-هو الغزال بيتكلم؟؟
"جوهر" سألتني بعد ما عنيها وسعت على الآخر وقريت من نظرتها ونبرتها مزيج ما بين التحمس الشديد وعدم التصديق...
رديت عليها:
=في القصة دي هيتكلم...
الغزالة قالت:
-وليه بشر يبقى عايز يخلصنا من شر الأسد؟
ابتسامة "هارون" وسعت، نورت الغابة اللي الضلمة كانت بتزحف ليها، الغزالة جسمها ساب بعد ما كان متحفز ومتوتر، ملامحها ارتخت، اتطمنتله!
بعد ما كان مبتسم، الابتسامة رجعت ضاقت لحد ما اختفت وبدالها بقى في جدية ومعاها نظرة تعاطف...
"هارون" قال لها:
=عشان زهقت من عجرفة الأسد، من إحساسه إنه الملك، إنه في قمة الهرم وكل الكائنات تحتيه..
الغزالة ردت:
-بس دي حقيقة هو فعلًا على قمة الهرم الغذائي، هو ملك الغابة.
=الأسد مغرور وغدار، بيهجم على جيرانه اللي عايشين في سلام ويختارهم وجبات ليه، كائنات جميلة، مميزة، حقها تعيش، وميبقاش قدرها تكون طبق على سفرة الأسد، ومع الوقت الأسد افتكر نفسه على قمة الهرم، هرم السيطرة، هو ده الهرم اللي بتكلم عنه ، افتكر نفسه المتحكم في البيئة اللي حواليه، أنا عاوز أوقف المهزلة دي..
....................
كلامه كان مقنع جدًا، نبرته متهزتش ولو ثانية واحدة، عنيه مزاغتش من عليها، الغزالة حست إنه قريب منها، مش في المسافة، قريب من روحها، مخترق روحها وقادر يتفاهم معاها، وفورًا بعد ما خلص كلامه حطته في خانة الأصدقاء....
فجأة خدت بالها إن الضلمة خيمت، الشمس غابت وهي تحت تأثير "هارون"، بس الضلمة دي كانت مختلفة، غير أي ضلمة في أي يوم تاني، كانت ضلمة كئيبة، ساكنة، باردة، تتسلل تحت الجلد ومعاها مفيش دفا، مهما حصل، مفيش دفا، وكإن الغابة بقت مسكونة، مسكونة بحاجة متقدروش تسمعوها ولا تشوفوها، لكنها أقوى وأشرس من أي كيان ملموس...
الغزالة اللي آمنت ل"هارون" سألته ببراءة:
-إزاي ممكن ننجو من الأسد؟
عين "هارون" وسعت أكتر ولمعت وكانت واضحة برغم السواد اللي فيهم وسواد الغابة حواليه...قال لها:
=لازم يبقى في تمن
-تمن؟
=كل حاجة في الدنيا ليها تمن.
-ماشي، بس نعيش.
الغريبة بقى إن الرغبة دي عمرها ما كانت عند الغزالة، "الرغبة في الهروب من المصير مش مجرد النجاة لما الأسد بيظهر وبيهاجمهم"، الغزالة مبقتش عايزه تبقى وجبة للأسد، بقت رافضة الفكرة، كل اللي كان بيهمها قبل كده هو الأكل والجري والمرح والاستمتاع بالطبيعة وإنها تعيش اليوم بيومه، إيه اللي جرى لها؟ إيه الرعب اللي دب فيها مرة واحدة ده؟
"هارون" كمل كلامه وقال:
=التمن هيبقى واحد منكم.
-واحد منا؟!
=واحد بيضعف قوتكم وبيبطئكم، واحد بيضركم ومهوش عنصر وفي لقطيع الغزلان، واحد مصيره في كل الأحوال الهلاك وهترحموه لما تقدموه للأسد.
-مش قادرة أفهمك.
=في صوت جواكي وصورة، صورة للغزال اللي أقصده بالظبط.
عيون الغزال الجميلة بقت حيرانة، اتحركت في كل الاتجاهات وبعدين اتثبتت عليه، وفي شبح ابتسامة ظهرت على شفايفها...
حركت راسها يمين وشمال وقالت:
-احنا مش بنضحى بالغزال المريض، عايزنا نضحي بواحد مننا، نقدمه بإيدينا للأسد؟
=لأ أنا مش عايز، إنتوا اللي عايزين.
-إحنا عمرنا ما عملنا كده.
=اه وده بيخلى الأفضل ما بينكم، الأسرع، الأكتر حيوية وجمال وشباب هم اللي ينتهوا وجبة للأسد، وهو ده اللي مخليكم ضعفا، أنتوا بتضحوا بالأحسن وبتحافظوا على العجوز والعاجز، الغزال المريض، اللي مفيش أمل من شفاه، لو هو اللي اتضحى بيه محدش هيخسر، بالعكس أنتوا هتضمنوا بقاء الأفضل، خليكوا أنتوا المتحكمين، أنتوا اللي تختاروا وجبة الأسد، مش هو....
.......................
فين بقية الحيوانات؟ راحت فين الرياح؟ فين النسمات الخفيفة اللي بتحرك الأغصان وحشيش الأرض؟ فين القرود؟ ليه مش بتتسلق الشجر؟ فين زعيقها وصريخها ولعبها؟ راحت فين حياة الغابة؟ والأهم ليه نبض قلب الغزالة بالقوة دي وكإنه في ساحة سباق وعنده هدف بيسعى له؟
الغزالة قالت له بعد سرحان:
-صح، ده مش عدل، ليه الأضعف يعيش وإحنا اللي ندفع التمن؟ أنا عايزه أعيش.
=وأنا أضمنلك أنك تعيشي، نفذي اللي قلته واللي هقولهولك من هنا ورايح وانتي هتعيشي، إنتي وأحبابك والغابة، وكمان الغابة هتبقى بتاعتكم وهتبقوا على قمة الهرم.
رفعت راسها فجأة بعد ما كانت انحنت لما سمعت "قمة الهرم"، كلمة جميلة، قوية، ليه لأ، هو الأسد أحسن منهم في حاجة، أبدًا، أبدًا...
...............................
"هارون" مقدرش ينام من التحمس، حس بنشوة رهيبة لما راجع مناقشته مع الغزالة وتخيل المستقبل، كان مستني الصبح بفارغ الصبر، وأخيرًا لمح خيوط النور بتتسلل من تحت عقب الباب ومن الشبابيك....
شرب قهوته في البلكونة الصغيرة، اتأمل الناس اللي بتمر بالقرب من كوخه ولمح الغابة اللي على مسافة منه، عاتب نفسه، ليه مفكرش قبل كده يستغلها ويلعب لعبته، ليه اكتفى إنه يكون صياد ممل، يوقع ضحاياه ويتفرج عليهم وهم بيطلعوا في الروح، ليه الفلس في الإبداع ده؟
مسك بندقيته واتحرك في اتجاه الغابة... كان بيمشي بالراحة، المفروض يفضل متفرج صامت، محدش يحس بوجوده، كان بيراقب الأجواء لحد ما رصد مجموعة من الغزلان، وحيث الغزلان هيكون الأسد، ومن حظه المكان ده كان في حشيش كتير، وشجيرات صغيرة ، بقعة يقدر يستخبى فيها ويراقب على مزاج، هنا، هنا هتكون الملحمة، مفيش شك ...
قدر يستخبى وبقى على مسافة من الغزلان ومحسوش بيه وفي نفس الوقت كان قادر يشوف المشهد كامل...
الغزلان رفعوا راسهم في نفس الوقت كإنهم انتبهوا لحاجة، حركة، وجود...
"هارون" اتلفت حواليه، مشافش حاجة، كانت لحظات من السكون عدت كإنها سنين، وأخيرًا "هارون" لمح أسد، كان بيمشى ببطء، عمال يراقب الغزلان من بعيد....
"هارون" بعدها لمح الغزالة، نفسها الغزالة اللي اتكلم معاها اليوم اللي فات...
والغزالة كمان لمحته، وشها نور، عيونها ضحكت وكانت رايحاله بتحمس لولا إنها قرت القلق على وشه وفهمت من حركته إن الأسد هنا...
الغزالة جريت في هلع والقطيع اتحرك بعدها في سرعة واضطراب وابتدى الأسد مطاردته...
الأسد كان قدامه تحدي غير مسبوق، الغزلان أصلهم اندفعوا بطريقة عجيبة، كإنهم كانوا على علم بحركته ومستعدين ليه، بس ده مأحبطوش ولا خلاه يتهز ويبطء من سرعته، بالعكس أصر إنه يرجع لعرينه بوجبة دسمة، ومش هتكون غير لحم غزال...
المسافة ما بين الأسد والغزلان فضلت تكبر ، بقى متأخر جدًا عنهم وفجأة الغزلان وقفوا لثانية! رجعوا خطوات لورا لحد الغزال الهزيل المريض اللي كان متأخر عنهم، اتجمعوا حواليه والغزالة صاحبة "هارون" رفسته بقوة!
الغزال وقع، جسمه انهار وبرغم كده حاول يستعيد قوته ويقوم وساعتها جه غزال تاني ورفسه وجه غيرهم ورفسه لحد ما قوته انطفت ومبقاش قادر يقاوم ، جسمه اتخشب في الأرض ومقدرش يقوم...
وبعدين سابوه وكملوا هروب، كل ده حصل بسرعة أوي لكن بالنسبة للغزال المرمي المشهد كان بطيء، في عيونه حركة الغزلان كانت بطيئة والسحب حركتها بطيئة وفروع الشجر هزتها بطيئة، سير الكون كله بطيء، عايز يتمسك بالحياة على قد ما يقدر في الدقايق اللي فاضلة ليه، أما عهد الصداقة والوفاء ما بين الأصدقاء وأفراد القطيع فانتهكوه في سرعة البرق لأسباب غير مفهومة! زي ما يكون مفيش عهد أصلًا، لا عمر كان في وفاء ولا صداقة ولا روابط ولا قطيع، اللي ثبته على الأرض مكنش بس الضعف أو الألم، اللي عجزه هو خيبة الأمل والخذلان اللي حس بيه...
والخطة فيما يبدو نجحت، الأسد وقف فعلًا، بطل المطاردة، مبقاش فارق معاه باقي الغزلان، خلاص وجبته بقت جاهزة، مش محتاج أكتر من كده، الغزلان بقوا في أمان، مشي بخطوات بطئية، واثقة، عينه مش بتنزل من على الغزال الممدد قدامه على الأرض من غير مقاومة... وصل عنده ووقف، مهاجموش علطول، فضل يبص عليه في دهشة وحيرة، بيحاول يفهم، هو إيه اللي حصل بالظبط؟! ليه الغزال ده مش بيتحرك، ليه ممدد بالمنظر ده في استسلام، ليه مش بيحاول يقاوم أو يهرب، إيه اللي حصل له؟ المشهد اللي شافه من بعيد ده حقيقي ولا دي هلوسة؟ هل باقي الغزلان واحد ورا التاني رفسوه وسببوله عجز؟ ليه؟ هل دي كانت محاكمة؟ إيه اللي عمله الغزال ويستوجب عشانه يتعاقب بالشكل المهين ده؟
دي كانت أول مرة في حياة الأسد اللي يشوف فيها منظر كده، ده مش طبع الغزلان... كان حتى على وشك إنه يتعاطف مع الغزال المرمي لكنه انقض عليه وغرز أنيابه في رقبته وموته...
"هارون" غمض عنيه من المتعة الرهيبة اللي مشيت في جسمه كله، مشهد بجد ملحمي، لوحة فنية رائعة، مثالية، بس مثالية، ألوان الغابة والأفق والسما فوقيها، مع اتفاق الغزلان وتنفيذهم للتعليمات والتضحية بواحد منهم وانكساره واستسلامه واستسلام الأسد لشهواته وغريزته وانقضاضه على الغزالة من غير ما يشغل عقله ويحلل المشهد.....
-هو إحنا لوحدنا؟
"عبد الخالق" قاطعني بالسؤال ده، مد إيده ولمسني بأطرافه الصغيرة وهو بيسأل...
رديت عليه:
=ليه بتسأل السؤال ده؟
-مش عارف.
سكت وأنا بحاول أقراه من نظراته البريئة المليانة حيرة بعديه "جومانا" سألت:
-تيتا هو إنتي عايشة لوحدك؟
رديت عليها بسرعة:
=إنتي شايفة إيه؟ شفتي حد غيري في البيت؟
-لأ
=طب مش عايزين تعرفوا حصل إيه مع هارون والغزلان والأسد؟
الحيرة اتحولت لحماس والأربعة ردوا في نفس واحد:
-اه.
=هارون رجع البيت بتاعه اللي برضه ممكن نسميه "كوخ" وكان ناوي يرجع الغابة تاني مع غروب الشمس بعد ما يرتاح شوية...
نام، عقله عاد المشاهد الجميلة مرة ورا مرة، الغزلان اللي بيغدروا بصاحبهم والأسد اللي أكل الطُعم...
أول ما الشمس لونها اتحول للبرتقاني انطلق للغابة...في حد سمع صوت خطوات ما بين الأشجار والخضرة، الودن طرطأت والقلب دق جامد، بشكل ما الغزالة اللي سمعت صوت الخطوات كانت قادرة تميزها، وقلبها دق، مش خوف، دي لهفة لإن "هارون" حضر..
مشيت بدلع في اتجاهه لما ظهر أخيرًا ، شوية كانت تبصله في عينه مباشرة وشوية عنيها تهرب من عنيه لحد ما وصلتله...
وطت راسها و"هارون" حط إيده عليها، كان مبتسم وعنيه كلها شوق ليها....
الغزالة قالت:
-انت أنقذت حياتنا، أنقذت حياتي.
=انتوا اللي انقذتوا نفسكوا
-إزاي أقدر أردلك الجميل؟
=أنا مش عايز حاجة لنفسي، عايزك تنفذي أوامري عشان تحكموا في يوم الغابة وإنتي بالذات تبقى على راس الهرم، الحكم الأكبر ليكي إنتي، إنتي غالية عندي، شايفك بالتاج مزين راسك ومخلي اللمعة اللي في عيونك اللي مشوفتش في جمالهم تزيد.
عنيها كانت بتُبرق كإنها شايفة ماسة قدامها، لكن الحقيقة لو كانوا يخيروها ما بين أكبر ماسة في الوجود وما بين "هارون" في اللحظة دي كانت إختارت "هارون"!
الموضوع مكنش بس امتنان ليه عشان أنقذها ولا إعجاب بذكائه وإنبهار بيه، مشاعرها ابتدت تطور وتتعدى كل ده...
"هارون" كمل وقال:
=بس ده عشان يحصل لازم تعيشوا الأول! لازم تهزموا الأسد، لازم تعيشي يا غزالي...
ابتسمت الغزالة وقالت:
-إيه اللي هيحصل بعد كده ومطلوب مننا إيه؟
=بكره في نفس المعاد الأسد هيهجم وعليكم إنكم تكرروا اللي حصل النهارده، اختاروا واحد تضحوا بيه للأسد من غير ما يدرى، الأكبر، الأضعف، أو حتى اللي تحسوا إنه دوره مش فعال في القطيع، فيه صفات تخليه أقل منكم، من ناحية السرعة، من ناحية الرشاقة، من ناحية الجمال، زي ما تقدروا، بس كونوا حذرين، اللعبة زادت خطورة لإنها اتلعبت قبل كده، خلوا بالكم إن الغزال اللي تختاروه ميحسش إنه هو اللي عليه الدور....
-ودي نعملها إزاي؟
=ممكن مثلًا تزرعي الشك في القطيع، تحذري كل غزال من غزال تاني على أساس إنك شاكة إنه ناوي يغدر ويرفس الغزال اللي بتحذريه وبالعكس الغزال اللي ناويين ترفسوه تخلوه يثق فيكم، تكوني ودودة بزيادة معاه كإنه أقرب صديق ليكي...
-في حاجة مش منطقية في اللي بتقوله، لما أمسك كل غزال وأحذره من غزال تاني، أومال إزاي هنتفق على الغزال اللي ناويين نديه للأسد؟
=لازم يبقى في فرقتين، فرقة الصفوة والفرقة التانية اللي هتزرعوا بينهم الشك واللي من ضمنهم الغزال اللي هتختاروه، فرقة الصفوة هم الغزلان الأقوى والأجمل، وإنتي اللي هتختاريهم، ده هيخضع لتقييمك إنتي، أنتوا "الصفوة" اللي هتتقفوا على كل حاجة، على الغزال اللي هتضحوا بيه وعلى الطريقة اللي هتنشروا بيها الفتنة ما بين الفرقة الأضعف...
"راحيل" سألتني:
-"هارون" مستفيد إيه من كل ده؟
=مش هتفهمي يا "راحيل"، على الأقل دلوقتي عشان القصة لسه مخلصتش، بس حتى لما تخلص وبعد ما أحاول على قد ما أقدر أعبر عن اللي بيدور في دماغه، مش هتفهمي للآخر، عارفة ليه؟ عشان إنتي مش "هارون"، محدش فيكم "هارون"، الشخصيات المعقدة المنحرفة محدش هيقدر يستوعب طريقة تفكيرهم أو أساليبهم غير لما يدخل جواهم ويبقى هم، ده حتى ما بين الأشخاص العاديين، إحنا بنجتهد نفهم بعض، وبنحاول بذكائنا نوصل لنوايا ودوافع بعض بس في النهاية دي مجرد اجتهادات، محدش بجد هيستوعب غير لما يبقى في عقل ووعي وجسم الشخص التاني وده عمره ما هيحصل...
.........................