الإنسان بلا قراءة كمسافرٍ بلا خارطة، يسير في دروب الحياة بعيونٍ شبه مغلقة. إنه كائن يتأثر بكل ما يحيط به، غالبًا دون تمييز بين الصواب والخطأ، أو بين القيمة والزيف. الأفكار والقيم التي يحملها ليست نتاج اختياره الواعي. غالبًا ما تكون انعكاسًا سلبيًا لتأثير الآخرين والبيئة المحيطة. وهكذا يتشكل فكره تدريجيًا، بلا وعي منه، ليصبح نسخةً مكررة من الأصوات التي تسمعها أذنه، والمشاهد التي تمر أمام عينيه، حتى يكاد ينسى أنه يملك من الأصل قدرة التفكير الحر المستقل.
القراءة: أدوات الاستقلال
على النقيض تمامًا، تمنح القراءة الإنسان أدوات الاستقلال الفكري، وتفتح له أبوابًا لا يُمكنه عبورها إلا من خلالها. كل كتاب يُقرأ هو نافذة تُطل على عالمٍ لم تلمسه قدماه، وكل فكرة تُستوعب هي أداة جديدة تمنح العقل حرية الاختيار والتمييز.
القراءة ليست مجرد تراكم للمعلومات، بل هي ممارسة واعية للفكر، وتدريبٌ متواصل للروح على التساؤل والنقد ومراجعة الذات، وقوةُ مناعةٍ ضد التقليد الأعمى. كما أن الاطلاع على مصادر وآراء متنوعة يعزز التفكير الشمولي ويقلل من الانحياز لفكرة واحدة، فيرى العالم من زوايا متعددة.
من متلقٍ سلبي إلى صانع فاعل
بدون هذه الرحلة الفكرية، يصبح الإنسان صدىً يتكرر بلا لونٍ أو نكهة، ويمرّ في الحياة متأثرًا بالعوامل أكثر من أن يكون مؤثرًا فيها، محدود الرؤية، ضعيف القدرة على التحليل.
أما مع القراءة، فيتحول الفرد من متلقٍ سلبي إلى صانعٍ لأفكاره، قادرٍ على تشكيل قيمه الخاصة، ومقاومٍ للسطوة الفكرية التي قد تفرضها البيئة، ومتمكنٍ من اتخاذ قراراته اليومية بحكمة ووعي.
فمن يقرأ عن التغذية مثلًا، يختار طعامه بوعيٍ مختلف. ومن يطّلع على آليات الإعلام، يقرأ الأخبار بعينٍ ناقدة.
القراءة، في جوهرها، هي جواز سفر الإنسان إلى الحرية الحقيقية: الحرية الفكرية. هي حرية لا تُشترى ولا تُمنح، بل تُصنعُ بصبرٍ واجتهادٍ بين السطور. إنها رحلة لا تنتهي، تكشف للإنسان قدراته الكامنة على الإبداع والتفكير المستقل، وتجعله شريكًا فاعلًا في صياغة عالمه الداخلي والخارجي.
وإن سألتني عن أعظم هدية قدمتها لنفسي، لكانت تلك اللحظة التي قررت فيها أن أكون صانعًا لأفكاري، لا مجرد متلقٍ لها.
فأمام كل منا خارطان: خارطة الصدى الجاهزة التي ورثناها، وخارطة المعرفة الحرة التي نصممها بأنفسنا. السؤال هو: أيُّ الخارطين ستختار لرحلتك القادمة؟







































