في زمنٍ تتراجع فيه القراءة أمام زحف الصورة والمحتوى السريع، يطفو سؤال مؤلم إلى السطح: هل أفسدنا نحن الكتّاب والمثقفون القارئ العربي؟ أم أن الظروف الاجتماعية والتقنية والاقتصادية تراكمت لتخلق أزمة مركّبة لا يُلام فيها طرف واحد؟
انسحب كثير من المثقفين إلى دوائر النخبة، وكتبوا بلغة طقوسية مغلقة، كأنهم يخشون أن تبتذل الفكرة إن فهمها العامة. ومع هذا الانعزال، فقدت اللغة الأدبية وظيفتها الجمالية في التواصل مع الناس، واصطدم القارئ بجدارٍ من الكلمات بدل أن يجد جسرًا إلى المعنى. كما اختار بعض الكتّاب مواضيع بعيدة عن هموم الناس اليومية، فازداد الشرخ بين الفكر والواقع.
حوّلت وسائل التواصل الاجتماعي القراءة إلى لقطاتٍ سريعة والمعرفة إلى مقتطفاتٍ مختصرة، حتى غدا الترند معيار الذوق لا الجودة الفكرية. تحاصر الخوارزميات القارئ في فقاعةٍ من المحتوى المتشابه، فتفقده القدرة على التنوع والتفكير النقدي، ويغدو البحث عن المتعة الفورية بديلًا عن العمق والتأمل.
وساهمت المناهج التعليمية في تفريغ النصوص من معناها، إذ اكتفت بأسئلةٍ من نوع "اذكر" و"عدّد" بدل "لماذا" و"كيف". فنتج عن ذلك جيل يقرأ لا حبًا في المعرفة، بل هربًا من الرسوب، فتراجعت علاقته بالنصوص كرحلة فكرية وروحية.
كثير من المؤسسات الثقافية والإعلامية لم تدعم الفكر الرصين، بل آثرت السطحية التجارية. وبرز من يثير الجدل أكثر من من يغني الوعي، فيما يعاني أصحاب المشاريع الفكرية الجادة من قلة الدعم والتمويل. ومع فقدان النزاهة في النقد، ضاع القارئ بين الغثّ والسمين، فاختلطت عليه القيم الجمالية والمعرفية.
وليس القارئ بريئًا تمامًا، فبعضهم استسلم لإغراءات عصر السرعة، يبحث عن الحكمة في "إنفوجرافيك" ويطلب أن تُختصر له رواية بألف صفحة في منشور لا يتجاوز ثلاثمائة كلمة. القراءة الحقيقية تحتاج صبرًا وتواضعًا، وفهمًا أن الفكر ينضج في الذهن كما تنضج الثمار في مواسمها.
تتشابك في الأزمة أبعادٌ اقتصادية كغلاء الكتب وندرة المكتبات العامة، وأبعاد اجتماعية كتراجع دور الأسرة في غرس حب القراءة منذ الطفولة، وأبعاد تقنية تتمثل في غياب منصاتٍ عربيةٍ عميقةٍ ومشوّقةٍ في الوقت ذاته.
ورغم كل ذلك، لا يخلو المشهد من مبادراتٍ مضيئة. فمنصات مثل مكتبة الضاد وشغف، والكتب الصوتية، والنوادي القرائية الرقمية، تشي بولادة وعيٍ جديد يرفض السطحية ويسعى لاستعادة علاقة الإنسان بالمعنى. فالحل يبدأ من الفرد، القارئ والكاتب، قبل المؤسسات والسياسات.
قد نكون جميعًا أسهمنا، بدرجاتٍ متفاوتة، في صناعة أزمة القراءة، لكن الجميل أن الوعي ذاته قادر على صناعة الحل. فهل نختار أن نكون جيلًا يستسلم لسطحية اللحظة، أم جيلًا يعيد بناء جسوره إلى الفكر، لقطةً لقطة، وكلمةً كلمة، وقارئًا قارئًا؟





































