“إلى أهل هيروشيما..أول من عانوا جهنم الدنيا"
لأن فى جرائم لا تسقط بالتقادم ولا بالاعتذار ..فما بالك بأن حتى مفيش اعتذار..و محدش بيدرك فداحتها غير ضحاياها وشهودها ..
مرة تانية بندخل " عالم حبة الرمل" زى ما بتسميه سفيتلانا اليكسفيتش... الحكايات الفردية لشهود الأحداث التاريخية الكبرى ...الحدث المرة دى جريمة ليس لها شبيه فى تاريخ البشرية...
قصة حياة الصغير (جن) ...السيرة الذاتية للكاتب نفسه (ناكازاوا كيجى) المعروفة بسلسلة جن الحافى barefoot Gen..أول تعرفى بالمانجا اليابانية (لا مش دى...دى كتب مصورة زى الكوميكس) .
نتتبع خلال ١٠ أجزاء (قرأت منهم خمسة) حكاية عائلة الفلاح اليابانى (ناكاؤكا) ...الرجل الشريف الشجاع وأبناءه ..اربع صبيان الثالث منهم هو (جن الحافى) راوى القصة و بنت ...وأخرى تولد بعد وفاته..تبدأ الرواية قبل شهور من إلقاء القنابل النووية على اليابان عشان نشوف وجه تانى لكوكب اليابان الشهير..وجه كارف على الهند شويه مع لمحة فا*شيه واضحه...
شعب لا يجد ما يأكله..لا يوجد عمل...كل الموارد مكرسة للجيش اليابانى الغازى تحت اسم الامبراطور..إله اليابان و أب الجميع...أبناء الشعب بيرغموا على خوض الحرب والانتحار من أجل الامبراطور...دعاية فجة بتزن ليل ونهار (إذا مت من أجل الإمبراطور نبتت على جثتى الزهور) ..أى شكوى من الحالة الإقتصادية بتقابل بتخوين ووعود بالرخاء بعد انتصار اليابان فى الحرب... جرائم عرقية فى حق شعوب الدول اللى غزتها اليابان خلال الحرب اليابانية الصينية الثانيه وعلى رأسها الشعب الكورى ...ترحيل الأسرى والمواطنين الكوريين للعمل في المناجم والمصانع بدون أجر كعبيد...بلا علاج ولا رعايه زى الديدان...مع عن*صرية شديدة ضدهم تصل لرفض علاج المرضى...
يقف الأب (ناكاؤ) بكل شجاعة ويعلن معارضته لحرب لا تخدم سوى الإمبراطور و رجال الأعمال المستفيدين من تدفق الأموال والسيطرة على موارد الدول المحتلة ونهب اليابان ...بتكون النتيجة تخوينه و التنكيل بابناءه فى المدرسة...بيتطوع ابنه الأكبر (كوجى) فى السلاح الجوى البحرى لرفع العار عن عائلته...عشان اخواته محدش يعايرهم أنهم أولاد الخائن..مع معارضة عنيفة جدا من أبوه ...الأسرة لا تجد طعام فتضطر أنهم يبعتوا ابنهم الثانى (اكيرا) للعمل بمعسكرات الريف اللى بتمد الجيش اليابانى بالطعام وأيضا على أمل ابعاده عن المدن المعرضة للقصف...و يبقى الثالث العنيد المشابه لأبيه جدا (جن) مع إخوته شنجى الأصغر و اخته (ايكو)...
مع تتبع قصة (كوجى) و (اكيرا)و.. اتفاجئت بتفاصيل مكنتش اعرف عنها حاجه قبل كدا...طيارين الكيمكازى الانتحاريين مكنش بمزاجهم..دول كانوا بيرغموا على اغانتحار وبتوصل لربط الأيادى فى الطياره وتعطيل التحكم فيها و ملأها بالمتفجرات عشان يبقى ميت ميت وميخالفش التعليمات...زملاء كوجى المختارين للإنتحار غرقانين فى الخمر ورثاء الذات عشان ينسوا أنهم حيموتوا غصبا بعد أيام.. .طول عمرى أعرف أن معركة جزيرة (أوكيناوا) كانت مرعبة وكبيرة ومات فيها مئات الآلاف..لكن مكنتش اعرف ان الجيش الياباني انتزع الاطفال من اهاليهم و فخخهم ورماهم كقنابل حية تحت قوات الحلفاء..بلفظ الكاتب (عاملوا اليابانيين كرصاصات رخيصه و سهلوا عليهم الإنتحار فهانت عليهم أنفسهم) و كذلك (اكيرا) وقصص احتكار بشع للطعام لصالح الطبقة الحاكمة والارستقراطيه وعقاب طفل بالموت لو سرق ثمرة بطاطا..
ينتهى الجزء الاول بإلقاء القنبلة على هيروشيما..ناس بتمشى فى الشارع وعيال رايحه المدرسة الصبح وستات واقفه فى المطبخ ...جلدهم بيسيح ويتحرقوا فى ثانية...شمس صغيرة اترمت وسط الحياة اليومية لبشر عاديين جدا...مدينة كامله بتنصهر و تتحرق بسكانها ..بينهار بيت ناكاؤ و يفشل جن فى إنقاذ أبوه وأخوه الأصغر شنجى و أخته ...بيأمره الأب لما النار تقترب بالهروب والنجاة بحياته وحياة امه وبيوصى جن بالطفل اللى مازالت أمه حامل فيه..ليشاهد جن عيلته تتحرق قدامه و غصب عنه بيشد أمه الحامل من أمام المشهد و يجرى..بتتولد فى نهاية الجزء الأول أخته الصغرى توموكو...ويتحول جن الفتى الشقى العنيد اللعبى لرجل صغير عليه رعاية أمه واخته انتظارا لعودة اخويه الأكبر...
الجزء الثاني صادم ومخيف...انا اتشديت جامد وانا بأقرأه وفضلت طول اليوم مودى مقلوب..بيورينا بالتفصيل ما بعد القنبلة...اللى مات ارتاح...مدينة كامله من ضحايا الحروق تسير على غير هدى... مدينة كامله بتصرخ طلبا للماء ولتسكين الآلام والعلاج ومفيش حد قادر يساعد...إمعانا فى الإجرام لم تفصح امريكا عن طبيعة الإنفجار...بتكون النتيجة أن فرق الإغاثة بتتوجه بسرعه لمركز الإنفجار ويتعرضوا لجرعات عالية جدا من الإشعاع الذرى..وبعد حوالى ٤٨ ساعة يسقط الجنود وعمال الإغاثة الأصحاء مرضى بإسهال وقىء دموى ويموتوا خلال ساعات .
جثث مش لاقيه اللى يدفنها فى حر اغسطس..جن لما بيحاول يجيب كوب ماء لرجل بيحتضر وبيصرخ من العطش بيخوض رحلة موجعه...خزانات المياه مليانه جثث لضحايا حاولوا يطفوا نار أجسامهم فيها..النهر نفسه طافى على وشه آلاف الجثث اللى قفزوا فيه لنفس السبب... مفيش أكل...القرى المجاورة لهيروشيما أهلها رافضين يساعدوا الفارين وخايفين أنهم يعدوهم (أمراض القنبلة) ..جيوش من الأطفال اليتامى بيتعرضوا للضرب والقتل لما بيحاولوا يسرقوا اكل (وهنا وعلى حد قول الكاتب بتتبدى أحد مساوىء الشخصية اليابانية..الجور على الضعيف). ..الناجين منبوذين ومرفوضين من اهاليهم...خوفا من التشوهات الناتجة عن الحروق أو خوفا من العدوى بالأمراض الغامضة اللى هما مش فاهمين ايه بالضبط...و مع الوقت تتراكم أمراض سوء التغذية ويسقط مجموعة أخرى قتلى الجوع...وينتهى الجزء الثاني باستسلام اليابان فى صدمة لشعب طولب أنه يستحمل...فحاسب على المشاريب مرتين..مرة من أجل الامبراطور ومرة بيتعاقب بسبب الإمبراطور...
الجزء الثالث والرابع والخامس هى قصة (جن) مع يابان ما بعد القنبلة لمدة ٣ سنين...العمل لإطعام أسرته ...محاولة حمايه توموكو الصغيرة اللى بتصاب بسرطان أمعاء وتموت عندها سنتين برده بسبب القنبلة...جاراته اللى بيولدوا اطفال مشوهين بدون رؤوس وبدون أطراف ...عجائز فقدوا الأسرة والمأوى و اطفال بتجندهم الجريمة المنظمة لان ملهمش أهل...سوق سوداء عملاقه للطعام أن وجد... و مع كل دا بيحاول جن يسمع نصيحه أبوه...استحمل... عناوين الأجزاء فى معظمها تتبع لمراحل نمو حبة القمح ....(دوس على القمح بالأقدام..ظهور البراعم) ...فى مقاربة بين حياة جن وجبة القمح...
ليفقد جن شعره بعد القاء القنبلة بأيام..وبيعيش سنين عرضه التنمر من المحيطين (جن العفريت الاصلع) مع رصد دقيق لمعاناة الناجين بعد سنين من القنبلة..ضحايا الحروق و الامراض الغريبة...
فى الجزء الخامس بيظهر الشبه بين جن وأبوه اكتر..لما بيعلن عن زيارة الإمبراطور اليابانى لهيروشيما فى عيد السلام..الذكرى الثانية لإلقاء القنبلة..بيقف جن رغم صغر سنه رافضا الترحيب بالإمبراطور لانه السبب فى كل الكوارث بطاعته لأمراء الحرب و رفضه للاستسلام...مع تغيير الدستور الياباني بعد الاستسلام لم يعد الامبراطور إله ولم يعودوا هم أبناءه خلاص...و يعود اخوه كوجى و يسافر تانى للعمل بالمناجم فى محاولة لتوفير الطعام لأسرته ..و بيشتغل اكيراو وجن وأمهم لتوفير وجبه كل كام يوم...ثم يظهر الأمريكان وقواتهم باليابان مع فظائع أخرى.. اغتصاب الفتيات اليابانيات..التنكيل بكل من لا يروق لهم...منع اى قصة تتحدث عن معاناة القنبلة من النشر او الوصول لخارج هيروشيما...التصوير ممنوع وحيازة كاميرا جريمة...اى كلمة عن الضحايا مضروب عليها ستار حديدى صلب والجرائد تحت رقابة الجنرال ماكاثر قائد القوات الأمريكية في اليابان...
ومع شح الموارد بيضطر أهل اليابان لعمل لم يكونوا يتخيلوه... اصطياد جثث موتى القنبلة وبيعها للقوات الأمريكية المهتمة جدا بجمع جثث الضحايا ... الأطباء متواطئين مع القوات الأمريكية واى شخص يشكوا من أعراض القنبلة بيتحول على مركز أى بى سى سى ليخضع لفحص شامل ..وأخذ عينات كاملة من كل أجزاء جسمه..بدون تقديم علاج...يقال إن أمريكا لديها سجل شبه كامل بكل سكان هيروشيما و لديها ما يكفى لإعادة تمثيل ما حدث بكل دقة..جينيا وطبيا..
(أجرت امريكا فى اليابان واحدة من أكبر الدراسات القائمة على الرصد والملاحظة فى التاريخ..تشمل كل ضحايا القنبلة أحياء واموات..خريطة جينية للضحايا وأبنائهم وأحفادهم..وسجلات طبية لحالتهم المرضية على مدار 75 سنة من ساعه ما القوا عليهم القنابل النووية
The atomic bomb casualty commission cohort .)
ينتهى الجزء الخامس بأحد تجار جماجم الموتى وهو بيكتب على الجماجم اليابانية المسافرة لأمريكا (كراهيه) و يقف يقول الجماجم (ستذهب تلك الجماجم غلى امريكا،اريد منها أن تنتقم لنا، اجلبى عليهم الشر ايتها الجماجم)
فى خمس اجزاء اخرى لسه مقرتهاش...لكن ..بين كل صفحه وصفحة اكتر كلمة اتقالت (تحمل يا جن..تحملى يا امى..علينا أن نتحمل) رغم أن انا فى موقع القارىء ومكنتش مستحملة...كمية اجرام لا يمكن تخيلها و انعدام آدميه و كذب و خداع..
سهل التنظير من بعيد...وسهل تصوير الأمريكى المضطر الحزين وهو بيضرب مدينتين نووى بفرق ٣ ايام من أجل السلام ...بس نظرة واحدة لرواية أحد الضحايا كفيله بإسقاط كل المبررات ...
مفيش اى مبرر غير الإجرام والعنجهيه والصلف .
(فى ذكرى القنبلة الأولى على هيروشيما 6 اغسطس..والثانية على ناجازاكى فى 9 أغسطس)