"جلسنا حول منضدة طويلة أعدت للسياح،كل الموجودين يتحدثون العربية بلهجة مصرية عدا سكرتير الكيبوتز..استمرت الدردشة عن القاهرة ..حواريها..ناسها ..وتخدر كل الموجودين ..نحن من ذكرى بلدنا وهم من ذكرى أيام صدر شبابهم ..سقطت العداوات، تقاربنا بشدة ..وفجأة دار حديث بالعبرية بين سكرتير الحزب المرافق لنا و سكرتير الكيبوتز..ثم ترجم لنا المرافق الحديث فقال: ابن سكرتير الكيبوتز أصيب فى الحرب وقطعت رجلاه..ومع ذلك يرحب بكم.
مناورة سخيفة مكشوفة ردتنا بقسوة للحقيقة..أننا بين أيدى أعداء وأننا أسرى"
خطوات على الأرض المحبوسة..ص 185.
فى ذكرى يوم تغير كل شىء..
من فترة وانا مهتمة بجمع الأعمال الأدبية والتوثيقية عن فترة النكسة والاستنزاف و العبور..بشكل أدق روايات الشهود..الأعمال المستقاه أو القائمه على تجربة ذاتيه أكتر منها أعمال روائيه..معظم المكتوب منها مش على أعلى مستويات الحرفية لأن كتابها فى الأغلب هواة..لكن كلها أعمال مفرطة فى الصدق..
النهارده حنتكلم عن أحد النصوص المنسية الهامة جدا جدا..رواية "خطوات على الأرض المحبوسة" لكاتبها رائد مهندس سابق/ محمد حسين يونس..رواية اتكتبت فى البداية كمذكرات رفضها الرقيب (وهو رفض مستحق) قبل العبور ولسنوات حتى نشرها فى بداية الثمانينات ..وتحويلها لرواية..الراوى لها نقيب طبيب بالقوات المسلحة والبطل هو مريض بقسم الأمراض النفسية..رائد مهندس خرج من الأسر وعاد للخدمة لكنه لم يستطيع السيطرة على نفسه، وعاد الى قسم الأمراض النفسية بسبب تصريحه برغبته المتواصلة فى تفريغ خزانه ذخيرته فى كل قياداته..بيحاول النقيب انه يفهم الرائد مهندس (وهو فى الحقيقة الكاتب نفسه..محمد حسين يونس) ويسترجع معاه ذكريات الأسر ..يمكن يقدر يساعده...
بتبدأ رحلة موجعه جدا..مع رائد مهندس شاب مدرك للحالة المزرية اللى الجيش عليها لكنه مطالب بالتحرك، شق طرق للقوات..تأمين حركة معدات وإمدادات لوجستيه..وبعدها صدمته مع الأوامر المتضاربه والمعلومات المضللة لحد ما بيلاقى نفسه تايه مع المجموعة الباقية من سريته فى الصحراء وبيتحرك على أمل الوصول للقناة عشان يلاقى نفسه أمام العدو وجها لوجه..أسير مكسور مذبذب بتطارده ريحه الدم واللحم المحروق..رحله الأسر فى معسكر الأسرى الشهير "عتليت" قرب حيفا..شهور من الأسر والمعاملة عن قرب مع المعتدى ..صدامات وهدنة ومشاعر مختلطة ..نهاية بعودته من الأسر ..لقاءه بأهله وحالته النفسية المتردية..دخوله فى حالة اكتئاب شديد وفقد للأمل ..ثم نهاية خدمته قبل العبور ..وندمه الشديد على تسرعه وفقده التام للثقة فى نفسه وفى بلده بدرى أوى و انه كان يتمنى انه يكون جزء من العبور..معركة سلاح المهندسين بحق.
أهمية الرواية من واقعيتها..الصدمة الغير متوقعه ..لما أى حد يسمع رواية أسير حيتوقعها قصص عن التعذيب والصمود والشجاعه..هنا لا..هنا بيرسم واقع إنسانى مرعب ومخيف..غسيل مخ وتجارب نفسية بتجرى عليهم فى عتليت أظن اننا لو قريناها حنلاقى فيها شبه كبير جدا من الخطابات الموجهه لنا من فترة للأسف بعد الثورة..وحتفهم ان التجارب النفسية فى عتليت كانت بوابة بيدرسنا منها العدو ونفذ جزء كبير منها خلال الفترة اللى فاتت..
مشاهد النكسه مرعبة..فرار قيادات كبيرة..الخوف وهو بيتملك من الناس وغريزة البقاء وهى بتتحكم فى إنسان لدرجه انه يهرب بعربيته ويسيب زمايله فى الصحراء..ثم الأسر..والسجان الواقف على رأسك..بيجوعك ويعطشك..حابسك فى أقفاص كبيرة زى الحيوانات وبيتفرج عليك وانت فى أسوأ احوالك..مصدوم وخايف ومنتظر القتل..بتوصل بأن يلعن البعض مصر وعبد الناصر علنا للنجاة من الموت ثم يبكى بحرقة..التعذيب وانتظار الموت لعنه الله! أظن ان مشاهد الانهيار النفسى دى هى ما جعلت الرقيب يرفض نشرها قبل تحرير الأرض..وعنده حق..
من أهم ما تقدمه الرواية هى صورة الصه$يو$نى المصرى..اه اللى الميديا عماله تحشر فى دماغنا ان مصر وحشاه وبيسمع عبد الحليم ويعشق الطعمية وان عبد الناصر الغبى هو اللى طرده..مشاهد ظهورهم كتير..أولها و أحد الضباط الواقفين فوق سور القفص الحديد بيتعرف على أحد الأسرى "أنت من الظاهر صح؟ مدرسة الإلهامية؟ انت كنت معايا فى المدرسة" يعتقد الأسير المصرى ان الجيرة قد يكون لها شفاعه فيسأله "حتعملوا فينا ايه" يرد عليه سجانه "حظك حلو..صدرت الأوامر من دقيقتين بس بوقف إطلاق النار وأخذ الأسرى..قبلها بدقائق كانت الأوامر اقتل ومتاخدش أسير" بكل بساطه..لولا الأوامر..كان حيفتح النار عادى جدا فى نفس جيرانه السابقين ..بعدها بدأت وصلة من التباهى "شايف طيراننا! ايه رايك فيه" ..ثم المشهد فى بداية البوست..والألفة الناتجه عن تشابه اللهجه والذكريات اللى مرة واحده بيشقها رغبة المعتدى فى لعب دور المظلوم المتسامح..
اليهودى المصرى الوحيد اللى اتعاطف معاه مش حيكون فى اس$را$ئيل..حيهاجر لأى مكان تانى على الأرض ..ولو عايز يرجع أهلا بيه وسط أهله ..غير كدا هو وحش متعطش للدماء حيقتلك عند أول أوامر له بضرب رصاص فى الصاحى..
بعدها وسائل التلاعب النفسى بالأسرى..ازاى ترمى فى النص كمية أكل قليلة وتسيبهم يتخانقوا عليها..والجوع كافر..و الخناق على الأكل يخلق عداوات..وازاى تميز بعض الأسرى على بعض لشق الصفوف..وعلى الجانب الآخر وقت الاستجواب..و ازاى يتحول لوقت مريح والأسير يتعامل فيه بآدميه عشان فى الآخر يتجاوب..من أول الطرقات لغرفة الاستجواب المليانه بنات لابسين ملابس مكشوفه جدا جدا..لحد السجاير واسلوب المعاملة اللى بينقلب بشدة وتوصل لعصب الأعين و الخروج بالأسير لمكان مجهول وأمره بحفر قبره..ثم صوت رصاص كأنه حيصيبه وبعدها يكشفوا عينه تانى بعد ما اوهموه انه على وشك الموت..
المثير للاهتمام حقا هو الشعور المتولد عن دا فى النفوس..ان الصهيونى بيحترمك عن المصرى اللى زيك..رغم ان فى الحقيقة انتوا الاتنين اسرى فى ايده وهو بيتلاعب بيكم..بيفكرك بإيه.بإيه؟تيجى بعدها فصل العدو للأسرى الجامعيين والمثقفين عن الأميين ومتوسطى التعليم..كل واحد منهم له طريقة تعامل مختلفة..الأسرى المتعلمين اجريت لهم عمليات غسيل مخ..زيارات لمعسكرات "الكيبوتز" او المستعمرات العمالية ..التلويح بالنظام والنظافة "بصوا أحنا متحضرين ازاى؟ حلوين ازااى؟ شفتوا انكم ظالمينا؟ احنا مش وحشين زى الدعاية ما بتقول" ..زيارات لعرب اسرا#ئيل بهدف توصيل رسالة "مين قال اننا وحشين! ما هم عايشين وسطنا اهوه" وفى وسط ما هم قاعدين مع مضيفهم العربى بيلمحوا فى عينه دموع محبوسه..زى الأرض المحبوسه اللى هو واقف عليها..لحد قبل ما يمشوا والعربى بينتحى بيه جانبا "اقفلوا على نفسكوا..اقفلوا الباب لحد ما توصلوا لمستواهم..لا تسمحوا بجرجرة لحرب قبل ان تكونوا مستعدين ونحن هنا امتداد طبيعى لكم..الاخوة فى مصر..انتم الأمل ولا أمل غيركم" ..
الغريب فعلا وهى ملحوظة الكاتب هى الخطاب التوسلى عن حق العيش فى سلام من سجان لأسير..ازاى كانوا بينظموا محاضرات كاملة يثبتوا فيها ان أصل الموسيقى العربية عبرى..والحضارة المصرية بناها يهود..والتشكيك فى اى فضل ممكن لمصر..لحد الوصول لغايه محددة...اليقين التام انك فى وضع سىء مش عشان دى فترة وحتعدى زى ما بتعدى هزائم على شعوب كتير..لا انت مهزوم عشان انت طبيعتك كدا..تاريخك لا شىء..ثقافتك لاشىء..(شفنا فين دا؟فين قبل كدا؟؟بقالنا كام سنة بنضفى الكثير من الرومانسية والنقاء على كراهية البلد و بنسمى من يتبنى خطاب مشابه ثورى نقى؟ شكلا منهم ناس فعلا عايزه الإصلاح..لكن المحصلة النهائيه حتكون اللى عدوك عايزه وانت لست سوى ماريونت استخدمها سواء عن مثالية منك او كراهية حقيقية)
ندوات ولقاءات كاملة لغسل مخ الأسرى ..شحن عاطفى ضد القيادات المصرية ..محاضرين من معاصرى الهولوكوست منهم محاضر فاقد للبصر..يلقى محاضرة مليانه عواطف عن حقهم فى الخروج من المخابىء والعيش فى سلام..وتصبح انت ..الأسير الجائع المروع..مسئول بقدرة قادر عن العذاب اللى الناس الحلوة دى شافته...يا متوحش!
وصف الكاتب للقاءات الأسرى مع قيادات الجيش الصهيو$نى جدير بالتأمل..على رأسهم اسحق رابين..وازاى كان بيقف يضحك ويتكلم معاهم ويشوف الكتب اللى بيقروها..ومقارنات بينه وبين القادة المصريين..
الكتاب انسانى جدا..بكل ما تحمله الانسانيه من متناقضات..فى لحظة يكون واقف فى المعسكر بيلعن البلد و لحظه تانيه وهو بيتم الاستجواب معاه بيرفض يرسم خرائط الالغام اللى هو زرعها..ويرفض تعالى السجان عليه ويعامله بندية..بيرجع من الأسر بالكثير والكثير من المرارة..لدرجه انه بيفشل فى الإندماج تانى وبيخرج من الخدمة..ويأتى نصر اكتوبر ليصدمه صدمه تانيه..بعد ما كان استقر لليأس والكفر بمعنى الوطن..بيثبت له تانى انه كان غلطان...لحظات التحول دى ومحاولة استرجاع الأيمان بالقدرة اتكررت فى الرواية اكتر من مرة..اولها مع اغراق ايلات والعدو بيتعمد انه يوصلهم رسالة مفادها ان القاهرة لا تعبأ بكم..شوارعها مليانه كباريهات والقيادة استسلمت والوضع على وشك الانفجار..لحد ما يتسرب نبأاغراق ايلات و تحصل ثورة فى معسكر الأسرى ..هل الوضع اتغير؟ لا...بس دا اللى بيحصل لما انسان يرجع له ايمانه بامتلاكه للقدرة على الرفض..والمقاومة..وان الاحوال غير ما اتصورت له...المرة التانيه كانت لما بيلتقى بأسير تانى لم يراه من قبل..شاب وسيم هادىء مهذب..عشان يتفاجىء ان هذا الانسان الهادىء هو السبب فى تأخر عودتهم لمصر..نظرا لاصرار العدو على معاملته كجاسوس وليس أسير..وإصرار مصر على عودته مع الأسرى..ورغم شهور الحبس الانفرادى والمعاملة المرعبة الا ان الفتى الهادىء زى ما هو..لم يفقد ايمانه بوطنه..ولما بيساله بطل الرواية عن سبب معاملته كجاسوس..بيجاوبه انه قام مع مجموعه بجمع عتاد الجيش المصوى المبعثر فى الصحراء وتفجيره قبل ما يستولى عليه العدو لدرجه انهم افتكروا ان فيه قنبلة ذريه مصر ضربتها!!! ويتفاجىء ان الشاب فنان تشكيلى؟؟من عائله فنيه بالكامل..جزء منه بيحسده على يقينه وجزء منه بيستعبطه..
فى النهاية هى جزء من تاريخ أهالينا..جيلهم اللى اتسرق شبابه..ورغم كدا انا بأشوفه جيل حكيم جدا..شاف الخط الرفيع الفاصل بين معارضع نظام بلد وبين البلد نفسها..نفس الخط اللى تاه من جيلنا..جيل حارب عشان بلد من العالم الثالث حديثه التحرر يحكمها ديكتاتور كلاسيكى ستيناتى ذو ميول اشتراكية رمى اخواتهم فى المعتقلات ..ولكنهم أدركوا بعبقرية ان كل دول ماشيين..وان الوطن مفهومه أكبر بكتير من حفنه أشخاص ..
وان كان دا بيدفعنى للتساؤل ..هل احنا دونا عن شعوب الأرض مكتوب علينا ان مفهوم الوطن يكون بهذا التعقيد والتضارب؟ اشمعنى احنا اللى بنحارب طول الوقت عشان الأرض الللى واقفين عليها..والهوا اللى بنتنفسه ..واخيرا عشان شويه الميه اللى بنشربهم..ايه دا!! اشمعنى احنا!!!!
رواية تستحق القراءة جدا جدا..مع رواية "الأسرى يقيمون المتاريس" حتقدر تكون صورة بعين الرائى عن واحد من أسود أيام مصر وفترة اتشكل فيها كل شىء بمعنى مختلف ..وبعدها بعث كعنقاء محدش عارف هى مش بتخلص وتموت ليه!