> "لم تكن مصر أنثى الجغرافيا فقط، بل أنثى التاريخ الذي يُولد من رحم المعرفة."
مقدمة: حين تُكتب الحضارة بصوتٍ ناعم لا يُسمع، لكنه لا يُمحى
في كل وطن، توجد نساء.
لكن في مصر، المرأة ليست مجرد فرد في المعادلة الاجتماعية، بل كيانٌ روحي يشبه النهر: متجدد، متدفق، وراسخ في الوجدان الجمعي. لم تكن المرأة المصرية أداة للزينة، ولا ورقة في ملفّ اجتماعي، بل كانت وما زالت قلبًا نابضًا في معركة الوعي، ومحرّكًا خفيًّا في سيرورة التاريخ.
منذ فجر الحضارة، كتبت المرأة المصرية وجودها في الصخر والطين، في أساطير الآلهة ومخازن الطب، في قصائد النيل وأهازيج الحصاد، في حجرات الملوك وفي صالات التعليم، دون أن تطلب اعترافًا، ودون أن تتنازل عن دورها.
حين نذكر مصر بوصفها مهدًا للحضارة، لا بد أن نستحضر وجهًا لأنثىٍ تضيء قلب الوطن… بصمت، وبقوة.
لم تكن المرأة المصرية يومًا ظلًا في صفحة التاريخ، بل كانت روحه السرية التي نسجت من الخيوط الخفية أعظم سفر حضاري عرفته الإنسانية. لا نبالغ حين نقول إن الحضارة المصرية، منذ فجر الوعي البشري، لم تكن ممكنة لولا حضور الأنثى لا كرمز أمومي فقط، بل كقوة عاقلة ومبدعة ومقاوِمة.
في مصر القديمة، لم تُختزل المرأة في صورة الحبيبة أو الزوجة أو الأم، بل جسّدت مفاهيم الحكمة والمعرفة والخصب والقيادة. إيزيس لم تكن مجرد رمزٍ ديني، بل صورة لامرأة تستجمع ما تفرّق، تحمي الضعيف، وتُعيد تشكيل الحياة من الموت.
وقد ورثت نساء مصر منذ ذلك الزمن البعيد هذا الدور الخفيّ؛ دور من يُعيد بناء الحياة كلما انكسرت. فالمرأة المصرية لا تحتاج إلى منبرٍ لتثبت حضورها، لأن حضورها يُحسّ قبل أن يُرى، ويُشعر به قبل أن يُدوّن.
لم يكن انزواء الأسماء عن السرديات الرسمية دليلًا على غياب النساء، بل على ضعف الرواية. ففي المدارس الأولى، حين كانت الأنثى تدرّس أبناءها حروف الحياة، وفي البيوت الريفية، حيث تتناقل الجدات الحكاية مع الخبز، كانت تُكتب صفحات من الوعي الشعبي، غير أن أحدًا لم يقرأها بجدية كافية.
فما بين نساءٍ حكمن الممالك ونساءٍ حكمن القلوب والعقول، تظل المرأة المصرية مرآة لمجتمع يعرف من تكون، وإن تظاهر بالنسيان.
وفي زمن النهضة، لم تتردّد المرأة المصرية في اقتحام صالونات الفكر، بل قادتها. كانت القصيدة سلاحًا، والمجلة وسيلة مقاومة، والمنزل غرفة عمليات للثورة.
عائشة التيمورية لم تكتب شعرًا للتسلية، بل وضعت قنبلة فكرية بين طيّات القوافي، وملك حفني ناصف لم تدعُ فقط إلى تحرير المرأة من العادات، بل حررتها من الأمية والتبعية الفكرية.
وفي قلب هذه المواجهة، برزت هدى شعراوي كأيقونة وطنية ونسوية؛ قادت تظاهرات ثورة 1919، أسست الاتحاد النسائي المصري، وتحدّت التقاليد بنزع حجابها في محطة القطار عند عودتها من مؤتمر دولي، لا لرفض الدين، بل لإعادة تعريف كيان المرأة كمواطنة لها صوت ورأي.
درية شفيق اقتحمت البرلمان، وألقت بيانها الشهير مطالبةً بحق التصويت، وأطلقت أول مجلة نسوية عربية: "بنت النيل".
لم تحتج المرأة المصرية كثيرًا من الشعارات، بل اكتفت بفعلٍ صامت، صلب، كالذي تُمارسه الأمهات وهن يزرعن الأمل في قلب الجيل. وما الثورة إلا تربية أخرى، وما الوعي إلا شكل جديد من الحنان الصارم.
وفي الفن، تجاوز حضورها مجرد الأداء، إلى أن تكون الذاكرة نفسها.
أم كلثوم لم تغنّ فقط، بل حوّلت الصوت إلى أرشيف وجداني لشعب بأكمله.
ليلى مراد خرجت من عباءة التقاليد لتؤسس حضورًا للمرأة في السينما العاطفية والواقعية.
لطيفة الزيات لم تكن مجرد أديبة، بل معمارية وجدان المرأة في مرحلة ما بعد الثورة، حين كتبت "الباب المفتوح"، وهي تضع سؤال التحرر في مواجهة المجتمع الذكوري والسياسي معًا.
نوال السعداوي، رغم ما أثارته من جدل، كشفت الوجه المسكوت عنه في حياة النساء، وكتبت بجُرأة حين كان الصمت قانونًا، وحوّلت الطب إلى مرآة للمجتمع، لا لمجرد الجسد.
لكن الحكاية لم تنتهِ. فما زالت المرأة المصرية تكتب، ولكن بطرق جديدة: من التعليم إلى التقنية، من العمل المدني إلى المختبر، من الكفاح الصامت إلى المنابر العالمية.
د. توحيدة عبدالرحمن فتحت الطريق كأول جراحة مصرية،
وفاطمة إبراهيم نقشت اسمها في علوم الذرة،
وياسمين يحيى دخلت ساحات الفيزياء النووية بجائزة عالمية،
فيما مها رشوان تسهّل الحياة للأطفال من ذوي الهمم بتقنية ذكية صممتها لأن ترى من خلالها العقول الصغيرة العالمَ بلون أوضح.
لا تتعامل المرأة المصرية مع التاريخ كمرآة خلفية، بل كمسرح تتحرك فيه، بوعيٍ فطريّ، وكأنها منذ الأزل تعرف أن مسؤوليتها أكبر من أن تُلخّص في مشهد عابر أو خبر عتيق.
الخاتمة: حين تتكلم مصر... تتحدث بصوت نسائها
ربما لم نعرف بعد مصر كاملة، لأننا لم نقرأها بعيون نسائها.
لم نُعِد تأمل الدموع التي انسكبت على طلاب العلم، ولا الأغاني التي غُنيت لتقوية روح الجندي، ولا الحكايات التي رُويت لتحصين الوعي.
مصر التي أنجبت الحضارة، لم تكن أمًّا فقط للأرض، بل أمًّا للأثر، ومَن يُنجب الأثر، لا بد أن يكون جذرًا أصيلًا في وجدان العالم.
إنها المرأة المصرية... الكاتبة الخفية لسِفر الحضارة، وراوية الحكاية التي لا تزال تُكتب، بصوتٍ ناعم، لكنه أقوى من كل ضجيج التاريخ.
فلا أمة تنهض إلا إذا سمعت صوت أنثاها، ولا حضارة تكتمل إلا إذا اعترفت بمن كتبتها من الظل... إلى النور.