في ليلة شتاء باردة جلست وحيدًا
اتأمل المارة بملامح هادئة ورأس مزدحم بالأفكار، على رصيف الشارع، في الطريق..
بعدما غادرت البيت غاضبًا، مثقل بضيق ذات اليد، وصامت كصمت أريكتي العتيقة قبل أن تتهاوى، تقيد الأعباء نحري،
استمع إلي نغمة هاربة من مذياع قريب، وادندن معها، ، نغمة حزينة، كحزن ساقية مهجورة، تشبه حالتي تمامًا حينذاك
تتساقط أوراق الشجر الجافة المبتلة على كتفي فتذكرني بدموع قيد السقوط؛ ثم تهب فجأة نسمة باردة وأنا مترعٌ بنسمات الشتاء فانتشي هوائها فتقل معاناتي النفسية قليلًا،
فأبكي عندما اتذكر ويتهاوى الصبر داخلي، أشعر بغصة بصدري لأول مرة منذ عشرين عامًا أقف عاجزًا أمام أبنائي، الذين يطالبون باحتياجاتهم العادية، وفي جيبي حافظة فارغة إلا من خمسين جنيهًا، وأنا عالق في مأزق المسؤول، أتمتم من أين لي بمبلغ يفرج ضائقتي،
وفجأة هبطت عليّ كالصاعقة امرأة تركض تجاهي، لا أعرف ما الذي يخيفها!! فنهضت اسألها ما بك؟ ونسيت ما كنت أعانيه، لم أكمل حديثي، وجدتها تركتني وركضت للشارع المجاور،
خشيت على نفسي، ورمتني أفكاري بعيدًا، لكنني علمت لاحقًا أنه كان درب من دروب سذاجتي، اعتقدت أن أحد اللصوص يتبعها، وذهبت خلفها لأختبيء مثلها، فوجدتها تخفي جسدها النحيل خلف سيارة مغطاة بغطاء بالي، يعلوه غبار وكأن عواصف الشتاء خصته وحده بخيراتها،
اقتربت منها اسألها فوجدتها أخرجت شبه (مطواه) تهددني أن أعطيها كل ما في جيبي، وإلا استدعت فضيحة لتوصمني بها، فضحكت حتي ترقرقت الدموع في عيني، وقلت لها ما أغباك إذا كان معي مال ما الذي أقعدني هكذا يا بلهاء، أنه ضيق الحال الذي قيد نحري، تركتها ولم التفت لها واتجهت لبيتي، رمقتها بطرف عيني وجدتها مضت لحال سبيلها،
كنت أشعر أنني مازال خاطري مثقل، لكنني حمدت الله أنه لم يصيبني مكروه من المرأة التي كانت تريد سرقة جيبي الفارغ،
وفجأة يدق الهاتف كانت زوجتي تطمئن، فأخبرتها أنني على بعد خطوات وأصل، وعندما وصلت أول الشارع الذي أقطن فيه وجدت رجل عجوز يرتجف، يجلس بمدخل عقار، وحارس العقار يدفعه دون رحمة للخارج، فإذا بالرجل يسقط أمامي، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أدفع الحارس بمثل فعلته بالعجوز، وما كان منه إلا أغلق باب العقار دون أن يتحدث معي ببنت شفة، وأنصرف داخل حجرة يمين المصعد،
ساعدت الرجل على النهوض فدعى لي فشعرت أن الله وضعه في طريقي لأتذكر أن هناك أناس أكثر معاناة مني، فساعدته للاختفاء من البرد في إحدى المداخل،
كان هذا المشهد قريب من بيتي، فهاتفت زوجتي واستدعيت فيها الرحمة، وأخبرتها بما حدث وطلبت أن ترسل مع أحد أبنائي غطاء لهذا المسكين يقيه برد الشتاء القارس، فجاء ابني بالغطاء، فوضعته عليه كان يرتجف، ورق قلب زوجتي فأرسلت فطيرتين كانت قد صنعتهما صباحًا، وعندما هممت بإعطائهما له وجدته قد غفى
وضعتهم بجواره، وتركته وذهبت محتضن بيدي كتف ابني سعيد بما فعلت، والغريب أن الثقل الذي كان على صدري زال، أشعر بروح تحلق مع نسمة رقيقة وبعض الندى، أخيرًا تخلصت من ذلك الثقل،
ولكن ما كدنا نصل للبيت إلا ووجدت أخي ينادي عليّ من الشارع المقابل، تساءلت في نفسي ماذا جاء به هكذا ليلا؟ يا ليت الأمور تكون على ما يرام، سلمت عليه ووجدته أخرج من جيبه مبلغ ثمانمئة جنيهًا ووضعهم في يدي، وقال هذا المبلغ الذي اقترضته منك منذ شهرين الحمد لله تحسنت الظروف، وتركني وذهب قبل أن اتحدث،
نظرت في عين ابني وضممت رأسه إلي صدري وحمدت الله، ثم دخلنا العقار نركض إذ أن الأمطار بدأت في الهطول الشديد؛ وكأن السماء تخبر بعطاءها.