ازدحمت أروقةُ عقلي بالذكرياتِ،
وكلما لمحتُ ذكرىٰ، تدافعت الأخريات،
صمتٌ طاغٍ ينبعثُ من زوايا الجدرانِ الداكنةِ؛
يشبه الداخلَ تمامًا، كصندرةِ الكراكيبِ،
ولكن هذه المرّةَ في رأسي،
كأنّها جذبتني إلىٰ أعماقِها، توقفت قدماي،
وتدفقت دوائرُ الفراغِ،
متصاعدةً بالدورانِ بين شوارعِ الصمتِ،
في أذني؛ أحاديثُ الماضي تتدفقُ،
كتاباتي صارت باهتةً،
كلّما كتبتُ، تراوغُني الأيامُ هاربةً،
أنا مُنهكٌٌ بالركضِ خلفَ الألوانِ.
لا شيء يُفقَدُ،
الأماكنُ تحتفِظ بطيفٍ للغائبينَ،
لا تتركَ يدَ التجاربِ حتّىٰ إن آلمَتكَ،
أمّا جِدي، فلَم يقُل شيئًا،
كانَ مقعدُه فارِغًا، لكنّه مُمتلئٌ بصمتِه،
فهِمتُ، دونَ أن ينطقَ، ملامِحُه قالت لي كلَّ شيءٍ،
أعلمُ أنّ هروبي يزعِجُه،
لكنّني تحوّلتُ دونَ أن أشعرَ إلىٰ صوتٍ شاحبٍ،
كبكاءِ مدينةٍ مُقفَرةٍ..!
جئتُ باحِثةً عن قنديلٍ يُضيء عَتمَتي،
لكنّني لمْ أجدَه..!
أحاطَت بيّ ذِكرياتٌ لم أتوَقعُها،
ارتطَمتُ بصندوقٍ، كنتُ فيه جُرحًا فاضِحًا مُنهَكًا،
وظلَّ حديثُ الصَمتِ يتبعُ خُطواتي،
زِقاقٌ قديمٌ،
وضَحكاتٌ هارِبةٌ، بدَت كلِعَبٍ مُهشّمةٍ..!
هذِه مأساةُ الذاكٌرةِ؛
ما يتلَفُ واقِعًا، لا يتلَفُ بتلكَ الرُدهَةٌ،
أركضُ إلىٰ العدمِ،
صمتُه أزيزٌ صاخِبٌ،
وحديثُه مَحضُ فراغٍ،
هُناكَ، بعيدًا،
أحزانٌ مُكدّسَةٌ في صناديقٍ، كما تراءىٰ لي،
همساتٌ خافتَةٌ؛
تنبعِثُ من الصناديقِ المُصطَفةِ بينَ الرفوفِ،
أبحثُ عن رحيقِ الغائبينَ بثُقبِ جدارٍ،
ربّما أستعيدُ الحياةَ التي تسَرّبت مِنّي،
وعلىٰ حينِ قلقٍ؛
تدافَعَت نحوي ذكرياتٌ أخرياتٌ،
لمَحتُ بينها ما لمْ أرَه منذُ زمنٍ بعيدٍ.
تمَنّيتُ أن يتوقَفَ الوقتُ،
أو تبتَلِعني الذاكرةُ، فلا أستطيعُ العَودةَ..!
سادَ السُكونٌ للَحظاتٍ،
صوتٌ ينبعِثُ من غرفةٍ صغيرةٍ مغلقةٌ منذُ سنواتٍ،
فُتِحَ البابُ ببطءٍ،
بها أضواءٌ خافتَةٌ، وكأنّه عالَمٌ آخَر غيرَ قابلٌ لِلّمسِ،
تجَمّدتُ في مَكاني،
صورَتي مُعلّقةً علىٰ الحائطِ،
لم أتذكّر أبدًا متىٰ التُقِطَت،
في مكانٍ لا أعرِفُه، في زمنٍ آخَرٍ،
أطفالٌ يتحدّثونَ أمامَ البروازِ، أحدُهُم يُشبِهُني،
أغمَضتُ عيني، وفتَحتُها،
رفَعتُ رأسي أرقُبُ ما فقدتُ،
وجدتُ المَشهدَ والبروازَ فارِغينِ