الفصل السابع
---
كل المواساة كاذبة ..أنا مَن خضتُ هذا، أنا وحدي أعرف مقدار الآلم!
عُدت مع أبي وأمي إلى المنزل بعدما تحسنت صحتي وإستعدت قواي، بغرفتي اتفقد حالها، كما هي منذ تركي لها أول مرة من فترة دخولي المصحة.
نهضت بتثاقل، أصبح جسدي واهن بعض الشئ بسبب العقاقير اللعينة بالمصحة وعدم تناولي للطعام لفترات طويلة وايضاً بسبب حزني العميق.
ذهبت نحو مكتبي، رغم عدم وجودي لفترة طويلة، إلا أن كانت والدتي حريصة على نظافة الغرفة وترتيبها كل يوم.
فتحت درج المكتب، واخرجت صورته، إياد!!
ابتسمت بوهن، بحسرة.. ب ألم! أصبح عالمي فارغاً منه، أصبح ذكرى وهو الذي كان الحاضر والمستقبل!
كيف تقبل قلبي العيش بعده؟ كيف به ينبض حتى الآن متشبثاً بوجوده بالحياة رغم رحيل نصفه الآخر!!
قبّلت وجهه بالصورة، كنت لأول مرة أتجرأ على فعل هذا، ولكنني إشتقت..
كيف لي أمضي الباقي من حياتي ومن نفسي من دونه، أريد ان يخبرني أحدهم كيف تمضي أيامك دون أن تتنفس، دون أن تملأ رئتيك بالهواء.. دون أن تشعر بسريان الدماء داخل أورتك؟
إياد كان لي بمثابة كل هذا، دعوني اتفق معكم ب أن قيمة الشئ بعد خسرانه تصبح أضعاف قيمته عند إمتلاكه.
رحيل إياد، جعلني أعرف حقيقة شعوري ناحيته، كنت أعلم منذ الصغر أنني اتعلق بوجوده كثيراً، كان يعشقني من صميم قلبه واجبرني على عشقه دون أم يدري.
سمعت صوت طرقتين على باب غرفتي، وصوت أمي تريد الدخول
_إتفضلي يا ماما
_عاملة ايه يا روحي دلوقت؟
_الحمدلله
نظرت امي لصورة إياد التي اطبق عليها قبضة يدي ف إبتسمت وزاحت بصرها عنها لتنظر إلي
_تحبي تلبسي ونخرج نشم هوا برة ونتمشى؟
زمتتُ شفتاي وأردفت بعدم إكتراث
_مش حابة، هحاول أذاكر، الفترة الل فاتت ضاع مني كتير.. مش عاوزة السنة دي تضيع مني
دنت مني وهي تمسح على رأسي بحنو قائلة
_بابا شايف إنك تقدمي إعتذار السنة دي وتدخلي ان شاء الله السنة الجاية، تكون امورك الصحية بقت أحسن وإستقريتِ ورجعتِ نايا حبيبتنا
نهضت من مكاني وقلت متأففه
_بس أنا مش عاوزة اضيع سنة من عمري كدا وخلاص
_مش كدا وخلاص يانايا.. انتِ نفسياً حقيقي مش مستعدة، وكلنا ملاحظين
وامتحانات ثانوية عامة يعني مجهود جبار انتِ مش هتقدري عليه عشان كل الل إتعرضتيله يا قلبي
تنهدت بمرارة، وجلست إلى فراشي صامته، جلست بجانبي أمي وجعلتني أضع رأسي على صدرها الدافئ ا إثر قولها
_اعتبري انك فمرحلة فاصلة فحياتك، رتبي امورك وشوفي هتعملي إيه يرجعك لحياتك ولينا من تاني زي م كُنتِ، إعتبريها رحلة هترجعي منها واحدة تانية افضل من القديمة.
رفعت رأسي ونظرت لها دون أن اتحدث ف أكملت
_هاه، تغيري وتلبسي دريسك الفلوري القمر بتاعك الل بيخليكِ أميرة من أميرات ديزني ونخرج سوا وأعزمك على كنافة نابلسية؟
إبتسمت وعانقتها دون كلام، أظنها تشعر بما أريد ان اقوله، تشعر بي دون تحدث، فهي أمي التي رافقت روحها تسعة أشعر، من الصعب الآن أن يختلط عليها أمر متعلق بي وبشعوري وبما أريد.
اخبرتني أن ابدء في تجهيز نفسي حتى إتمامها هي أيضاً من تجهيز نفسها لننطلق سوياً.
تأنقت وكأنني على موعد غرامي مع حبيبي المنتظر، حبيبي!
لا أعرف ما الذي جعلني أقوم بتشغيل قائمة الموسيقى على حاسوبي، ودارت اغنية _يا أنا يا أنا_للعملاقة فيروز، كان يعشقها إياد وكان دوماً يهديها لي.
بدأت بموسيقتها التي تسحر القلب والأذن معاً، فردت ذراعاي وامسكت بطرفي فستاني وقمت بالدوران حول نفسي على صوت الأغنية، تخيلت نفسي بين ذراعي أياد نرقص سوياً ولأول مرة، لأول مرة اتذوق كلمات الاغنية بعمق وأفهم ما كان إياد يريد ايصاله لي.
كنت ادور وأدور وأدور، حتى إصطدمت يدي بالساعة التي أهداها لي إياد بيوم ميلادي ووقعت على الأرض وإنكسرت متهشمة تماماً!
توقفت عن الرقص وإقتربت منها، امسك بقاياها المتناثرة وأنا اشعر بالحزن كاد يفتك بقلبي.
قمت بتجميع اجزائها وانا اشعر ب أنها كانت رسالة إياد الاخيرة لي، إنه رحل ورحلت كل الأشياء معه كي اقتنع إنه بالفعل قد مات.
كانت تضيق به الدنيا، فيجد في نفسي المتسع!
ترجلت من غرفتي نحو الردهة كي اقذف بالساعة المنكسرة إلى سلة المهملات ،خرجت خارج المطبخ منتظرة انتهاء والدتي من تحضير نفسها، ترجلت نحو دورق المياة وسكبت القليل وشربت.
وفجأة، صنعت ساعة الحائط صوتاً غريب.. صوت نقر غريب جعلني أنتبه معها!
وجدت عقارب الساعة بدلاً من سيرها الصحيح، تسير عكساً.. حدقت بعيني طويلاً ما الذي يحدث؟!
نفس الصوت الذي كان ينبعث من الساعة المكسورة للتو!!
قمت بلطم وجنتي اليمين، هل انا في الواقع أم أنه احد احلامي المزعجة؟!
صوت التكتكة المنفر الذي احفظه عن ظهر قلب، أنظر إلى الساعة العقارب تسير بسرعة رهيبة حتى توقفت عند الساعة الحادية عشر.
_دا الوقت الل انا مُتت فيه!
سارت قشعريرة بجسدي، وقف شعري جسدي بالكامل، شعرت بخدِر بسيط وكأنها أول مرة يتحدث أحدهم لي. إلتفت إلى نحو الصوت وجدته واقفاً، شاباً في ريعان شبابه اعتقد انه فالعقد الثاني، هناك سكين مغروس نصله ب قلبه وتسيل الدماء من جرحه
وجهه شاحب، شاخصاً نظره على عيناي..
تلجلجت الكلمات في حلقي كعهدي منذ دخولي إلى هذه الدوامة وشعرت بغصة من جديد حتى أردفت إليه
_إنتَ مين؟!
_أنا الضايع وانتِ اللِ هتلاقيني!
اقتربت منه حتى وصلت لبعد ليس بقليل عنه وأردفت
_أنت جيت لي وانا فالمصحة قبل كدا وأنا معرفتش اساعدك
_وجايلك تاني عشان لازم تساعديني
_ليه أنا ليه ليه؟!
_عشان دي لعنتك يا نايا، واللعنة زي القدر ومحدش بيختار قدره
هدرت في وجهه قائلة
_وامتى هتنتهي اللعنة دي؟ إمتى حرام عليكم.. حرام عليكم
سمعت أمي صوتي من داخل غرفتها ف أتت لي تحضنني مع قولها
_فيه إيه يا نايا؟ بتكلمي مين يا حبيبتي؟
_انا تعبت يا مامااااا.. تعبت يارب اموت بقا
شعرت بدفئ دموع أمي وهي تتساقط من عيناها على كف يدي، كانت لاحول لها ولاقوة، لاتدري ماذا تفعل لإنقاذي، لا تعرف أين السبيل للنهاية، لنهاية كل هذا الازعاج والتعب النفسي.
________
توقفت سيارة أجرة أمام المصحة النفسية، وهبطت منها إيمان بعدما اعطت السائق بعض الاوراق المالية، دلفت إلى المصحة ومنها إلى غرفة المسؤلين داخل المكان تريد تصريح بالزيارة لترى نايا كالعادة.
هي علمت من المشفى بأنها خرجت أخيراً بعدما تحسنت صحتها، ف علمت أن بالتأكيد عادت إلى المصحة ولكن رد المسؤلة في المصحة كان بمثابة الصدمة لها
_نايا خلاص مشيت وسابت المصحة!
اتسعت حدقة عين إيمان وقالت
_إيه؟!
_يافندم زي م سمعتي، اهلها خلصوا الاجراءات بخروجها على مسؤليتهم وأنها هتخضع لرعاية طبية من البيت
ابتعلت إيمان ريقها بصعوبة، لقد تصعب الأمر عليها، ايمان برغم انها انتهت من كتابة روايتها التي تخص نايا وماحدث معها، إلا انها كانت تطمح لما هو أكبر، ان تعرف منها اكبر قدر ممكن من قصص القتلى والموتى حتى تشرع في كتابة جزء ثانِ لروايتها يعزز الجزء الأول ويجعلها تتربع على قمة الأكثر مبيعاً ويُذاع صيت قلمها وإسمها أكثر من ذلك.
شكرت المسؤلة وشرعت في الإنصراف وبداخلها تتسائل كيف ستراها إذاً لتحصل على باقِ القصص المثيرة؟!
هل تقوم ب إعلام عمر بكل شئ حتى يتنسى لها أن تراها وتتحدث إليها وتكمل ما بدأته؟
أم لا تخبر عمر ب اي شئ على الإطلاق وتسأل على عنوان منزلها من المصحة وتذهب إليها دون علم عمر وتحصل على ما تريد؟
ظل عقلها يتأرجح بين فكرة وأخرى وهي ضائعة بينهم، تملكت منها الأنانية حتى شعرت أن تضحي ب أي شئ في سبيل ذياع صيتها كمؤلفة في بداية مشوارها ولكنها اثبتت تواجدها بواقعية افكارها وإلتفاق القراء حولها.
لا تعرف لماذا فكرت في عمر في هذا الوقت، اخرجت هاتفها من حقيبتها وقامت بالإتصال به
_ايه ياعمر، هتقضي كل الأيام نوم وللا إيه، فوق كدا أنا قربت انسى شكلك
قالتها ضاحكة فقال هو بالا مبالاه
_هقوم اعمل إيه يعني ولا ورايا ايه، انا بهرب بالنوم من عجزي وقلة حيلتي وفشلي المستمر
_ياااه كل دا؟ يابني مسودها ليه علينا كدا.. اتقفل باب فيه غيره وربنا مش بينسى الل بيسعى
_اتقفل باب واحد ي إيمان! انا اتقفل ف وشي كل باب خبطت عليه.. لحد م عرفت ان أكيد المشكلة فيا أنا، أنا الل لا أصلح لأي شئ.. وكأن لما جيت الدنيا، إنطبع على وشي جملة غير لائق!
_بقولك ايه، فكك من جو الكآبة دا وصحصح عاوزة اقعد معاك شوية ونرغي، هستناك فالكافية الل بنروحله دايماً.. اشطا؟
بعد صمت دام لثوان، اخبرها عمر ب انه موافق.
وبالفعل، في غضون وقت ليس بكثير، كان عمر يدلف إلى المقهى يبحث عن ايمان ليجدها على طاولتهم المعهودة.
تصافحا وبعد السؤال والاطمئنان إلى الأحوال وتبادلا اخبار بعضهم البعض، بدأت إيمان في خطتها ب إيقاع عمر في فخها المنصوب حتى يتسنى لها رؤية نايا والجلوس معها دون علمه
_مقولتليش، اخبار نايا بنت خالك ايه؟
احتسى عمر القليل من القهوة ووضعها وهو يجيبها
_سابت المصحة
_مانا عارفة
_إيه؟!
قالها عمر مندهشاً ف سرعان ما حاولت ايمان بإنقاذ الموقف وقالت
_ايوة اكيد عارفة بعد الل حصلها دا، اكيد خالك ومراته مش هيسيبوها هناك بعد م اتعرضت حياتها للخطر ب إهمالهم!
_بس دا مكانش كلامك لما قولتلك انها انتحرت
ارتبكت ايمان، لاتريد أن تدخل في حيرة أين تذهب بعيداً عن حصار اسئلة عمر وذكاءه الشديد، قالت وهي تشيح بنظراتها خلفه حتى لاتنظر إلى عيناه
_لما اتكلمنا يومها انا وانت، وانت اتضايقت، راجعت نفسي وطلع فعلاً كلامك مظبوط، انتو اهلها وانتوا عارفين مصلحتها، أنا يدوب سمعت قصتها منك يعني لا اعرفها ولا عمري شوفتها عشان اعرف إيه الأصلح لها.
تنفس عمر شهيقاً وزفر زفرة حارة وأردف بنبرة المهوم الذي يثقل على عاتقه كل اثقال العالم
_معرفش قرار أنها تخرج دا صح ولا لاء
_طيب إيه اخبارها، لسه بتشوف الارواح وبتكلمهم؟ لسه حالتها سيئة؟ محكتش ليكم على أي حاجة
نظر عمر لها بغرابه، وأردف
_معرفش، بس انتِ بتسألي ب إهتمام كدا ليه؟
ياللحظ! لقد وقعت في شرك ذكاؤه مرة ثانية بسبب تسرعها وعدم امتثالها للإتزان ولطبيعتها وهدوئها، طغى عليها شعورها بالتضحية بأي شيء لأجل أن تصل إلى مبتغاها.
مرونة عقلها وافكارها جعلها تجد مخرج من سؤاله قائلة
_يابني موضوع نايا دا غريب جداً، أي حد هيسمع الل انت حكيتهولي عنها هيبقى مهتم جداً لتفاصيل قصتها مع الارواح حتنتهي على إيه
_بس انا حكيتلك قشور الحكاية، الغلاف الخارجي فقط، لا حكتلك بالظبط هي شافت ايه وبتشوف ازاي وبتتواصل إزاي، أنا يدوب قولتلك انها دايماً تقول انها بتشوف ارواح ناس مقتولة عاوزينها تجيب حقهم أو ناس لسه هيموتوا وعاوزين تنقذهم.
وضعت الماصة داخل فمها وهي تحتسي العصير الطازج وأردفت دون النظر إليه
_وانت بتستهون بالل قُلته دي ياعمريكو؟ انت متعرفش حوار نايا دا شاغل دماغي إزاي
ابتسم عمر بسخرية وهو يقوم ب إشعال سيجارته ونفث دخانها
_إيه هتكتبي عنها رواية وللا إيه؟
اجفلت إيمان و إزدردت ريقها وقالت بنصف ابتسامة
_إفرض!
حدج عمر بها لثوان وأردف
_اكيد مش هتعملي كدا ي إيمان طبعاً
_ليه؟
_عشان حياة قريبتي مش مشاع عشان تتكتب ف كتاب والناس تقراه وطظ فيها وف احساسها وف امانة خالي الل أمنهالي أن محدش يعرف بحكايتها من قرايبنا ومع ذلك انا حكيتهالك لأنك مني ومش غريبة عني، وعشان نشيلي معايا حمل التفكير فموضوعها شوية.
ابتسمت إيمان بتصنع وقالت له وهي تلوح أن يخفض صوته حتى لا يسمعه الجالسون حولهم بالمقهى
_فيه إيه؟ إهدى أنا مقصدش انا كنت بس بدردش وياك وبطلعك من الموود الل انت فيه
زفر عمر زغرة يشوبها دخان سيجارته وقام ب إطفائها في المرمدة ونهض وهو يردف
_أنا رايح التويلت وراجعلك
أومأت إيمان برأسها ايجاباً، ف ترجل عمر بعيداً نحو حمام المقهى المخصص للرجال، انتهزت أيمان فرصة وجوده بالحمام وامسكت هاتفه سريعاً وفتحته فهي تعلم كلمة السر_تاريخ ميلادها_بحثت عن قائمة الهاتف والارقام و كتبت اسم نايا في البحث ليظهر اسمها ورقمها، امسكت بهاتفها سريعاً ودونت الرقم وقبل ان تغلق الهاتف وتعيده إلى مكانه، وجدت عمر واقفاً أمامها يحدق بها بنظره تنم عن ألف سؤال!