ويمشوا على الطريق الصح...
لما الأخين أدركوا إن القصة بدأ يبقى ليها شعبية وسط الأطفال عدلوها بحيث تكون مناسبة ليهم أكتر، خلوا الأم مرات الأب وخلوا الأب يندم على إنه سابهم في الغابة ، وزودوا شخصية البطة اللي بتساعدهم يرجعوا البيت، والقصة مش بس انتشرت في ألمانيا، دي انتشرت كمان في دول كتير وبقت عالمية واترجمت ل160 لغة...
لكن مش القصة دي غريبة شوية، في قصص شعبية في دول كتير بتبقى عن الجن والعفاريت والشياطين، زي قصة النداهة في مصر، وعيشة قنديشة في المغرب، والست اللي عندها بوق مشقوق في اليابان وغيرهم، لكن قصة "هانسل" و"جريتل" فيها أجواء مريبة أكتر، جرعة الرعب فيها زيادة وده لإن الأبطال والضحايا برضه أبطال، "هانسل" و"جريتل" كانوا أبطال، عشان حاولوا ونجحوا يرجعوا بيتهم في الأول ولما اتحبسوا من الساحرة الشريرة اللي كانت عايزه تاكلهم واجهوها بكل شجاعة وموتوها ورجعوا لبيتهم للأبد، بس في نفس الوقت هم ضحايا، ضحايا لشر أمهم وللجوع والفقر الشديد اللي خلاها تاخد قرار بالتخلي عنهم وبالطريقة الوحشية دي، وخلى ابوهم يوافق وهو متمرر، ده غير الأطفال الكتير اللي وقعوا في شباك الساحرة الشريرة قبلهم وكانوا وجبة ليها...
قصة بتتكلم عن أدنى الظروف واقسى البشر، اللي الضحايا بتوعهم يكونوا أطفال أبرياء، مظنش في قصة فيها عناصر مرعبة أكتر من كده...
والأغرب بقى إن قصة "هانسل وجريتل" مش الوحيدة من نوعها! ده في قصص تانية من ثقافات مختلفة اللي بتتكلم عن ضحايا أطفال...
مثلًا، القصة الإيطالية اللي بتحكي عن مرات أب قاسية، معرفش مالهم جايين على مرات الأب كده ليه، المهم مرات الأب زنت على جوزها يسيب ولاده في الغابة، لكن في النسخة دي الأب هو اللي اللي بيسيب لولاده حبوب بيفرشها في الطريق للغابة عشان الولاد يعرفوا يرجعوا، لكن للأسف ييجي قرد وياكل الحبوب...
وفي القصة الرومانية اللي بتحكي عن طفلين تم التخلي عنهم بس قدروا يرجعوا البيت عن طريق آثار رماد منتورة لحد بيتهم، هم نجحوا بس لما رجعوا مرات الأب مستسلمتش، وقررت تعمل حاجة أفظع من اللي عملتها وهي إنها تقتل الولد وتجبر أخته تطبخه وتقدمه كوجبة للعيلة...
البنت المغلوب على أمرها بتسمع الكلام لكنها بتخبي قلب الطفل جوه شجرة، الأب بياكل الوجبة وهو ميعرفش بياكل إيه والأخت بترفض تشارك في الأكل.. بعد ما الوجبة خلصت الأخت بتاخد العضم المتبقي وبتحطه جوه الشجرة مع القلب. اليوم اللي بعديه في طير بيظهر عند بيتهم وبيغني "أختي طبختني وأبويا كلني، بس دلوقتي أنا اتحولت لطير وبقيت في أمان من مرات أبويا الشريرة"...
مرات الأب مش تتبط بعد المعجزة اللي بتحصل قصادها دي؟ لأ، قوم إيه، تجيب رشة ملح وترميها على الطير، لكن الرشة تقع على دماغها هي وتقتلها في الحال، كإنها حته طوبة!
قصص مزعجة جدًا، مزعجة لأقصى الحدود، وأكيد بديهي نسأل منين جتلهم الأفكار دي؟ زي النداهة والست اللي عندها بوق مشقوق برضه، إيه الإلهام بتاع كل الحواديت دي؟ وده بيودينا لسؤال تاني...هل...يا ترى القصص دي خيالية؟ ولا...ليها أصل حقيقي؟
الإجابة المرعبة هي أه، القصص ليها أساس حقيقي...
كان في مجاعة رهيبة ضربت في أوروبا من سنة 1315 لسنة 1317، ويقال من 1314 ل1322 والمؤرخين قدروا يسجلوا تفاصيل المجاعة دي، الحصاد كان شحيح بسبب المناخ الصعب والبرد الشديد وده خلى أسعار الأكل تزيد جدًا والمواشي مرضت، وبالتالي مصادر الأكل بقت نادرة، لا محاصيل زراعية ولا لحمة...
في من الباحثين اللي قدروا عدد الضحايا ل25% من سكان أوروبا خلال الكام سنة دول!
ده غير المجاعة اللي حصلت سنة 1347. والله أعلم القصص كانت مستوحاة من أنهي مجاعة فيهم..
الناس في أوروبا حسوا إن دي نهاية العالم، وفي منهم اللي قرب من ربنا، حسب معتقداتهم يعني...
وهنا ظهرت مواقف نبيلة من الكبار في السن اللي اختاروا مياكلوش عشان الشباب ميحملوش همهم وماتوا من الجوع والضعف...
وفي من الشباب اللي اخدوا العواجيز للغابة وسابوهم هناك لمصيرهم...
ومنهم اللي وأدوا أطفالهم ومنهم اللي نبشوا الجثث من التربة وأكلوها ومنهم اللي أخدوا الأطفال للغابات وسابوهم هناك...
وانتشر الخطف خصوصًا للأطفال عشان للأسف...مش هفسر أكتر...
وده بسبب إنهم الحلقة الأضعف...
أما الأبشع على الإطلاق هو إن الأب والأم هم اللي كانوا بيضحوا بأطفالهم، يأما بهجرهم في الغابات يأما بالفعل الشنيع التاني..
ولما الأطفال كانوا بيروحوا الغابات في صيادين كانوا بييجوا يدوروا على أي مصدر للغذاء وبيلاقوهم وياخدوهم...
الموضوع بدأ يبقى مألوف؟ غابة؟ خطف؟ أكلي لحوم بشر؟...
أيوه، دي العناصر الأساسية بتاعة قصة "هانسل" و"جريتل"...
وبتاعة قصص تانية كتير كمان...
والوقائع البشعة دي اتنقلت من جيل لجيل وواحدة واحدة اتحورت واتضاف عليها عناصر خيالية، زي الساحرة الشريرة اللي بتاكل الأطفال، واللي ممكن يكون مقصود بيها المجاعة نفسها أو آكلي لحوم البشر، وزي البطة المسحورة اللي ساعدتهم على الرجوع، وزي تحويلهم لأبطال بيحاربوا الساحرات الأشرار وبيهزموهم واحدة ورا التانية، وبيحموا الأطفال التانيين من شرورهم ...
وبكده وبعد الإضافات والتحوير القصة بقت أخف ومقبولة أكتر، يعني اللي بيعامل الأطفال بالقسوة دي هي ست غريبة، ساحرة شريرة معندهاش قلب ولا رحمة، واللي بيتخلى عنهم من الأساس مش أمهم دي مرات أبوهم، والنهاية الأولاد رجعوا واتجمعوا مع ابوهم وكبروا وعاشوا حياتهم واحتمال كمان بقوا صيادين للساحرات اللي بيستهدفوا الأطفال...
خلوا بالكوا من القصص الشعبية اللي بنحكيها على سبيل كسر الملل وفاكرين إنها لذيذة في قعدة كده لطيفة، يا ترى القصص دي بجد خيالية ولا ليها أساس مرعب أكتر من النسخة اللي بنحكيها...
يا ترى النداهة بجد أسطورة ولا...ممكن تكون كانت موجودة أو لسه موجودة وقريبة منكم...