القراءة، في جوهرها، ليست مجرّد عبورٍ بين صفحاتٍ ومؤلفين، بل هي رحلةٌ داخل الذات؛ رحلة تصوغُ أذواقنا، وتعيد ترتيب أولوياتنا الفكرية والوجدانية على مهل. فما نختاره من كتبٍ لا يقول فقط مَن نحن، بل يكشف إلى أين نسير.
لكن الذائقة القرائية ليست قالبًا ثابتًا، ولا خيطًا مستقيمًا لا يحيد؛ إنها كائن حيّ ينمو ويتحوّل مع تجاربنا ونضجنا. فمن أحبّ القصص في صغره قد يجد في التاريخ سحرًا حين ينضج، لأن ما كان متعةً خالصةً في البدايات يصبح بحثًا عن المعنى في ما بعد.
فالقارئ الذي كان ينهل من روايات الخيال العلمي في مراهقته، قد يجد نفسه منجذبًا إلى الفلسفة لاحقًا كي يفهم الآثار الأخلاقية لتلك التقنيات التي قرأ عنها. وآخر كان يستمتع بالأساطير الشعبية، فإذا به مع مرور الزمن يغوص في كتب علم النفس بحثًا عن تفسير لدهشة الطفولة الأولى.
ولعلّ أجمل ما في الذائقة القرائية أنها مرآةٌ لصراع الإنسان بين الثبات والتحوّل. فبينما يصرّ البعض على تصنيف الكتب وفق قيمتها أو نوعها، يرى آخرون أن القيمة لا تكمن في ما نقرأ، بل في كيف نقرأ.
فقد يقرأ أحدهم رواية بوليسية بسيطة فيستخلص منها درسًا في المنطق، بينما يقرأ آخر كتابًا فلسفيًّا عميقًا فلا يتجاوز سطوح المصطلحات. إن عمق التلقي لا يرتبط بصعوبة النص، بل بوعي القارئ في قراءته.
وفي واقع القراءة اليوم، يبدو أن كثيرين لا يزالون يقيسون الذوق بمعيار التباهي أو المكانة، لا بمعيار الفهم والمتعة. ولعلّ هذا الميل إلى رفض أذواق الآخرين لا ينبع من الأفراد وحدهم، بل يعزّزه أحيانًا خطابٌ ثقافيٌّ وإعلاميٌّ يروّج لهرميةٍ في الأنواع الأدبية، فيُقصي بعض القرّاء بحجة “قلة العمق” أو “سطحية الاهتمام”.
لكن الإقصاء في عالم الأدب لا يقلّ قسوةً عن الإقصاء في السياسة أو الفكر. وربما تكون الخطوة الأولى نحو تجاوزه هي أن نسأل الآخرين عمّا أحبّوه في كتبهم، لا أن نحاكمهم على ما قرأوه. فالحوار الأدبي الصادق يُهذّب الذائقة أكثر من الأحكام المسبقة.
لقد تناول عدد من المفكرين هذه المسألة من زوايا مختلفة. فـ"بيير بورديو" في كتابه «التمييز: نقد اجتماعي للحكم على الذوق» يرى أن الذوق لا ينفصل عن البنية الاجتماعية والثقافية، بل هو انعكاس لرأس المال الثقافي وموقع الفرد الطبقي. بينما اعتبر "أرنولد بينيت" في «الذوق الأدبي وكيفية تكوينه» أن الذوق يمكن تهذيبه بالمطالعة الواعية والانفتاح على الأدب الراقي. أما الباحثة "جانيس رادواي" في دراستها «إحساس بالكتب»، فقد ربطت الذائقة القرائية بعلاقات السوق والثقافة الاستهلاكية.
إن هذه الأطروحات المتباينة – من رؤية بورديو الاجتماعية إلى تأكيد بينيت على الذاتية – تفتح الباب للتساؤل:
هل ما زلنا نحاكم أذواق الآخرين بمعاييرنا الخاصة؟
أم آن الأوان لأن نعترف بتعدّد مسارات القراءة واختلاف مقاصدها بين من يبحث عن المعرفة، ومن يلجأ إليها للراحة أو الهروب أو التأمل؟
في النهاية، ليست الذائقة القرائية معيارًا للتفاضل، بل مرآةٌ لرحلة الإنسان في البحث عن نفسه بين الكلمات. فكل قارئٍ يحمل في طيّات اختياره حكايةً عن زمنٍ، ومزاجٍ، ووعيٍ، وتجربةٍ لا تشبه غيرها.





































