هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • المتحدثون عن الله ورسوله
  • قصة قصيرة/.المنتظر
  • قصتان قصيرتان جدا 
  • سأغير العالم
  • كيف تعلم أنك وقعت في الحب؟
  • التأجيل والتسويف
  • فأنا لا انسى
  • احترام التخصص
  • 2- البداية المتأخرة لرعاية الفنون والآداب
  • يعني إيه "الاحتواء"؟
  • يا عابرة..
  • رسائل خلف السحاب
  • صادقوا الرومانسيين
  • ربي عيالك ١٠
  • من بعدك، كلامي بقى شخابيط
  • إيران من الداخل بعد الحرب.. 
  • معضلة فهم الحرب على إيران
  • نصر سياسي ايراني
  • قصة قصيرة/ وصاية الظل
  • ق ق ج/ سرُّ الشجرة والقوس
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة نجلاء لطفي
  5. عشقت أجنبيا - الجزء الثالث

الفصل السابع

جلست في غرفتي أبكي وأنا أسترجع كل حياتي، فكلها كانت آلام وأحزان حتى عندما تخلصت من آلامي وبدأت حياة جديدة وكلي أمل وتفاؤل ،وجدت ذلك الضخم يقتحم حياتي ويحولها إلى جحيم بشكوكه وسوء ظنه، وكأن في كل مرحلة من حياتي لابد أن يظهر شخص ما ليتسبب في تعاستي، وذلك الضخم بالتأكيد هو رجل تلك المرحلة.

اتصلت بي ميسون ووجدتني أبكي فلم تسألني عن السبب بل طلبت مني أن انتظرها فستحضر الطعام لنتناوله معا فزوجها سيبيت اليوم بالمستشفى. كنت فاقدة للشهية وفي أشد الحاجة للحديث معها، فقمت واغتسلت وصليت فرضي وجلست أقرأ القرآن لعل قلبي يهدأ وروحي تستكين. جاءت ميسون ومعها نوع البيتزا المفضل لي وجلسنا نتناول الطعام ،وهي تحكي لي عن حياتها وعملها وحملها الذي طالما انتظرته وسعدت به كثيرا لكنه فتح شهيتها وجعل وزنها يزداد، وضحكنا معا وبعد الطعام اعددت كوبين من الشاي وقالت لي:

-هيا أحكي لي عن أحوالك أنا اسمعك

فحكيت لها عن عملي وعن چون ذلك الضخم وابنته ليزا وعن عنصريته وسوء ظنه بي، وهي تستمع في هدوء وبعد أن انتهيت قالت لي:

-اختلاف العادات والثقافات بيننا وبينهم كبير، فهم لا يحبون أن يلمس أحد أطفالهم وإن كان لابد فيجب أن توضحي لولي أمر الطفل ما فعلتيه وسببه، أما أن تقولي لها هذا سرنا الكبير فمعناه أنك ترتكبين خطأ وترغبين في إخفاؤه، لذا ثار عليك، أما عن عنصريته البغيضة فلا تسكتي عليها مرة أخرى، وتعاملي معه بحزم فما بينكم مجرد عمل ليس أكثر

ثم سكتت للحظات وقالت بتساؤل:

-من يرى مدى ألمك من فعلته يظن أنك تضعينه في مكانة معينة ولم تتوقعي منه ما فعله، فهل ذلك صحيح؟

فقلت بذهول:

-أنا وذلك الضخم؟ أبدا لكن كل ما يؤلمني أنه كلما التقينا في موقف يُسيء الظن بي وكأني شخص سئ بالفعل.

فقالت :

-و أنت لا تريدين أن يراك سيئة؟ هل هو مهم لتلك الدرجة؟ هل لو كان غيره أكنت ستهتمين؟

سكت للحظات وقلت لها:

-لن اكذب عليك كنت دائما معجبة بطريقة تعامله مع زوجته وابنته بل كنت احسدهما عليه، لكني فوجئت بتعامله الفظ معي.

فنظرت إلى ميسون وقالت مُحذرة:

-هو يعاملهما بلطف لأنهما تخصانه أما أنت فغريبة عنه ومختلفة في الدين والثقافة فطبيعي أن يتعامل معك بتشكك وحذر، فاحذري أنت تهتمين به وبرأيه فيك وبردود أفعاله أكثر مما ينبغي، لا تتركي نفسك للوقوع في فخ الاهتمام والتعود.

نظرت إليها بصمت ولم أجب، فيبدو أنها مُحقة فأنا أمنحه اهتماما أكبر مما امنحه لغيره. انصرفت ميسون وكلامها مازال يدور في عقلي، حقا لقد تعلقت بالصورة التي رأيتها من نافذتي وتمنيت أن يعاملني زوجي مثلما يفعل ذلك الضخم مع زوجته، كما ظننت أنه سيتعامل معي برفق كما يتعامل معها، لكن حقا أنا مُخطئة ويجب من اليوم أن أغير طريقة تعاملي معه وأقلل من سقف توقعاتي منه. اتصلت بي مديرة الحضانة وأخبرتني بحديثها معه وأوضحت لي خطأي فاعتذرت عنه ووعدتها ألا يتكرر مني مرة أخرى، وطلبت منها أن أحصل على أجازة في اليوم التالي لأني أشعر بتوعك فأخبرتني أن زميلتي التي تحل محلي في أجازة بسبب مرض طفلها، فوعدتها بالحضور. لم أكن مستعدة نفسيا بعد لملاقاة ذلك الضخم والحديث معه بعد ما حدث بيننا اليوم، بل وكنت أخترع الأسباب للهروب من مواجهته لكني فشلت.

قررت أن أخرج من عزلتي فوجودي بين تلك الجدران يجعلني أفكر فيما حدث وأعيد البكاء، فارتديت ملابسي وقررت أن أذهب إلى المحل الكبير القريب مني الذي يحتوي على بضائع عديدة ،وأشتري ما ينقصني فقط لأتخلص من ذلك التفكير الكئيب وأدخل بعض السعادة على قلبي، فما من شئ يسعد المرأة ويُنسيها همومها مثل التسوق.

كان الجو شديد البرودة لكني لم أهتم فغطيت وجهي جيدا وارتديت معطف واقي من المطر وذهبت إلى المحل وبدأت أطوف بجنباته أتأمل المعروضات بلا هدف، وقضيت وقتا طويلا في قسمي الملابس والتجميل دون أن أشتري شيئاً ولكتي كنت سعيدة برؤية كل ما هو جديد، وعندما شعرت بالانهاك ذهبت لقسم البقالة لشراء ما ينقصني ثم عدت إلى البيت وأنا أحسن حالا. بدلت ملابسي وغرقت في النوم من شدة إرهاقي.

استيقظت في الصباح وكلي عزيمة على ألا أجعل من أحد أيا كان أن يجعلني أشعر بالإحباط ، اغتسلت وصليت وارتديت ملابسي ونزلت مُسرعة إلى عملي وعلى باب البيت سمعت صوت ليزا وهي تناديني:

-ندى ندى

فالتفت إليها فوجدتها بصحبة والدها فابتسمت لها وقلت:

-صباح الخير يا ليزا

-صباح الخير يا ندى

فقال چون:

-صباح الخير هل ترغبين في ركوب السيارة معنا فطريقنا واحد؟

فلم أنظر إليه وقلت له بحدة:

-شكرا لك ولكني أريد أن أمشي

واستأذنت قبل أن يضيف كلمة أخرى ففوجئت به ينزل من سيارته ويقول:

-من فضلك انتظري

فتوقفت والتفت إليه وقلت بجدية:

-نعم ماذا تريد؟

فقال بارتباك ظاهر:

-أعتذر عما قلته من قبل بخصوص العرب والمسلمين، وأعتذر عن سوء ظني بك لكني تعرضت لمواقف لم أتوقعها جعلتني أتشكك في كل شئ.

سكت للحظات فقال مبتسماً :

-أتمنى أن تقبلي اعتذاري

وكأن ابتسامته كانت بمثابة الشمس التي بددت ظلمات الليل وملأت قلبي نورا ودفئا فازدادت خفقاته، أدركت ما أحدثته بقلبي تلك الابتسامة الساحرة فغضضت بصري عنه سريعاً وقلت بجدية:

-لقد قبلت اعتذارك وأعتذر أنا أيضا عن تصرفي مع ليزا بدون إذنك أو إخبارك بما فعلته

فقال بهدوء ماداً يده لمصافحتي :

-أرجو أن تكون تلك بداية جديدة بيننا وتنسى الماضي

فقلت بارتباك وأنا أنظر ليده الممدودة:

-عفوا أنا لا ألمس أي رجل غريب عني فديني يمنعني من ذلك، لكنها حقا بداية جديدة.

تركته وانصرفت وأنا لا أعرف لماذا يخفق قلبي بشدة منذ أن ابتسم لي، لابد أن أجعل حديثي معه في أضيق الحدود وأنا أغض بصري عنه حتى لا تؤثر بي وسامته ،فرغم ضخامة جسده وعضلاته، إلا أنه وسيم الملامح بشعره البني الناعم وبشرته البيضاء وعيونه الزرقاء وابتسامته الساحرة ، لذلك لابد أن اتجنب لقاؤه كثيرا والحديث معه فأنا أشعر أنه مصدر خطر على قلبي.

وصلت  إلى الحضانة ودخلت بسرعة حتى لا ألتقي به مرة أخرى فيلاحظ اضطرابي، لكنه أرسل من تستدعيني ليخبرني أنه طوال الأسبوع سيترك ليزا معي بعد مواعيد الحضانة لأن لديه تدريبات مهمة، فوافقت وطلبت منه أن يعد لي في الغد قائمة بالأطعمة التي يرغب أن تتناولها ابنته، فقال لي لا شئ محدد مجرد طعام صحي لا أكثر.

ظلت العلاقة بيننا شبه رسمية لمدة أسبوع أتلقى منه ليزا في الصباح وأسلمها له على باب العمارة مساءاً ،والكلام بيننا محدود وشبه رسمي لكنه في اليوم الأخير طلب مني أن يترك ليزا معي يومي السبت  والأحد لمدة ساعتين في كل يوم وسيضاعف لي المبلغ كما هي العادة فوافقته ولم أعترض، لكني استأذنته في تحميمها  فوافق فطلبت منه أن يرسل معها ملابس نظيفة.

جاءت ليزا يوم السبت ومعها حقيبة ملابسها وكنت انتظرها أمام باب العمارة كالعادة، فلم أكن أسمح له بالصعود إلى شقتي فأنا مازلت أخاف من الجميع ولا أثق بأحد،ألقيت عليه تحية فاترة دون أن أنظر إليه ثم اصطحبت ليزا وصعدت إلى شقتي ،و اخذتها لتستحم وتبدل ملابسها وعلمتها كيف تغسل جسدها وشعرها وتركتها لتجربة ذلك حتى تعتمد سريعاً على نفسها، ونبهتها ألا تسمح لأي أحد بلمس جسدها ،فقالت لي أن والدها نبهها لذلك أيضاً ولكن صديق والدتها كان يتعمد لمس جسدها فكانت ترفض وتحاول الهروب منه، فكان يدخل خلفها إلى غرفتها ويكمم فمها عندما تحاول أن تصرخ ولكن أمها اكتشفت ذلك فصارت تحبسها في غرفتها عندما يحضر وتعطيها دواء قبل حضوره فكانت تنام ولا تشعر بشئ وهددتها إن أخبرت چون ستتركها تنام بمفردها في الظلام وتغلق عليها الباب بالمفتاح، كنت أشعر بغضب عارم وأرغب في تمزيق أمها بأسناني فقد وصلت باستهتارها إلى الحضيض، وعرضت طفلة صغيرة مثلها لتجربة سيئة ستترك أثرأ مؤلما في نفسها لباقي حياتها، أي أم تلك؟!

جففت جسدها وشعرها وارتدت ملابسها ،وجلسنا لتمشيط شعرها الذهبي الناعم وصنعت لها جديلتين، ثم خرجنا إلى  المطبخ لنصنع غداءنا، فأخبرتني أنها تحب المكرونة فوعدتها أن أعدها لها في الغد، أما اليوم فسنأكل السمك المقلي بالطريقة المصرية فامتعضت وقالت:

-يا ندى أنا لا أحب السمك؟

فقلت باندهاش:

-لماذا يا صغيرة إنه مفيد جدا وسيجعلك تكبرين بسرعة

فقالت باشمئزاز:

-لأن الأشواك تقف في حلقي دائما

فقلت بتشجيع:

-سأنظفه من كل الأشواك وإن لم يعجبك طعمه سأصنع لك طعاما أخر

وافقت وأعددت السمك وجلسنا لنتناول الطعام وانتزعت كل الأشواك منه ووضعت في طبقها اللحم فقط، فتناولته بشهية و أنهت طعامها، ثم جلست تلون بعض الصور بينما كنت انظف اطباق الطعام، عندها رن جرس هاتفي فوجدته چون فقلت له:

-انتظرني خمس دقائق وسأنزل بها إليك

 فقال بتذمر:

-يمكنني الصعود لاصطحابها فلا ترهقي نفسك

فقلت له بجدية:

-أنا لا اسمح لأي رجل الصعود إلى شقتي لأي سبب

فقال ساخرا:

-ولا حتى عمال التوصيل؟اعتبريني أحدهم وأظن أنك تعرفين أني دافعت عنك سابقا ولا خوف مني.

قلت بحسم:

-أنت تضيع وقتك بهذا الجدال انتظرني خمس دقائق

وقبل أن أغلق سمعته يقول:

-قصيرة لكنها جبارة

ابتسمت بسخرية فهو لا يعرف كم انا ضعيفة ووحيدة وخائفة. ارتديت ملابسي وجمعت أشياء ليزا واصطحبتها إلى مدخل العمارة حيث كان واقفا أمامها فلما رآنا ابتسم وحمل ليزا وقبلها وقال لي:

-شكرا لتعبك معنا

اومأت له برأسي وهممت بالانصراف فقال لي وهو يترك ليزا خلفه :

-إن أراد شخص بحجمي وقوتي اقتحام شقتك لن يقف أمامه أبواب ولا تحذيراتك الواهية، لكني لا أهاجم النساء فلا تخافي مني.

فتراجعت خطوة للخلف واستجمعت شجاعتي وقلت بحسم:

-أعلم أنك اقوى لكني أحب أن اضع حدود لأي تعامل مع الغير، ولا أسمح بتجاوزها فإما أن تحترم رغبتي أو تنهي تعاملنا

فنظر إلي وقبل أن يقول أية كلمة قالت ليزا:

-أبي أرجوك لا تُغضب ندى فأنا أحبها..أتدرى؟ لقد أكلت السمك معها اليوم وأحببته.

فنظر إلي متعجبا وقال:

-حقا؟ لقد قمت بمعجزة فأنا أحاول عدة مرات ولكني فشلت

فقلت ساخرة:

-القوة لا تنفع دائما فهناك ضعفاء قصار القامة يملكون مواهب لا يمتلكها الضخام الأقوياء، إلى اللقاء يا ليزا.

انصرفت وتركته مبتسماً تلك الابتسامة التي تجعل قلبي يخفق بقوة.

حاولت أن اشغل وقتي فقمت بتنظيف الشقة ثم ذهبت إلى المركز الإسلامي من أجل درس حفظ القران، وبقيت بعدها اتحدث مع ميسون التي كانت تنتظر زوجها، ثم ركبت معهما سيارتهما ووصلنا حتى بيتي وشكرتهما كثيراً، ثم صعدت إلى  البيت الخالي البارد أجتر أحزاني وآلامي وحدي، فعندما كنت أعيش مع أبي بين إخوتي في بلدي كنت أشعر بالوحدة، وكذلك عندما تزوجت لم يفارقني ذلك الإحساس، وحتى الآن عندما حصلت على حريتي وأصبحت الوحيدة المتحكمة في حياتي مازالت الوحدة تعصف بروحي، فمتى يا رب أجد الصحبة والدفء والسكينة؟ يارب أنت تعلم أني أحتاجهما بشدة فارزقني دفء الأسرة.

في اليوم التالي استيقظت متأخرة فقد جافاني النوم بعد صلاة الفجر، وبمجرد أن اغتسلت اتصل بي چون من أجل ليزا فوضعت الإسدال فوق ملابسي ونزلت مُسرعة إلى أسفل العمارة فوجدته ينتظرني مع ليزا الغاضبة فقلت لهما:

-صباح الخير

فنظر إلي متفحصا وقال بتعجب:

-ماذا ترتدين؟ هل تمارسين طقوسا معينة تحتاج إلى زي خاص؟

فنظرت إليه بغضب وقبل أن أجيب قالت ليزا:

-لا يا أبي هذا زي الصلاة الخاص بندى

ثم نظرت إلي وقالت:

-انظري إلى شعري يا ندى لقد فشل أبي في عمل الجدائل التي أريدها

فأمسكت بيدها وقلت لها:

-لا تغضبي سأصفف لك شعرك كما تريدين

ثم نظرت تجاهه بسخرية وقلت:

-الأولاد لا يجيدون سوى الصراخ واستعراض عضلاتهم أما الأعمال المفيدة فلا تجيدها إلا البنات

فرفع حاجبه متعجبا عندما قالت ليزا:

-حقيقي فكل الأولاد في الحضانه يجيدون العراك ولا يعرفون كيف يربطون الحذاء

فضحكنا معا وتركناه غارق في ذهوله، وصعدنا لشقتي وجلست مع ليزا لأصفف شعرها في جديلتين، ثم طلبت مشاهدة الكارتون الذي تحبه ففتحت لها التليفزيون حتى صنعت كوبا من الشاي مع إفطار سريع، وجلست بجوارها فوجدت الكارتون يروج لأفكار إباحية فقلت لها بهدوء:

-ما رأيك يا ليزا أن تري الكتاب الجديد الذي أحضرته فهو مليء بالحكايات الجميلة؟

فقالت بفرح :

-هيا بنا فأنا أحب الحكايات كثيرا وأجعل أبي كل يوم يحكي لي حكاية.

فأغلقت التلفزيون وأحضرت كتابا ملونا وبدأنا القراءة ، وبعد أن انتهيت جلست للتلوين وذهبت لإعداد الطعام، وقبل أن تنناوله دق جرس الهاتف فأخبرني چون أنه بالاسفل فطلبت منه أن ينتظرني خمس دقائق وحرصت على ارتداء أجمل ملابسي ونزلت مع ليزا فقال مبتسماً:

-هل تخليتي عن زي الصلاة من أجلي؟

فقلت بغضب:

-من أجلك انت؟ بالطبع لا فأنت لم تخطر في بالي أصلاً ولكني سأذهب للتسوق بعد الغداء، ليزا لم تتناول غداءها بعد.

فقال:

-لا تقلقي سنتناوله في الخارج وشكرا لك على هذا المجهود وأعدك أن ترتاحي أخر هذا الأسبوع حيث تحدد موعد البطولة.

فقلت بهدوء وأنا اتجنب النظر إليه:

-بالتوفيق عن إذنك

وعندما هم بالانصراف فقال:

-لم لا تأتين لتناول الطعام معنا؟

فالتفت إليه وقلت بحسم:

-شكرا لك ولكني لا أخرج مع شخص غريب عني وحدنا

فقال بمشاكسة:

-ولكننا لسنا وحدنا معنا ليزا

فقلت وأنا أنصرف بحسم:

-شكرا لدعوتك وأعتذر عن قبولها

صعدت إلى شقتي وأنا خائفة من ذلك القرب فأنا لا طاقة لي بالتعلق والصدمات مرة أخرى.ظل ذهني مشغولا بابتسامته وكلماته حتى أني لم تعد لدي الرغبة في تناول الطعام،فقررت أن اشغل نفسي بنزهة في المنتزه القريب من البيت فارتديت حذاء رياضي لأمارس رياضة المشي فربما بذل الجهد يشغل ذهني عن التفكير فيه.

بالفعل نزلت إلى المنتزه القريب وبدأت أمشي في المسار المحدد لممارسة الرياضة،بعد نحو نصف ساعة شعرت بالتعب فجلست بجوار إحدى البحيرات وشعرت بالجوع وتذكرت أني لم أتناول غداءي فقررت أن أذهب بعد قليل للتسوق ثم أعود إلى البيت لأتناول طعامي وأقرأ حتى موعد النوم.

وقبل أن اتحرك من مكاني فوجئت بليزا تنادي علي وهي تلوح لي بيدها،فخفق قلبي فمن أهرب من التفكير فيه أمامي الآن بابتسامته الساحرة وقوامه الرياضي الضخم، فكرت في ضرورة الانسحاب لكن اندفاع ليزا نحوي بفرحة جعلني أرتبك وقالت لي بفرحة:

-ندى أنا سعيدة بوجودك هنا فأنا أريد أن ألعب في لعب الأطفال هناك ،وأبي لا يسمح لي كما أنه كبير جدا ولا يستطيع اللعب معي، فتعالي أنت صغيرة يمكنك ركوب الحصان معي هيا بنا

لم تترك لي الفرصة للقبول أو الرفض بل جذبتني من يدي، ولم أستطع خذلان تلك المسكينة عندما حانت أمامها فرصة للسعادة،فاستسلمت لرغباتها وركبت معها كل اللعب ،وكم شعرت بالسعادة لسعادتها ولأني لأول استمتع بطفولتي التي حُرمت منها بسبب أسرة لا تعرف الرحمة ولا معنى السعادة. كانت ليزا تصرخ بوالدها ليلتقط لنا الصور بواسطة هاتفه  وبالفعل كان يفعل ذلك مبتسماً وسعيدا من أجلها. طلبت ليزا دخول لعبة للصغار فقط يقفزون فيها على مراتب مخصصة لذلك،فكان لابد أن تدخل بمفردها، فجلست على أريكة في مواجهتها لأراقبها ،ففوجئت بچون أحضر لي كوبا من القهوة مع قطعة حلوى فشكرته وتناولتها بصمت وأنا مرتبكة من جلوسه بالقرب مني، وبعد لحظات صمت قال:

-يبدو أنك استمتعت بالألعاب

فقلت بصدق :

-فعلا استمتعت كثيرا

فقال بتساؤل:

-ألا تشعرين بالحنين إلى وطنك وأهلك وطفولتك؟

فتبدلت ملامحي للحزن وقلت بدون تفكير:

-لا نهائياً

فقال بتعجب:

-لماذا؟

فنظرت إليه ولم أجب فقال:

-أنا أعرف أن الشرقيين وخاصة المسلمين لا يتركون نساؤهم بمفردهن في الغربة وخاصة وإن كن متمسكات بالدين والتقاليد الشرقية مثلك، لذلك تعجبت من حياتك هنا بمفردك

فقلت بأسى:

-لم أكن هنا بمفردي، إنما جئت من أجل زوجي

فقال باهتمام:

-وأين هو؟ لم يتركك بمفردك؟

فظهرت علامات القهر على وجهي وقلت:

-حصلت على الطلاق منه وسافر

فقال بشفقة:

-ألا ترغبين في العودة إلى أهلك ووطنك؟

فقلت بسرعة:

-لا أنا هنا أفضل

فسكت قليلاً ثم قال بحزن:

-ألا ترين أننا متشابهين؟ لكن أنا لدي أسرتي يعيشون في الريف وأحبهم ويحبونني لكني لم احب الحياة هناك

فنظرت إليه وقلت:

-لكل منا قصته وأحزانه

فنظر إلي نظرة جعلت قلبي يخفق بشدة ،وقبل أن يقول أية كلمة سمعت صوت ليزا تنادي علي فنهضت إليها مسرعة، وساعدتها في إعادة ملابسها لشكلها الصحيح بعد اللعب والقفز، ثم نظرت إلى چون باضطراب وقلت  :

يجب أن انصرف الآن شكرا على الوقت اللطيف والقهوة والحلوى

فقال بهدوء:

-تعالي معنا فطريقنا واحد

نظرت إليه وقلت بحزن:

-للأسف طريقنا ليس واحد

ثم استدركت وقلت بسرعة حتى لا يفهم مقصدي:

-أنا سأذهب للتسوق أولا وأريد أن أمشي قليلا قبل غروب الشمس.

تركته ومشيت والدموع تتجمع في عيني، فكل يوم يزداد تعلقي به ولكن بلا جدوى، فنحن من عالمين مختلفين تماما كقطارين طريقهما مختلفان لكن ربما نلتقي في إحدى المحطات ثم نفترق.

ذهبت للتسوق بذهن غائب فلم أعرف ماذا أشتري فوجدت نفسي أقف أمام مجموعة قصص للأطفال بسعر رخيص، فانتقيت منها المناسب، واشتريت بعض احتياجات البيت ثم عدت إلى شقتي حيث الوحدة والبرودة وقبل أن أخلع ملابسي فوجئت باتصال من أحد إخوتي على الماسنجر فأدركت أن أبي يريد شيئا فأجبت بلا روح:

-نعم

فقال أخي الكبير:

-ندى أبوك مريض بشدة ألن تأتي لرؤيته؟

فقلت ببرود:

-لا فإن خرجت من هنا لن أستطيع العودة

فقال بغضب:

-لا يهم أن تعودي تعالي لتعيشي معنا أم نسيتي أن لك أهل وتريدي أن تعيشي بحريتك؟

فقلت بحدة:

-اسمع لن أسمح لأحد منكم بالتدخل في حياتي أو فرض رأيه علي مرة أخرى ألم تكتفوا بعد؟

فتمالك نفسه وقال:

-على الأقل أرسلي لنا مال لعلاج أبيك

فانفجرت كالبركان وقلت:

-الحكاية هكذا في البداية عودي، وعندما رفضت أرسلي مالا، لكن لم يفكر أحد أن يسأل عن حالي أو كيف أعيش وماذا أعمل ومن أين أحضر المال، استمع إلي جيدا لأخر مرة أنتم المفترض أنكم رجال كما قالت الحكومة في أوراقها الرسمية لذلك فأنتم المسؤولون عن والدكم ولست أنا، كما أن والدك المصون عندما باعني كما باع غيري كثيرات، قبض مبلغاً كبيراً فاسأله أين يدخر أمواله، وأيضا عندما طلبت الطلاق أراد أن يبيعني مجددا لأني في نظره لست ابنته بل مجرد سلعة، فلا يطالبني أحد بأية التزامات ، فأنا بالكاد يكفي راتبي للسكن والطعام، لكني حرة وسعيدة بعيدا عنكم وعن قسوتكم وطمعكم.

أغلقت هاتفي وانهرت باكية، فلا أحد يهتم بي ولست بالنسبة لهم سوى وسيلة لجلب المال، أما الحب والخوف علي فليس لهما وجود في قاموس تلك الأسرة. جففت دموعي ودخلت الحمام لأغتسل لعل الماء الساخن يهدئ من أعصابي، وخرجت وصليت وبكيت بين يدي الله وطلبت منه بإلحاح أن يرزقني بمن يحبني ويصونني وبأسرة تملأ حياتي دفء ومحبة.

وعندما عدت إلى العمل وعندما أحضر لي چون ليزا فرحبت بها وتركتها تدخل مع اصحابها ثم قلت له:

-اسمح لي أسألك أليس لك أسرة؟ والدين أو إخوة؟

فنظر إلي بتعجب وقال:

-نعم لدي أسرة كبيرة يعيشون في الريف ولكن لماذا؟

فقلت بجدية وأنا أريه ما رسمته ليزا:

-انظر إلي رسومات ليزا دائما ترسم الاطفال لديهم أسرة كبيرة وترسم نفسها بمفردها أو معك، وقربها مني بحكم ظروف عملك جعلها تتمسك بي لأني أعوضها ما ينقصها ،ولو ابتعدت لأي سبب سيسبب ذلك لها أزمة نفسية، فإن كانت لك أسرة حاول أن تذهب إليهم في الأجازات حتى ترتبط  ليزا بهم وتشعر أنها مثل غيرها لديها أهل فتشعر بالأمان.

نظر إلي للحظات ثم قال:

-أنت ذكية جدا لتلاحظي ذلك

فقلت له:

-أنا متخصصة في تلك المرحلة العمرية ، كما أني أقرأ كثيرا في مجال علم نفس الأطفال.

فقال بخبث:

-وهل هذا الاهتمام لكل الأطفال أم أنه خاص بليزا فقط؟

فقلت له بحزن:

-أهتم بهم جميعا لكن ليزا تذكرني بنفسي فأنا فقدت أمي أيضاً في سن صغيرة وكنت أتخبط بحثاً عمن يعوضني غيابها، لذلك أشعر بها جيداً.

ثم تمالكت نفسي وقلت له بجدية:

-اعتقد أني كنت سبب لتأخيرك عن عملك فاعتذر عن ذلك.

تركته وانصرفت لأمارس عملي وذهني مشغول به وبليزا فدعوت الله أن يخرجه من قلبي.

مضى الأسبوع على وتيرة واحدة، بعد مواعيد الحضانة أصطحب ليزا معي إلى البيت حتى يأتي چون لاصطحابها، وفي نهاية الأسبوع طلب مني أن يأتي بها إلي مبكراً يوم السبت لأنه موعد البطولة فوافقت. اتصل بي مبكرا فنزلت وأنا أرتدي إسدالي فقال لي مبتسماً:

-ليزا لم تتناول طعامها فأرجوك اعتني بها

فقلت له:

-لا تقلق عليها وركز في البطولة

فقال وهو ينحني قريباً مني وابتسامته تتسع بعبث:

-ربما لو دعوت لي سأحقق المركز الأول

ابتعدت بارتباك وقلت وأنا أنصرف مصطحبة ليزا:

-وفقك الله.

صعدنا إلى شقتي وحاولت أن اشغل عقلي بليزا ولكن قلبي كان ينشغل أحياناً بچون  ويدعو له بالفوز والهداية، وعقلي يقول لي أن مشاعري تجاهه ليست صادقة بل هي مجرد تعود وعندما نبتعد عن بعضنا سأعتاد غيابه، فهو مختلف عني في الدين والنشأة والعادات، ولا شئ يجمع بيننا.

انقضى اليوم وفي السابعة مساءا اتصل بي چون ليخبرني فرحا بفوزه بالمركز الأول، وقال لي أنه لم يفكر في غيري لتشاركه سعادته بالفوز فخفق قلبي بشدة ولكني تمالكت نفسي وهنأته، فأخبرني أن سيحتفل مع أصدقاؤه ثم سيأتي لاصطحاب ليزا. لم يتصل حتى حان موعد نومها فدثرتها في سريري ونامت، وبقيت أنا مستيقظة أقرأ حتى غلبني النوم.في الحادية عشرة اتصل چون بي وقد كنت مستغرقة في النوم فقلت بصوت ناعس:

-السلام عليكم من أنت؟

فقال معتذرا:

-أنا چون واعتذر عن التأخير فقد أصر الاصدقاء على تناول الخمر معهم فلم أستطع الاعتذار وتركهم، أنا أسفل البيت هلا أحضرتي لي ليزا؟ وإن كنت لا تستطيعين النزول بإمكاني الصعود لاصطحابها.

فقلت بحسم:

-لن أسمح لك بالصعود إلى شقتي وانت مخمور، وكذلك لن أنزل لمقابلتك وأنت مخمور، أترك ليزا معي حتى الصباح عندما تكون في وعيك.

فقال بغضب:

-أنا أريد ابنتي الآن وسأصعد لأصطحبها بالقوة فأنت لن تستطيعي منعي.

فقلت بحدة:

-بل أستطيع لو اتصلت بالشرطة واتهمتك بالتهجم على شقتي، وكذلك عندما يرون أنك مخمور وتستخدم العنف قد ينزعون ابنتك منك، فكر بعقلك ليس من صالح ليزا ان تنزل في ذلك الجو شديد البرودة، ولا أن تأتي معك وانت لست في وعيك.

سكت للحظات ثم قال:

-من أجل مصلحة ليزا فقط لن أسبب المشاكل لكني سآتي في الصباح الباكر لاصطحابها.

فقلت بجدية:

-اتفقنا

انهيت المكالمة وأنا أشعر بالخوف منه فالخمر جعلت منه شخصاً آخر أكثر عنفا، عندها أدركت أننا ليس لنا أي أمل في أن نكون معا فطريقينا مختلفين تماماً.

استيقظت مبكرة وجعلت ليزا تغتسل وتبدل ملابسها ومشطت لها شعرها ولم يتصل، فأعددت لها إفطارها وبعدها جلست لترسم وتلون بينما كنت أرتب البيت. حان موعد الغداء ولم يتصل أيضاً فشعرت بالقلق، فاتصلت به فأجاب بصوت واهن فأخبرته أني انتظره ليصطحب ليزا فأخبرني أنه يشعر بآلام في كل جسده ولا يستطيع أن يتحرك. شعرت بالارتباك ولم أدري ماذا افعل فقلت له:

-هل أحضر لك الطبيب؟

فلم يجب وظل الهاتف مفتوحاً فشعرت بالخوف فارتديت ملابسي بسرعة واصطحبت ليزا معي فأرشدتني إلى بيتهم والطابق الذي يسكنون فيه، واخذتني إلى شقتهم فقرعت الباب بشدة لمدة خمس دقائق بدون إجابة، فخطر ببالي أن اتصل بعمر زوج ميسون لأسأله ماذا أفعل فأخبرني بضرورة الاتصال بالشرطة، وبالفعل اتصلت بهم فحضروا خلال خمس دقائق وفتحوا الباب فارشدتهم ليزا وهي ترتجف إلى غرفة والدها فدخل رجل الشرطة ،وبقيت أنا وليزا بالخارج وكلتانا ترتجف خوفاً من أن يكون أصابه سوء، حتى خرج الشرطي وأخبرني أنه محموم وفاقد للوعي ،واتصل بالإسعاف لتأتي له وسألني عما حدث وعن صلتي به فأخبرته بكل شئ ، فسألني عن أسرته فأخبرته أني لا اعرف عنه شيئاً. حضر رجل الإسعاف و أعطاه بعض الأدوية التي جعلته يسترد وعيه، لكنه مازال واهنا فسألني:

-هل تقيمين معه؟

فقلت بحسم:

-لا لكني جارته وجليسة ابنته

فقال بعملية:

-يحتاج إلى طعام صحي وأن يتناول تلك الأدوية بانتظام على الأقل اليوم.

فقلت بعطف:

-يمكنني تدبر الأمر

أعطاني الأدوية المطلوبة وشعرت بالارتباك فأنا معه بمفردي في بيته ولا أعرف هل هذا صواب أم خطأ، لكنه مريض وليس له أحد ويحتاجني بشدة، وتلك الصغيرة المفزوعة ليس لها سواي. قررت أن أصنع له الطعام واعطيه الدواء ثم اصطحب ليزا لتبيت معي فهي لن تستطيع رعايته ولا هو يستطيع رعايتها.

ضممت ليزا إلى صدري وطمأنتها أني معهما ولن اتركهما، وأنه سيتحسن عندما يتناول طعامه، وطلبت منها أن تساعدني في إعداد الطعام لأني لا اعرف اماكن الأشياء. هدأت قليلا وجاءت معي إلى المطبخ وجلست على المنضدة الموجودة به ،وأخبرتني اماكن الأشياء فوجدت ثلاجته مُنظمة جداً فأعددت له شوربة الدجاج ومعها بعض الخضروات المسلوقة. طلبت من ليزا ان تسبقني إلى غرفته وتحاول أن توقظه، وبالفعل استجاب لها وبدأ ينهض حتى تمكن من الجلوس في السرير، فاستأذنته للدخول فتعجب من وجودي في شقته، فحكيت له بإختصار ما حدث ثم وضعت الطعام أمامه وطلبت منه تناوله، فنظر إلي للحظات ثم قال بوهن:

-لا اعرف كيف اشكرك لقد أنقذتني أنا وابنتي وسأظل مدينا لك

فاعتراني الخجل وقلت:

-أنا لم أفعل شيئاً خارق، فديني وإنسانيتي يحضاني على مساعدة المحتاج، هيا تناول طعامك وهذا هو دواءك وسأتناول أنا وليزا طعامنا في الخارج وإن احتجت شيئا نادني.

اطعمت ليزا وتناولت طعامي ثم استأذنت چون مرة أخرى، ودخلت لأحمل صينية الطعام، ثم سألته أي سائل ساخن يفضل فأخبرني أنه يفضل الشاي فقط فاقنعته أن أصنع له كوبا من النعناع بسبب فوائده العديدة فوافق،ثم غسلت الأطباق بعد الطعام، وصنعت له النعناع واخترت ملابس لليزا لتبيت معي، ثم استأذنت في الدخول فقال متعجباً:

-أكلما أردت الدخول استأذنتي؟

فقلت بخجل:

-أنت رجل غريب عني فيجب أن تأذن لي أولا، الآن تناول النعناع سيمنحك الدفء كما أنه مفيد جدا وأنا سأصطحب ليزا معي إلى البيت، هل تستطيع التحرك بمفردك؟

ابتسم وقال:

-نعم فأنا افضل الآن ويمكنك ترك ليزا معي

فقلت له بحزم:

-سأمر عليك وقت العشاء فإن وجدتك تحسنت سأتركها معك، هذا دوائك ومدون عليه مواعيد تناوله.

تركته وذهبت إلى شقتي وحممت ليزا واغتسلت وصليت فروضي، ثم دخلت إلى المطبخ لإعداد العشاء، ولكني خشيت من قربي منه على قلبي الذي يتعلق به كل يوم عن الآخر، إلا أني لا استطيع أن أتركه في مرضه دون أن أساعده، لكن وجودي معه بمفردنا خطأ كبير. كنت حائرة أتخبط في أفكاري حتى انتهيت من إعداد الطعام فاتصلت به فأخبرني أنه بخير ولكنه مازال غير متزنا، فأخبرته أنه كان محموما بسبب برودة الطقس كما أن الخمر أثرت عليه تأثيرا سيئا كما أخبرني الطبيب. صمت للحظات ثم قال برقة:

-ألن تأتي؟ اقصد أنت وليزا

فسكت للحظات وأنا أتمنى ألا يدرك أني ارغب أن أظل بجواره لباقي عمري، لكن ظروفنا لا تسمح، ثم قلت:

-الجو بارد وأنت مازلت ضعيفا أترك ليزا معي وسأصطحبها معي إلى الحضانة غدا ثم أحضرها إليك، ما رأيك؟

فقال بوهن:

-افعلي ما ترينه صواب ولكني صرت أدين لك بالكثير.

فتجاهلت كلامه وقلت:

-سأرسل لك الطعام مع حارس العقار هل تستطع أن تفتح له الباب؟

فقال متسائلا :

-ألن تأتي؟

فقلت بارتباك واضح في صوتي:

-لا يصح وجودي معك بمفردنا، لقد فعلت ذلك عندما كنت غائبا عن الوعي وضعيف، لكن الآن لا أستطيع لذلك من فضلك تناول طعامك وخذ دواءك، واعتذر عن العمل غدا كما نصح الطبيب.

فقال بخيبة أمل:

-شكرا لكل ما تفعلينه من أجلي.

فقلت بخجل:

-تصبح على خير

ارتديت ملابسي وطلبت من ليزا أن تجلس لمشاهدة الكارتون حتى أعود فوافقت. أعددت وجبتي عشاء ساخنتين ، واحدة لچون والأخرى لحارس العقار، ثم ذهبت ومنحتهما له وطلبت منه أن يعطي واحدة لچون والأخرى له فنظر إلي وتعجب فقلت له:

-الجو بارد وأنت تحتاج لطعام ساخن يمنحك الدفء

فسألني بتعجب:

-لم تفعلين ذلك وأنت لا تعرفينني؟

فقلت له:

-ديني يأمرني بمساعدة الناس وأن أشعر بمعاناتهم وأخففها عنهم.

فشكرني متعجباً، وانصرفت سريعا لخوفي على ليزا ،وعندما عدت إليها رفضت أن تتناول طعامها وبكت لأنها تخشى أن تفقد أباها أيضاً فطمأنتها، واتصلت بچون الذي شكرني على العشاء وطلبت منه أن يتحدث إلى ليزا ويطمأنها، فتحدث إليها لعدة دقائق فتوقفت عن البكاء وبعد المكالمة تناولت طعامها ثم حان موعد نومها فقبلتني واحتضنتني بيديها الصغيرتين وقالت:

-أنا احبك كثيرا يا ندى يا ليتك كنت أمي

أثرت في كلماتها كثيراً فضممتها لحضني وقلت لها:

-لا يمكنني أن أكون امك لكن يمكننا أن نكون اصدقاء، هيا سأحكي لك حكاية جديدة.

حكيت لها حكاية ونامت في منتصفها فدثرتها جيداً وضممتها لصدري فكم أتمنى أن تكون لي ابنة مثلها، فقال لي قلبي كم أود أن تكون هي ابنتي فكلتانا في أشد الاحتياج للأخرى، لكن عقلي يقول ما تتمنينه مستحيل افيقي من أوهامك. غفوت بجوارها من شدة ارهاقي واستيقظت على صوت المُنبه فنهضت واغتسلت وصليت، ثم أيقظت ليزا وارتدت ملابسها ونزلنا إلى الحضانة وقبل أن نصل اتصل بي چون فشعرت بالقلق أن يكون أصابه مكروه فقلت بلهفة:

-هل انت بخير؟

فقال وهو يضحك:

-صباح الخير، لست بخير لأني لم أر ليزا فهل يمكنني التحدث إليها؟

شعرت بالخجل من لهفتي التي فضحت اهتمامي به، واعطيت الهاتف لليزا التي تحدثت إليه بلهفة ثم ابتسمت واعطتني الهاتف فقلت له:

-بمجرد انتهاء موعد الحضانة سأعيدها إليك، لقد تركت لك في الثلاجة طعام الامس يمكنك تسخينه وتناوله.

فقال بهدوء:

-شكرا لك ولاهتمامك

فقلت بخجل:

-أتمنى لك أن تتعافى سريعا مع السلامة.

اصطحبت ليزا إلى الحضانة وعقلي مشغول بچون وألوم نفسي في كل لحظة على تفكيري به، ودعوت الله كثيراً أن ينزعه من قلبي وتفكيري. بعد أن انتهيت أصطحبت ليزا إلى بيتهم فوجدت حارس العقار فطلبت منه أن يصعد بها إلى شقتها، واتصلت بچون وأخبرته أني أرسلت ليزا مع حارس العقار فشكرني كثيراً.

عدت إلى شقتي الخاوية الباردة وإلى حياتي الروتينية، فقد كان وجود ليزا معي يملأ كل حياتي. قررت أن املأ فراغ حياتي بدراسة جديدة حتى تشغل وقتي،فوجدت دراسة على الأنترنت وتكلفتها ليست كبيرة فالتحقت بها لعلها تشغل عقلي عن التفكير بچون وليزا.

الفصل الثامن

تلك الساحرة القصيرة شغلت تفكيري كما لم تفعل غيرها ممن هن أجمل منها، فلم تفتني بجمالها بقدر ما فتنتني بعقلها وتفكيرها وقلبها الحنون، فهي تغمر ابنتي بحنانها رغم أنها ليست من دمها بل ولا من بلدها أو دينها. كما أنها تضع العديد من الحدود بيننا رغم أني أشعر بميلها إلي، والعجيب أنها لا تسمح لي بأي تجاوز لتلك الحدود، ولا أن أعبر لها عن إعجابي أو شكري ولو بكلمات بسيطة.

أما أعجب ما فيها هي أنها لا تطالبني بأي مال مقابل أي عمل إضافي رغم علمي بحاجتها إلى المال لأن إيجارات المنطقة التي نعيش فيها مرتفعة رغم أنها أقل المناطق في لندن وأن راتبها بالكاد يكفي الإيجار والطعام. كنت أمنحها المال مقابل الخدمات التي تؤديها كما كنت أفعل مع صاحبة البيت عندما كانت تستضيف ليزا، لكني لم أعرف كيف أعطيها مقابل المبيت فهو مالم أجربه من قبل، لكني أعطيتها ضعف ساعات النهار ولم ترفض أو تطلب المزيد.

كانت تثير في نفسي رغبتي في مشاكستها بشخصيتها القوية العنيدة، كما أني كنت أحب رؤيتها رغم أنها تغطي كل جسدها ولا يظهر إلا وجهها، لكن رؤيتها لم تكن تمتعني بسبب جمالها، إنما لأني أشعر بالراحة والسكينة بجوارها وأستمتع بالحديث معها حتى لو بسيطا وللحظات.

يبدو أن القدر وضعها في طريقي لتعوضني بحنانها واهتمامها جمود أمي وبرود مشاعرها، وكذلك نذالة ماري رغم كل ما منحته لها فخانتني وكانت تراني غير كافيا، لها فأنا مجرد عامل في مصنع سيارات ودخلي ليس كبيراً، لكنه يكفي احتياجاتنا، لكنها كانت تريد المزيد من كل شئ ولا تكتفي. حاولت أن أقترب من ندى وأجعلها تطمئن إلي وتحطم الحدود تدريجياً، لكنها في كل مرة كانت تصدني حتى ظننت أنها لا تبادلني نفس مشاعري، حتى جاء يوم البطولة وطلبت منها أن تدعو لي فتمنت لي التوفيق فشعرت أنها منجذبة إلي وتشعر بشئ تجاهي لكنها تقاوم. عندما فزت بالبطولة لم أفكر في غيرها لتشاركني فرحتي فاتصلت بها فشعرت أنها بالفعل سعيدة من أجلي فقررت اني في اليوم التالي سأعترف لها بإعجابي بها وأعرض عليها صداقتي وأنا واثق أنها ستستجيب لي. لكني تناولت مع أصدقائي عدة كئوس من الخمر وكنت أشعر بوهن في جسدي، ثم اتصلت بها لأصطحب ليزا إلى البيت لكنها رفضت بحسم بحجة أني مخمور وهددتني بطلب الشرطة إن تعرضت لها، فشعرت بالغضب وفكرت في الصعود إلى شقتها والاعتراف لها بإعجابي وممارسة علاقة معها لنحطم كل تلك الحدود التي تخنقني بها، ثم تراجعت خوفا على ليزا من أن تفزع إن تشاجرنا كما كانت تفعل عندما أتشاجر مع ماري.

فصعدت إلى شقتي والوهن يجتاح جسدي وتشوشت الرؤية أمامي فدخلت إلى حجرتي مسرعا وألقيت بجسدي على سريري وأظلمت الدنيا في عيناي ولم أشعر بنفسي. لك أدر كم مر على من الوقت غائباً في عالم مظلم وكأني أسقط في بئر عميقة حتى مدت إلي ندى يدها وانتشلتني فبدأت أستفيق رويداً، حتى فتحت عيناي فوجدتها تقف بجوار طبيب حقنني ببعض الدواء ويعطيها تعليمات فظننت أني أحلم فمن المستحيل أن تدخل بيتي،لم أعرف إن كان ما آراه حقيقي أم خيال، لكن كل ما أعرفه أن مازال رأسي ثقيلا والرؤية مشوشة أمامي فاستسلمت للنوم مرة أخرى. وأفقت على صوت ليزا وهي توقظني بخوف فاستجمعت كل قوتي وأفقت من غفوتي من أجلها حتى تطمئن، فأخبرتني أن ندى هنا وتريد أن تأتي إلي بالطعام والدواء فأدركت أن ما رأيته كان حقيقي وأنها هنا في بيتي. شعرت بسعادة غامرة وتعجبت من تدابير القدر فقد كنت أريد أن أقتحم شقتها وأجبرها على حبي، فها هي الآن في بيتي ولكني ضعيف جدا ولا أستطيع أن أرفع جسدي إلا بصعوبة.

ذُهلت عندما دخلت وهي ملهوفة وتحمل صينية الطعام ووضعتها أمامي، وأخبرتني في ارتباك واضح أنها هي من أنقذتني عندما قلقت بسبب غيابي عن اصطحاب ليزا، فشعرت بالخزي لأني فكرت فيها بالسوء بينما هي تشعر بالقلق من أجلي وتخالف كل معتقداتها لتنقذني وتساعدني. كما أعجبني ذكاءها وحسن تصرفها وأن الخوف لم يلغِ عقلها عن التفكير فعندما وجدتني لا أجيب أبلغت الشرطة وتصرفت بثبات انفعالي.

تناولت طعامها فوجدته شهيا فمنذ أن تركت بيت أبي لم أتناول طعاما شهيا وساخنا. ظننت أنها ستبقى معي وسأستغل تلك الفرصة لأبوح لها بمشاعري، فاللهفة التي رأيتها في عينيها وكل ما فعلته معي لا يدل إلا على حبها لي وأنها تنتظر مني الخطوة الأولى. لكنها فاجئتني كعادتها برفضها البقاء بجواري طالما استعدت عافيتي بل وستصحب معها ليزا لترعاها، أي امرأة تلك؟ ومن اين لها بتلك القدرة على التحكم بنفسها؟ ألا تريد أن تبقى بجواري وتنعم بحبي واهتمامي؟ لماذا لم تستغل تلك الفرصة لتتقرب مني أو حتى تحضني على الزواج بها؟ الزواج؟ هل هي ترفض أي صداقة لأنها تسعى للزواج؟ لابد أن أقرأ أكثر عن دينها حتى أستطيع فهمها.

كنت أشعر بضعف شديد في كل جسدي بالإضافة إلى الكدمات المتعددة بسبب مباريات البطولة، فتناولت دوائي واستسلمت للنوم وقبل أن أغرق فيه وجدتها تتصل بي حيث ليزا تبكي خوفاً من تركي لها وترفض أن تتناول طعامها فتحدثت إليها وهدأتها وشكرت ندى كثيرا وغرقت في أحلامي التي لم تتركني ندى فيها ،وكنت أراها بين يدي أتمتع بقربها ومشاعرها.في الصباح استيقظت متأخراً فاغتسلت وبدلت ملابسي وتناولت إفطاري وصنعت كوبا من الشاي وفتحت اللاب توب لأبحث عن الإسلام وتعاليمه الخاصة بالنساء حتى أستطيع فهم ندى، فاكتشفت عالم آخر غريب يحد من حرية المرأة ويقيدها بقيود عديدة ففهمت لماذا تبتعد ندى عني وترفض أي قرب، فتعاليم دينها ترفض أي علاقة بين رجل وامرأة بدون زواج، ولابد أن يكون زوجها مسلم.

لم يكن للدين يوماً اثر في حياتي، فأنا مسيحي بالإسم فقط، وأتذكر عندما كنا صغار كانت أمي تجبرنا على حضور الصلاة يوم الأحد في الكنيسة ، لكني لم أصغ يوما لما يُقال. كان يوم الأحد بالنسبة لي بمثابة يوم يتجمع فيه أبناء الجيران من بعد الصلاة للعب واللهو، فكنت أحتمل الصلاة حتى لا تصب علي أمي جام غضبها وحتى أحظى بفرصة اللعب مع اقراني،لكني لم اشغل عقلي يوما بأي دين أو تعاليمه. كنت أؤمن بوجود الله وأنه يحاسبنا على الخير و الشر، لذلك كنت أحرص على عمل الخير ومساعدة الأخرين بقدر الإمكان.

كانت تلك كل علاقتي بالدين، لكن ظهور ندى والتزامها بدينها دفعني إلى البحث عن ذلك الدين ومعرفته، وتذكرت زميلي في العمل أحمد الذي يلتزم بصلاته دائما وكان محل سخرية وتنمر العديد من الزملاء ،لكني كنت أراه حرا يفعل ما يريد طالما لا يؤذي أحدا ولا يعطل العمل.

مر الوقت في قراءتي عن الإسلام وأفقت على اتصال ندى التي تخبرني أنها أرسلت ليزا مع حارس العقار فشكرتها كثيراً على كل ما تفعله معي، وبمجرد صعود ليزا احتضنتها وقبلتها وسألتني بلهفة:

-هل انت بخير يا أبي؟ ألن تموت وتتركني وحدي كوالد ماجي صديقتي؟

ضممتها لصدري وقلت:

-لا تخافي يا حبيبتي انا بخير، فقط يوم البطولة لعبت مباريات كثيرة ولم أتناول طعامي جيداً، مما أصابني بالضعف، المهم احكي لي ماذا فعلت في غيابي.

حكت لي كل ما فعلته ندى من أجلها وأنها علمتها كيف تغسل أسنانها بمفردها وكيف تمسك بالفرشاة لتمشط شعرها، كما أنها تعلمت منها ترتيب ملابسها وألا تتركها ملقاه على السرير أو الأريكة.

اصطحبتها لتناول الطعام ثم جلست بجواري نشاهد التليفزيون وهي تمسك بيدي بقوة وكأنها تخشى أن تتركني، مما جعلني أفكر في كلام ندى إنها تحتاج لأسرة ،فإن أصابني مكروه تجد عائلة تنتمي إليها ويحبونها. فاتصلت بوالدتي بعد طول انقطاع وتبادلنا التحية وسألتني عن أحوالي أنا وليزا فأخبرتها باختصار فطلبت مني أن أحضر أنا وليزا لزيارتها في يومي السبت والأحد فوافقت. رغم رفضي في الماضي تدخل والدتي ذات الشخصية القوية في حياتي إلا أني الآن أشعر أني بحاجة إليها وإلى رأيها، أما والدي فهو موجود وغير موجود، فكل اهتمامه بالعمل ولا يتدخل في شئوننا، بل ويبدو أحيانا أنه غير مهتم، وإخوتي كل منهم منشغل بحياته ولا نتقابل إلا في الأعياد فقط، ورغم كل ذلك التفكك فأنا بحاجة إليهم وإلى وجودي بينهم.

رغم مقابلتي لندى طوال الأسبوع أثناء توصيل ليزا أو اصطحابها، إلا أني لم اتحدث معها في أي موضوع فقد كنت حائرا بشأنها فأنا ارغب بوجودها معي باستمرار وليزا تحتاجها بشدة، وبيننا إعجاب متبادل، لكني أخشى من الفشل في الزواج مرة أخرى، وحتى أتزوجها يجب أن أغير ديني، ورغم أن ذلك لا يسبب لي أية مشكلة لأن لدي استعداد أن أفعل أي شئ لأسعد ليزا، لكني مازلت اتخبط في حيرتي، ففكرت أن أستشير أمي أو أخي الكبير لعلهما يكون لديهما رأي مريح لي.

في نهاية الأسبوع أصطحبت ليزا إلى بيت أبي في الريف، في البداية شعرت ليزا بالخوف من الالتقاء بكل هؤلاء الناس مرة واحدة، فلم تكن تعرف منهم سوى أمي التي رأتها مرة واحدة، لكنها سرعان ما اندمجت مع أبناء إخوتي وخاصة حينما عرض عليها أخي الصغير أن تركب الحصان كباقي الاطفال فوافقت بشرط أن أكون بجوارها، ثم سرعان ما نسيتني واندمجت معهم.

جلست مع أمي على منضدة المطبخ وهي تعد الطعام، بعد أن اعدت لي كوبا من القهوة وسألتني عن عملي وعن حالي وخاصة بعد أن تركتنا ماري، فحكيت لها عن أحوالي وعما فعلته ندى معي ومع ليزا ولم أبح لها بشئ عن مشاعري فأمي لا تعترف بالحب،صمتت قليلاً ثم قالت:

-أليس لك صديقة أو حبيبة بعد رحيل تلك العاهرة؟

فقلت بضيق:

-أرجوك يا أمي لا تتحدثي عن ماري بسوء أمام ليزا لأن نفسيتها تتأثر بشدة.

فلم أنظر إلى وأكملت عملها وقالت:

-إنك لم تجب عن سؤالي؟

فقلت لها:

-لا ليس لدي أحد فكيف آتي بامرأة أخرى في وجود ليزا؟ ومن ستقبل برجل تشاركه فيها طفلة؟

فنظرت إلى بتفحص وقالت:

-أنت تنتظر عودتها؟ أم أنك مازلت تحبها.

فقلت بغضب:

-لا انتظرها ولم أعد أحبها وإن عادت وركعت تحت قدمي لن أقبلها.

فقالت أمي بسخرية:

-وماذا عن تلك الشرقية المسلمة؟ أتراها مناسبة لك ولابنتك؟ هل ستغير دينك من أجلها؟ هل هي تستحق أم أنك سترتكب خطأ أخر بسعيك وراء قلبك ومشاعرك؟

فقلت وأنا أتمالك أعصابي:

-ومن قال لك أني أريدها؟

فقالت بنبرة هازئة:

-لست محتاج لأن تخبرني بمشاعرك، فقدومك إلي وجلوسك معي لتحكي لي عنها ليس له إلا معنى واحد يا صغيري أنك حائر وتحتاج إلى من يساعدك ولم تجد سواي.

فسكت للحظات وقلت لها:

-وما رأيك؟

فقالت بعد تفكير:

-حاول أن تقنعها أن تأتي معك في الأسبوع المقبل

فقلت باندهاش:

-سترفض فهي ترفض وجودها معي بمفردنا

فابتسمت أمي بمكر وقالت:

-أنتم لستم بمفردكم واستغل حبها لليزا لتضغط عليها، فأنا أريد أن أراها على طبيعتها لأحكم عليها.

سكت قليلاً ثم قلت:

-لا اعرف ولكني سأحاول

قطع حوارنا دخول أبي الذي رحب بي واحتضنني ثم تلاه أخواي الأكبر مني فخرجنا إلى غرفة المكتب لنتحدث براحتنا.

استمتعت ليزا كثيراً باللهو مع الأطفال في الحديقة، وبجو الحرية المتاح لها فبإمكانها الدخول والخروج بحريتها فباب البيت الخارجي مُغلق بإحكام ، كذلك وجدت في الحديقة كلب وأسرته وكانت سعيدة باللعب مع الجراء الصغيرة، في نهاية اليوم أخذتها أختي الصغيرة صوفي-مُدللة الأسرة- وحممتها وبدلت لها ملابسها قبل أن تأخذها للنوم معها ولكن ليزا رفضت وأصرت على أن تنام بجواري، فوضعتها في سريري وقبل أن أحكي لها حكاية قبل النوم كانت قد غرقت في النوم فدثرتها جيداً ونزلت إلى الحديقة أتجول قليلاً لعل عقلي يهدأ ويكف عن التفكير. كنت أفتقد ندى وابتسامتها وصوتها الحنون بشدة ولم أكتشف أني تعلقت بها إلى تلك الدرجة إلا عندما ابتعدت عنها. لقد اعتدت على وجودها في حياتي وعلى رؤيتها كل يوم.

وبينما كنت أتجول في حديقة المنزل قابلت أبي أثناء عودته من لقاء الأصدقاء في مقهى القرية، فابتسم وقال لي:

-ما الذي يشغل تفكيرك وسرق النوم من عينيك حتى الآن؟ هل هي امرأة جديدة؟

لم نكن يوماً أنا وأبي أصدقاء ولكني كنت بحاجة إلى البوح، فقررت أن أخبره لعله يفيدني،فأخبرته بحكايتي مع ندى واحتياجي إنا وليزا لها وحيرتي وخوفي من الفشل، فسألني:

-هل تحبها؟

فقلت له بحزن:

-لقد كفرت بالحب فلم أجنِ منه سوى الألم والحزن، لكني أفكر بعقلي لأنها ستلبي احتياجاتي أنا وابنتي

فنظر إلي وقال:

-وأنت ماذا ستلبي لها؟

فسكت ولم أجب فاصطحبني إلى المكتب وأغلق الباب وجلس خلف مكتبه وجلست على كرسي أمامه وقال:

-لقد فكرت في نفسك وفي ابنتك وما تحتاجانه، أما هي فلم تفكر فيها وفي احتياجاتها وهل ستستطيع تلبيتها ام لا، ولم تفكر هل تشعر هي بالقبول ناحيتك أم لا، انت أناني ولا تحبها، أنت فقط تريد استغلالها لمصلحتك، ولا مانع لديك في أن تتلاعب بمشاعرها من أجل تحقيق مصلحتك.

صدمتني كلماته فقد واجهني بحقيقة نفسي، فما الفرق بيني وبين ماري؟ هي أيضاً استغلتني من أجل مصلحتها، وعندما انتهى احتياجها لي غدرت بي وتركتني جريحاً، والآن أنا أفعل نفس الشئ.

نظرت إلى أبي وقلت له:

-ربما تكون محقا فكل تفكيري فيها كان منحصرا في احتياجاتي، لكن هذا لا يمنع أني أفتقدها عندما تغيب،وأفكر فيها كثيرا، بل وأراها في أحلامي، وأسعد كثيراً بقربها والحديث معها ومشاكستها.

لم أتخيل يوماً أن أعترف بكل تلك المشاعر التي أكنها لندى لأي شخص، لكني وجدت أبي يبتسم ويخرج لي من درج مكتبه صورة قديمة له وهو شاب في بداية العشرينيات مع فتاة شقراء نحيفة والحب ظاهر في عيونهما، فقلت له:

-من هذه يا أبي؟

فابتسم وأغمض عينيه للحظات وقال:

-هي حب عمري الذي أضعته بمنتهى الغباء، كانت زميلة الدراسة في المدرسة الثانوية وكنا نهيم بعشق بعضنا، واتفقنا على استكمال دراستنا الجامعية في لندن،حلمنا كثيراً بالمستقبل وخططنا لكل كبيرة وصغيرة فيه، وبمجرد انتهاء الدراسة ونجاحنا أصر أبي أن أترك حلم الجامعة وأن أعمل معه في المزرعة لأتحمل مسئوليتها وخاصة وأني ابنه الأكبر ووريث تلك المزرعة بعد وفاته، فحاولت أن أقنعه أن أساعده في الأجازات مقابل أن يتركني في أوقات الدراسة فرفض بشدة وأصر على رأيه،بل وهددني بطردي من المزرعة وحرماني من الميراث إن سافرت للدراسة في لندن، فاستجبت له على أمل أن يتراجع وودعت حبيبتي ووعدتها أن أحاول إقناع أبي، لم يقتنع هو بل أغرقني في العمل ومسئولياته حتى نسيت حلم الدراسة الجامعية، ومضى العام وقد بدأت أجيد كل أعمال المزرعة  وأحلم بإقناع أبي بتحقيق حلمي، لكنه فاجئني برغبته في ضم المزرعة المجاورة إلى مزرعتنا، ولكن صاحبها رفض بيعها إنما وضع شرط زواجي من ابنته مقابل أن يضم المزرعتين معاً، رفضت وأخبرته أبي أني أحب فتاة أخرى ولا أفكر في الزواج من غيرها،فسخر مني ومن حبي وقال لي أن الحب في سني مجرد تفاهة مراهقة وأن الحب الحقيقي هو ما تخلقه العشرة والتعود، حاولت التمسك بموقفي لكنه عاود تهديداته فرضخت له مرة أخرى وفارقت حبيبتي التي قالت لي عندما ضحيت بحلم حياتك أدركت أني التالية في سلسلة تضحياتك، لذلك لم أتعجب مما فعلته، وأبشرك بأنك ستستمر في التضحية بكل ما تحب حتى تصبح حياتك قاحلة، تزوجت أمك وهي أيضاً لم تكن تحبني ولكنها كانت أكثر واقعية مني، فهي لا تؤمن بالحب، بل تؤمن بالأسرة وتوفير افضل الإمكانيات المادية للأبناء، تركت كل المسئوليات على عاتقها فهي لا تقتنع إلا بما تفعله وبرأيها فقط، فقررت أن أتخلى عن المشاركة تجنباً للشجار وكرست كل وقتي للعمل فقط،وكما ترى حياتنا معا ليس لها مذاق، ولا فيها بهجة، بل هي باهتة بلا روح ولا حياة، البهجة الوحيدة عندما ألتقي الأصدقاء في المقهى ،أنا أحكي لك تلك الحكاية لتختار هل ستسعى وراء عقلك ام قلبك.

تركني أبي وانصرف وبقيت وحدي في غرفة المكتب حائراً، حتى شعرت بانهاك جسدي فصعدت لأحظى بالقليل من النوم.في اليوم التالي اجتمعت كل الأسرة على الغداء وتبادلنا الكلام والضحك، وأدركت أني افتقد تلك الحياة ولو كان الأمر بيدي ما اخترت الحياة في لندن التي تمنح المال والمستقبل لكنها باردة وخاوية بلا دفء ولا مشاعر، وقبل مغادرتنا قال لي أخي الصغير:

-داوم على زيارتنا فابنتك سعيدة هنا وتحتاج لدفء الأسرة

فابتسمت له ممتنا وقالت لي والدتي ونحن بمفردنا:

-إن لم تستطع إقناعها بزيارتنا في الأجازة القادمة لا تأتِ بل انتظر زيارتي لكم قرب نهاية الأسبوع.

لم يكن ذلك موضوعاً للنقاش بل كان أمراً كعادة أمي، فهي تصدر الأوامر وعلينا جميعاً التنفيذ، لم أرغب في مجادلتها بل قررت الإنصات لها فربما تكون مُحقة كما كانت بشأن ماري.

عدنا في المساء إلى بيتنا وليزا سعيدة ولم تكف عن الحديث عن مغامراتها مع صوفي والأطفال وعما قرروا فعله في المرة القادمة،وعندما وصلنا إلى شقتنا اغتسلت وتناولت العشاء ونامت، وهي تحلم بالغد لتحكي لندى ورفاقها في الحضانة عن مغامرتها الجديدة. شعرت بالسعادة من أجلها وكنت أتلهف أنا أيضاً للغد حتى أرى ندى وأشبع شوقي إليها، رغم أنها لم تفارق خيالي لحظة واحدة، ولا أعلم إن كان ذلك حب أم اعتياد.

الفصل التاسع

غاب چون وليزا يومين فشعرت أن حياتي فارغة، فاحتياجي للحب والاهتمام والأسرة ، كل ذلك جعلني أتعلق بهما وأتخيل نفسي جزءا من حياتهما. الآن أعود إلى الواقع الذي يقول لي أنت وحيدة وإما أن تتقبلي حياتك هكذا أو أن تعودي إلى بلدك وخلال أقل من شهر سيزوجك أبوك أو بمعنى أدق سيبيعك لمشتري جديد، حتى لو فكرتي في البعد عنه والاستقلال بحياتك فالكل سيتدخل في حياتك وسيلوكون سيرتك ولن يتزوجك أحد بدون أهلك وعندها ستكون إما صفقة أو صدمة.

تنهدت وحمدت الله على ما أنا فيه وانشغلت بكورس ترجمة إلى العربية لعله ينفعني في زيادة دخلي هنا. عادت ليزا من الأجازة في منتهى السعادة والانطلاق وظلت تحكي لنا عن مغامراتها في الريف، ثم قالت لي بمفردنا أنها كانت تحكي عني لجدتها فسألتها إن كانت تحبني أم لا، فأجابتها ليزا أنها تحبني جدا وتتمنى أن يكون لها أم مثلي. بقدر ما أسعدتني كلماتها، بقدر ما اخافتني فالصغيرة متعلقة بي بشدة وان ابتعدت عنها ستتعرض لصدمة قوية،فقلت لها:

-حبيبتي نحن اصدقاء وجيران وعندما يحين موعد دخولك المدرسة ستتركين الحضانة وسيكون لك اصدقاء جدد ومعلمات أخريات، لكن هذا لا يمنع أن نظل أصدقاء، هل تفهمينني؟

فقالت الصغيرة بحزن:

-هل ستتركيني أنت أيضاً يا ندى؟

فقلت بحنان:

-لا يا حبيبتي لن اتركك ولكننا في كل فترة نذهب إلى مكان جديد ونتعرف على أشخاص أخرين، فأنا مثلا أعيش هنا بعيدا عن اهلي ولكن لي اصدقاء وأشخاص أحبهم مثلك، هكذا الدنيا يا ليزا نقابل ناس ونفارق ناس رغما عنا.

وكأني كنت اقنع نفسي لا الصغيرة بتلك الكلمات.جاء چون لاصطحاب ابنته وكان مبتسماً تلك الابتسامة التي تجعل قلبي يخفق بقوة، فحياني وقال:

-كيف كانت أجازتك؟ لقد كانت أجازتنا ممتعة ولكننا كنا نفتقد وجودك معنا

احمرت وجنتاي واخفضت بصري خجلاً ثم قلت بارتباك:

الحمدلله أن حظيت ليزا بوقت طيب وأنك تماثلت للشفاء

فقال برجاء:

-لقد طلبت مني والدتي أنك ادعوك لتقضي معنا الأجازة القادمة لتشكرك على كل ما فعلتيه معنا

فقلت بخجل :

-أنا لم أفعل شيئاً يستحق الشكر

فقال برجاء أكثر:

-لكننا جميعاً نريدك معنا

فأخفيت ارتباكي خلف قناع من الصرامة وقلت بحزم:

-شكرا لك يا سيدي لكني لا أقضي وقتي مع الغرباء

فقال باستياء:

-غرباء؟ كنت أظننا اصدقاء

فقلت بحسم:

-مفهومي للصداقة يختلف تماما عن مفهومكم هنا، كما أن ديني يمنعني من الصداقة مع أي رجل غريب، ولأوضح لك معنى كلمة غريب، أي ليس أبي ولا أخي ولا أحد أقاربي مثل أبناء إخوتي ولا زوجي، شكراً على دعوتك الكريمة وأرسل شكري وتحياتي لوالدتك.

انصرفت وتركته وعلامات الخيبة ظاهرة على وجهه وقلبي يتمزق فأنا أتوق لقربه، ولكن بيننا عشرات الأسوار التي تمنع تلاقينا.في الأيام التالية حاولت بقدر الإمكان أن أتجنب لقائه فكنت أترك مسئولية استقبال الأطفال على باب الحضانة لإحدى المشرفات الجدد، بينما كنت أنتظرهم داخل الحضانة وبذلك لم أرَ چون طوال الأسبوع، حتى فوجئت به يوم الجمعة يطلب من المشرفة الحديث معي فخرجت إليه وقلبي يخفق بشدة وفي نفس الوقت مشتاق لرؤيته، فابتسم  تلك الابتسامة الخلابة التي تسلب عقلي وقال:

-أريد أن أطلب منك خدمة

فقلت له :

-إن كانت في إمكاني لن أتردد في القيام بها.

فقال:

-والدتي واختي صوفي سيصلان اليوم قبل موعد عودتي من العمل فهل يمكنني ترك مفتاح الشقة معك لترتاحا حتى موعد عودتي؟

ترددت قليلاً ولكني قلت:

-لا بأس بذلك

فازدادت ابتسامته وقال:

-هل يمكنني أن أطمع في المزيد؟ أن تصطحبي صوفي في جولة على المحلات النسائية لتشتري ما تحتاج فزواجها قريب؟

فنظرت إليه بقلق فقال:

-بإمكاني أن أدفع لك مقابل تلك الجولات

فقلت له ساخرة:

-أكثر شئ ممتع في حياة أية امرأة هو التسوق، فكيف تدفع مقابل ذلك؟

فقال :

-أنا لا أدفع مقابل جولات تسوقك إنما مقابل وقتك

فقلت بهدوء:

-لن أخذ أي مقابل لكنها فرصة لأرد لك بعض ما فعلته من أجلي

فابتسم وقال بمكر:

-خذي المفتاح وسنرى فيما بعد من سيرد للأخر، وشكرا لك.

ثم انصرف وهو يقول بصوت منخفض لكني سمعته جيداً:

-كم أتمنى أن تكوني معي لأرد لك معروفك بطريقتي.

احمرت وجنتاي وخفق قلبي بقوة، فهو يرغبني، لكن أخشى بشدة أنها ربما تكون مجرد رغبة بلا حب، فأنا بالنسبة له نوع جديد من النساء لم يقابل مثله من قبل، و ربما لأنه يفتقد وجود زوجة في حياته اعتاد وجودي أمامه فيظن أنه يريدني.

طوال اليوم كنت أشعر بالاضطراب من كلماته ومشاعره وسعيه للقرب مني، فحاولت أن أشغل نفسي عن التفكير فيه بالاندماج أكثر مع الأطفال، حتى وجدت من تطلب لقائي، فوجدتها والدته، سيدة تجاوزت الخمسين من عمرها بشعر أحمر وبشرة بيضاء بها نمش وعيون خضراء لكنها قاسية، مع قوام يميل إلى السمنة.تفحصتني المرأة بنظراتها ثم عرفتني بنفسها، فابتسمت لها بشكل رسمي ثم رحبت بصوفي ومنحت المفاتيح لوالدته فقالت:

-من فضلك اصطحبينا إلى البيت فنحن لا نعرف الطريق

فقالت صوفي بحرج:

-ربما لا تستطيع ترك عملها.

فابتسمت لها وقلت:

-لا أبدا انتظراني دقائق سأستأذن من مديرتي وأحضر ليزا وأصطحبكما.

بعد عدة دقائق كنت اصطحبهما إلى شقة چون القريبة وبمجرد أن وصلت إلى باب العقار حياني الحارس بحرارة، فقالت والدته بتهكم:

-من الواضح أن الحارس يعرفك جيداً،يبدو أنك تأتين إلى هنا كثيرا

فقلت بغضب:

-لقد أتيت مرتين، مرة عندما كان ابنك مريضاً بمفرده وكان يترك ابنته معي ولا يجيب على الهاتف فأنقذته واحضرت له الطبيب، وفي المرة الثانية كانت في اليوم التالي عندما كانت ليزا تبيت معي فأحضرتها للحارس ليصعد بها إلى والدها.

فقالت والدته بتعجب:

-هل يتذكرك من مجرد مرتين والعقار يقطن به العشرات؟

فقلت بحدة:

-الإنسان لا ينسى من يحسن معاملته ويبتسم في وجهه.

فأرادت صوفي أن تلطف من حدة الحوار فدعتني لتناول الشاي معهما وقبل أن أجيب كان چون قد عاد  وقابلنا قبل صعود اسرته فنظرت إليه بغضب وقلت:

-لم يكن هناك داعٍ إذا لأن تترك مفتاحك معي  طالما ستعود في موعدك

فقالت أمه :

-يبدو أنه يثق بك كثيرا أو ربما يرغب أن يظل معك باستمرار، أقصد حتى تهتمي بليزا.

لم أجبها إنما رميته بنظرات مشتعلة من الغضب واستأذنت لأعود إلى عملي الذي تركته من أجلهما،مشيت غاضبة وحاول چون الحديث معي فقلت غاضبة:

-إياك والتعامل معي مرة أخرى وسوف تقتصر تعاملاتنا على ليزا فقط، فقد أسأت إلي بقصد أو وبدون.

مشيت غاضبة فقد أوحى لأمه أن بيننا علاقة آثمة، ربما يكون ذلك مباحاً في ثقافتهم لكنه مُحرم في ديننا وثقافتنا، لقد شوه صورتي في عيون أمه ولابد أن تلك صورتي في عيون الجميع. لم أكن غاضبة من چون وأمه فقط ولكن من نفسي قبلهما فقد تساهلت معه كثيرا ووضعت نفسي في موضع الشُبهات، ورغم أن الله يعلم ببراءتي وبحسن نيتي إلا أني عرضت نفسي لسوء ظنون الناس. شعرت بانقباض في صدري فلم أرغب بعد انتهاء عملي في العودة إلى البيت البارد والأفكار التي تنهش في عقلي، فاتصلت بميسون واتفقنا على اللقاء في المركز الإسلامي بعد ساعة. لم أكن تناولت طعامي بعد فاتجهت لأحد المحال القريبة لشراء شطيرة وكوب من القهوة ،فوجدت المكان يكاد يكون خالياً في هذا الوقت فجلست في منضدة بجوار الباب المواجه للطريق ،وبدأت أتناول طعامي وتواردت على ذهني كل الذكريات السيئة الكفيلة بفقدي لشهيتي. كنت غارقة في أفكاري حتى فوجئت بدخول چون وصوفي إلى المقهى فحاولت أن أتجنب النظر إليهما لكن صوفي ابتسمت بخجل وتوجهت ناحيتي، بينما كان چون يحضر ما سيتناولونه، فقالت صوفي مرتبكة:

-هل تسمحين لي بالجلوس؟

فقلت بإحراج:

-بالطبع تفضلي

فساد الصمت للحظات ثم قالت:

-أعرف أنك غاضبة بسبب ما قالته أمي وقد لُمتها على ذلك، لكنها هكذا دائما لا تثق بأحد ولا تبالي بمشاعر أحد، ربما تشعر بالغيرة قليلاً على چون وهذا ما كانت تفعله مع ماري، لكننا ظننا أنها كانت تقسو عليها لأنها  تراها سيئة وتخشى على چون منها، لكن الآن واضح أنها تغارعلى چون من أية امرأة تقترب منه، فهو ابنها المفضل وإن كانت لا تُظهر له ذلك، فهو الأقرب إلى قلبها، ورغم تمرده عليها واستقلاله بحياته إلا أنها مازالت تفضله، لذا عاملتك بحدة.

صمت للحظات ثم قلت:

-نحن متقاربات في العمر وستفهمينني أكثر، أنا خرجت من تجربة سيئة جدا وأخشى الدخول حاليا في أية علاقة، كما أني مسلمة وديني لا يسمح لي بالزواج إلا بمسلم، وأنا أحلم برجل مسلم يشاركني في كل شئ في عباداتي وحياتي ولا يحاول أن يبعدني عن الطريق الذي رسمته لنفسي بل يمشي معي نفس الطريق، وليس بيني وبين چون أي شئ مشترك سوى أن كلانا مجروح ومر بتجربة سيئة وأننا نحب ليزا، أنا ليس بيني وبينه سوى علاقة عمل وربما شفقة من كل منا على الآخر ومحاولة مساعدته، لا أكثر ولا أقل، هل تفهميني؟

ظهر الحزن على وجهها وأومأت بالإيجاب وفي تلك اللحظة جاء چون يحمل كوبي القهوة لهما وقال مبتسماً:

-مرحبا كيف حالك؟

فقلت بارتباك:

-أنا بخير والحمدلله أستاذنكم فلدي موعد

نهضت والذهول مرسوم على وجهه، فقالت صوفي مسرعة:

-ندى أرجو أن تساعديني في جولتي في المحلات لشراء ملابس العرس فوالدتي لن تستطيع الخروج معي ولن تفهم ما أريد شراؤه.

فقال چون بإحراج:

-صوفي لا تحرجيها ربما لديها مواعيد أخرى

فنظرت إليها وابتسمت وقلت:

-اتصلي بي لنحدد موعدا يناسبك غدا وسنشتري أجمل ملابس لأجمل عروس

ابتسمت صوفي وشكرتني وقبل أن أنصرف قال چون:

-سأدفع لك مقابل خدماتك

فنظرت إليه بلوم وقلت:

-أنا اعتبرت صوفي صديقة جديدة وأنا من اقدم لها وقتي مقابل صداقتها فهذا ما أحتاجه الآن أكثر من المال.

انصرفت مسرعة تجاه المركز الإسلامي وقضيت باقي اليوم هناك بين التطوع والتعلم وفي النهاية حكيت لميسون ما حدث فسألتني:

-هل أنت غاضبة من أمه لما قالته؟ أم أنك غاضبة لأنها الحقيقة؟ هل تحبينه؟

سكت للحظات وظهرت الدموع في عيناي وقلت بحزن:

-نعم لأول مرة أتذوق طعم الحب، ولكنه حب بلا أمل، فرغم أن قلبي يحن إليه ويرغب في وجوده معه باستمرار، إلا أن عقلي يرفض ذلك ويقول لي أنتما من عالمين مختلفين، وحتى إن أسلم ربما يجرك إلى عالم يبعدك عن دينك.

فقالت بإشفاق على قلبي:

-إذا ابتعدي عنه وادعي الله كثيرا أن ينير بصيرتك، وتأكدي أنك طالما اخترت ِ طريق الله فإنه سيعوضك بالأفضل.

شعرت بالراحة والسكينة بسبب كلماتها وعدت إلى البيت وتوضأت وصليت وبكيت بين يدي الله وأنا أطلب منه إما أن ينزع حبه من قلبي، أو أن يشرح قلبه للإيمان.

في اليوم التالي اتصلت بي صوفي وتجولنا معا في المحلات وساعدتها في شراء ما تحتاجه وتناولنا غداءنا معه وتحدثنا عن أشياء مختلفة، وفي نهاية اليوم تركتها عند العقار الذي يسكن فيه چون فدعتني لتناول كوب شاي معهم فشكرتها وانصرفت.

قررت أن أختفي من حياة چون حتى لا أزداد تعلقا به بلا أمل، وكذلك حتى أمنحه الفرصة ليجد من تناسبه فهو فقط اعتاد وجودي في حياته، ولو ابتعدت عنه سينساني ويبحث عن غيري. كان قرار صعب على قلبي ولكنه ضروري من أجل مصلحتنا معا، فكنت أتجنب رؤيته عندما يحضر ليزا إلى الحضانة أو يأتي لاصطحابها،لم أكن أدعه يراني لكني أحيانا كنت أقف بعيدا حتى أراه وأروي ظمأ قلبي.حاولت كثيراً أن أمنع نفسي ولكني فشلت وكنت أبكي كثيراً وأطلب من الله أن ينزع حبه من قلبي وأن يعينني على نسيانه، كنت أتمزق بداخلي بين رغبة عقلي في النسيان وتوق قلبي لقربه وحنانه. مرت الأيام على ثقيلة وباردة وكانت جدران بيتي الباردة تصيبني بالجمود والرعشة، وكنت دائما أتساءل هل سأحيا هكذا طوال عمري بلا أسرة ولا أهل ولا سند؟ هل أكمل حياتي هنا أم أعود لأهلي وبلدي؟ هل تستحق الحرية كل تلك التضحية؟ تساؤلات مزقت روحي ، لكني لم أجد لها إجابات.

فقدت شهيتي للطعام، بل والحياة كلها، فكنت أحيا كالآلات أؤدي ما علي من واجبات فقط بلا روح، كنت فقط أشعر بالسعادة لوجودي مع ليزا فهي جزء منه. انقطعت عن كل شئ فلم يعد لدي أية رغبة في عمل أي شيء، حتى المركز الإسلامي لم أعد أذهب إليه وحاولت ميسون أن تُثنيني عن رغبتي في اعتزال كل الناس ولكنها فشلت. مرت عدة أشهر ذبلت فيها ذبولا تاما وكان ذلك ظاهرا في شكلي وطريقة تعاملي مع الجميع، وحتى في اللون الأسود الذي اخترته لونا لملابسي ليعكس حالتي النفسية.

ذات يوم أصرت علي ميسون أن أخرج معها لنساعد عبير تلك الفتاة التي توفيت أمها بالسرطان العام الماضي وكانت منهارة وكنا نقف بجوارها ونشفق عليها من الصدمة، فتلك الفتاة على أعتاب الزواج وليس لها شقيقات ولا تملك في الدنيا سوى والدها الطبيب الكبير المشغول دائماً، وشقيق في المرحلة الثانوية، وهي تحتاج إلينا بشدة، فلم أستطع الرفض.انشغلت مع عبير قليلا وحاولت أن أشاركها فرحتها  رغم آلام قلبي التي أخفيتها بين ضلوعي حتى لا أفسد فرحتها. أعددنا لها كل ما تحتاجه وفرشنا لها شقة الزوجية وأعددنا في المركز الإسلامي قاعة المناسبات لتلائم العرس، كما اشترينا الفستان الأبيض، عدت إلى البيت منهكة واغتسلت وصليت ودعوت الله أن يرزقني بعوض وفرحة تسعد قلبي المكلوم.

كان اليوم التالي مشحونا بالمهام،فاستيقظت مبكرة وتناولت إفطار سريع وذهبت إلى عبير فوجدت ميسون هناك وكانت بطنها منتفخة بسبب الحمل فضحكنا معا، واصطحبنا عبير إلى مركز التجميل الذي تديره إحدى فتيات العرب وقد أخلته تماما من اجلنا فحضرت العديد من الفتيات اللاتي كنا نقابلهن في المركز الإسلامي، و مضى اليوم بين ضحك الفتيات والغناء والزغاريد. انتهت العروس من زينتها وكذلك باقي الفتيات، أما أنا فرفضت وضع أي مساحيق واكتفيت بفستان باللون القرمزي الداكن وغطاء الشعر باللون السُكري، خرجنا معا من مركز التجميل وركبنا السيارات متجهين إلى المركز الإسلامي، فركبت أنا وفتاتين مع ميسون وزوجها.

وصلنا إلى المركز وبدأت إجراءات عقد القران وسط بهجة الجميع، لكني تذكرت كيف حُرمت من تلك اللحظة بفضل أبي وجشعه، أفقت على إطلاق النساء الزغاريد ابتهاجا بعقد القران، فأقبلت على عبير لأهنئها وتمنيت لها السعادة من كل قلبي.

ابتعدت عنها وجذبتني ميسون من يدي لنباشر إعداد الحلوى وتوزيعها على الجميع وتعاونت معنا العديد من الفتيات. حملت الاطباق وكنت أوزع على الموجودين جميعا حتى فوجئت بدكتور عمر زوج ميسون يطلب مني طبق فذهبت إليه واعطيته طبق فنظر إلى شخص بجواره وقال :

-الطبق ليس لي ولكن له

فقلت بخجل وأنا ارفع بصري:

-تفضل

توقفت الكلمات على شفتاي، ووقفت مندهشة للحظات فقد كان چون هو من يأخذ مني الطبق وقال لي بالعربية:

-شكرا

فنظرت إلى دكتور عمر في انتظار تفسيره فقال مبتسماً:

-هل تعرفين صديقي محمد من قبل؟

فنظرت إليه بذهول وقلت:

-محمد؟ بل اسمه چون

فنظر إلي چون وقال مبتسماً:

-بل صار اسمي محمد من فترة لكنك انقطعت عنا ولا تعلمين عنا شيئا.

فازداد ذهولي ولم أستطع الكلام فقال دكتور عمر:

-محمد لديه الكثير ليقوله لك ولكن تجنبا لأقاويل الناس فأنتما مدعوان عندنا غدا لتناول الشاي.

بقيت واقفة مكاني بدون أن أتكلم حتى جاءت ميسون وجذبتني من يدي وقالت لي:

-ماذا بك؟

فقلت بذهول:

-چون أصبح اسمه محمد وهو صديق لزوجك الذي دعانا لتناول الشاي عندكم غداً، أنا أشعر أنني أحلم

فقالت بدهشة:

-إذا هذا هو محمد الانجليزي الذي أشهر إسلامه منذ نحو شهرين وعمر دائم الحديث معه في الهاتف ويلقاه دائما في المركز.

فنظرت إليها بذهول وقلت:

-هل هي مجرد مصادفة أم أنه سعى إلى التعرف على عمر؟ أنا أشعر بارتباك وتشوش وأحتاج أن أعود إلى البيت.

فقالت ميسون وهي تمسك بذراعي:

-تمهلي لقد تأخر الوقت وعودتك بمفردك فيها خطر عليك، لذا انتظري حتى ينتهي الحفل وسنعيدك إلى البيت.

أومأت بالموافقة وجلست وحدي بعيداً عن الجميع، أبحث عنه حتى وجدته يتكلم مع عمر وآخرين بابتسامته الخلابة، ولاحظت أنه مندمج معهم في الحديث، فأسرعت بغض بصري عنه لأن قلبي صار يخفق بشدة، وتساءلت هل أسلم من أجلي؟ هل يحبني حقا ليفعل ذلك من أجلي؟ وهل هذا كاف؟ لقد كان وليد مسلماً ولكنه سئ الخلق، لا فأنا لا أبحث عن مجرد زوج ،بل عمن يأخذ بيدي ويساعدني على الثبات في طريقي إلى الله، فهل يستطيع چون أن يفعل ذلك؟

لم أنم ليلتها من فرط سعادة قلبي أنه دخل الإسلام ودعوت الله كثيراً أن يهديه ويشرح قلبه للإيمان، بينما عقلي مازال متخوفا من أن تكون مجرد خطوة من أجل إن يصل إلي فقط، لكن لماذا أنا؟ ولم يفعل ذلك من أجلي وحوله غيري كثيرات أكثر جمالاً ومن نفس مجتمعه؟ هل يحبني؟ أهم هي مجد رغبة؟ أم أن النساء في مجتمعه لا يرغبون في ليزا لكني وحدي من سترضى بها؟ تساؤلات كثيرة أرقتني، وحرمت النوم علي. نهضت من السرير وتوضأت وصليت الفجر وجلست أقرأ القرآن وأدعو الله أن ينير بصيرتي، وأن يلهمني فعل الصواب.

شغلت نفسي بترتيب البيت وغسل ملابسي، حتى حان موعد ذهابي إلى بيت ميسون فشعرت بالاضطراب يعتريني ، فأنا على أعتاب خطوة هامة في حياتي وعلي أن أفكر بالعقل لأتخذ القرار الصواب، استعنت بالله وخرجت، ورغم بعد المسافة قررت أن أمشي لأخرج كل الطاقة السلبية من جسدي وأنقي عقلي، كانت الأفكار تتوالى على عقلي حتى وصلت إلى بيت ميسون فشعرت بخفقات قلبي تزداد عندما التقيت بچون عند مدخل العقار، فابتسم مُرحباً ثم سمح لي بالدخول أولاً، وصعدنا معا ووجهي صار لونه أحمر من شدة خجلي ،وأخشى أن يستمع إلى دقات قلبي. وصلنا عند باب الشقة فدق الجرس ووقف بعيدا عن الباب بعدة خطوات وخفض بصره إلى الأرض، حتى سمع صوت ترحيب دكتور عمر فرفع عيناه إليه وابتسم له فتساءل عمر:

-هل أتيتما معا؟

فقلت بسرعة:

-بالطبع لا، لقد التقينا عند مدخل العقار

فقال بهدوء:

-تفضلا إلى الداخل، اهلا ومرحبا بكما

دخلت مرتبكة ثم سألته عن ميسون فأخبرني أنها في المطبخ فدخلت مسرعة لأحتمي بها وأختبئ خلفها، لا أعلم ممن أختبئ هل منه ام من عمر أم من نفسي. رحبت بي ميسون وأخبرتني أنها أعدت لي الحلوى التي أحبها ولما لاحظت شحوبي واضطرابي قالت لي:

-لماذا أنت مرتبكة إلى هذا الحد؟ لا تخشي شئ فنحن بجوارك وسنسادك دائما فأنت أخت لنا

شكرتها وخرجت وأنا أحمل اطباق الحلوى وهي تحمل الشاي، فقال عمر مبتسماً:

ستتذوق اليوم الحلوى الشرقية التي لن تجد أحدا يصنعها أفضل من ميسون

فقال چون بخجل:

سلمت يداها

ناولته طبقا وقدمت له ميسون الشاي فأبدى إعجابه بالكنافة النابلسية وقال مازحاً:

-بالفعل طعمها لذيذ جدا ولكن إن أكلت أكثر من قطعة فلن أستطع ممارسة الرياضة بعد ذلك

فقال عمر:

-لا تقلق فهي تحتاج لحوالي نصف ساعة من الجري حتى لا يزداد وزنك فكل ما تريد وعد إلى بيتك ركضا

خفف مزاحهم من توتري ، وبعد أن تناولنا الحلوى والشاي قال دكتور عمر:

-ندى بالطبع أنت مثل أختي وقد استأذنني محمد في الحديث معك سنترككما معا لتتحدثان وسنكون بجواركما.

شعرت بالارتباك وقد عادت ميسون إلى المطبخ بينما جلس دكتور عمر على مكتبه الموجود في نفس الغرفة ولكن على مسافة بعيدة عنا بحيث يرانا ولكنه لن يستمع بوضوح إلى كلامنا، فشعرت بالارتباك فقال لي چون:

-أعلم أن بداخلك عدة تساؤلات وأنا على أتم الاستعداد للإجابة عليها

فقلت له بحيرة:

-ماذا تريد مني؟ ولماذا أنا؟

فقال بجدية :

السؤال الأول سأجيب عليه فيما بعد، أما السؤال الثاني فأنت متميزة ولم اقابل مثلك من قبل ونحن متشابهين في اشياء كثيرة.

فقلت له:

-لماذا أسلمت؟

سكت للحظات ثم قال:

-لن أكذب عليك في البداية أسلمت لأتزوجك، لكن رزقني الله بدكتور عمر وأصدقاؤه فعلموني الكثير عن الإسلام فأدركت أن الله أرسلك إلي حتى أسلك طريق الهداية، وبدأت أتعلم وأعرف الكثير عن ديني حتى أيقنت أنك حتى لو لم توافقي على الزواج مني فأني سأظل مسلماً لأني وجدت في هذا الدين ما كنت ابحث عنه وجعلني أشعر بالراحة.

نظرت إليه وأنا سعيدة والدموع تملأ عيناي فقال:

-اما إجابة سؤالك الأول فأنا أريدك أن تكوني زوجتي وشريكتي في مشواري، في البداية كنت أريدك من أجل نفسي وليزا، أما الآن فأنا أريدك من أجل ديني، حتى تسانديني وتدفعيني للأمام، فهل تقبلين؟

سكت وانسابت دموعي فرحا وقلت له بعد أن استجمعت نفسي:

ألا تريد أن تعرف شيئا عن أسرتي وحياتي وزوجي السابق؟

فنظر إلي وقال:

-لا أهتم بالماضي فهو ما لن نستطيع تغييره، لكن كل ما يهمني الحاضر والمستقبل وأريدك أن تكوني معي فيهما.

سكت للحظات ثم قلت بخجل:

-سأستخير الله وأبلغ رأيي لدكتور عمر.

نهضت بخجل ودخلت المطبخ عند ميسون وخفقات قلبي تتوالى من شدة سعادتي فهل حقا ستبتسم لي الحياة أم أنها مجرد خدعة؟وستسلب مني سعادتي كالمعتاد؟ أفقت على صوت ميسون وهي تنادي علي لأني كنت غارقة في أفكاري فبُحت لها بكل مخاوفي فقالت لي:

-ما ظنك برب العالمين؟

فأجبت بيقين:

-الخير كله

فقالت لي بثقة:

-وهو سبحانه عن ظن عباده به، إن شاء الله سيكتب لك السعادة استخيري أكثر من مرة قبل أن تردي عليه.

انتظرت حتى انصرف ثم عدت إلى بيتي ولأول مرة أشعر بالسعادة لأن هناك من يرغبني لنفسي.استخرت الله عدة مرات وشعرت بالارتياح، وكذلك فكرت بعقلي فوجدت ظروفنا متشابهة، كما أني أحب ليزا، والعقبة التي كانت بيننا زالت فقررت أن أمنح نفسي فرصة للسعادة فليس لدي ما أخسره، بل وربما وجدت السعادة التي طالما حلمت بها.

أبلغت دكتور عمر بموافقتي فاجتمعنا في بيته وقرأنا الفاتحة واتفق عمر مع چون على أن يكون عقد القران يوم الجمعة بعد صلاة العشاء،على أن يكون الزفاف بعدها بنحو شهرين عندما يعد چون مكانا مناسباً لنا، وأخبره عمر بضرورة دفع مهر لي كما أكد عليه على ضوابط عقد القران وأن يلتزم بها، وأنه فقط وافق على عقد القران حتى نتحدث ونتقابل بحريتنا دون أن نقع في الحرام. فوعده چون أن يلتزم بكل ما قاله وأن يبذل كل جهده لإسعادي، ثم سألني عما أريده في شقة الزوجية فقلت له:

-ليست لي أية مطالب سوى شقة جديدة لم تسكنها امرأة من قبلي، أما المكان والأثاث فليس لي أية شروط بخصوصهما

فقالت ميسون:

-لكن من عادات مجتمعها أن تشارك العروس في انتقاء الأثاث

فابتسم چون وقال:

-إنها ستشاركني كل شئ في حياتي فالأجدر أن تشاركني في اختيار الأثاث الذي سيكون في بيتها.

أسرتني كلماته الرقيقة وابتسامته الساحرة فأشحت بوجهي خجلاً،وتمنيت أن تمضي الأيام بسرعة لأعيش بجواره واستمتع بحنانه باقي حياتي، ثم أفقت على سؤاله وهو يقول:

-هل سيضايقك أن أدعو أسرتي؟

فنظرت إليه بتعجب وقلت:

-ولماذا يضايقني؟ إنهم أهلك وديننا يحثنا على البر بالأهل حتى لو كانوا على غير ديننا أو كانوا يسيئون معاملتنا.

فقال راضيا:

إذا موعدنا يوم الجمعة وان احتجتي أي شئ أخبريني

فقلت بخجل:

-شكرا لك

فنظر إلى عمر وقال:

-هل مسموح لي أن اوصلها إلى بيتها؟ فقد تأخر الوقت

فابتسمت ميسون وقالت:

-لا تقلق عليها سأذهب معها أنا وعمر فإننا نرغب بشراء بعض الأشياء من المحلات المجاورة لكم.

انصرف چون وقلبي يرقص طربا حتى قالت ميسون بعد أن دخل عمر غرفته ليبدل ملابسه:

-ألن تخبري أهلك؟

فهبطت من السماء السابعة إلى أعماق الأرض وقلت بحزن:

-هل ذلك ضرورياً؟

فقالت بجدية:

-نعم فمهما كان مقدارغضبك من والدك لا يجب أن يمنعك من إخباره بزواجك والحصول على موافقته فهو ولي أمرك ولا يصح الزواج بدون ولي بإجماع الفقهاء.

عدت إلى البيت وأنا أحمل هما ثقيلا على قلبي، ولكنها مكالمة لابد من إجراءها. اتصلت بأخي الأكبر على الماسنجر فأجاب ببرود وكأننا غرباء نتحدث معا، فطلبت منه أن أتحدث إلى أبي فوافق وبعد دقيقة جاء صوت أبي القوي الغاضب وقال:

-أمازلت تتذكرين أن لك أب وأسرة تنتمين إليها؟ أم أن حياة الحرية والانحلال راقت لك؟ ماذا تريدين مني؟

انسابت دموعي في صمت وقلت بعد أن جففتها:

-أريد أن أخبرك أن هناك من يطلبني للزواج ونرغب في عقد القران يوم الجمعة وأني أنتظر موافقتك؟

سكت للحظات وقال:

-أهو ثري؟

فقلت بحزن:

-لا بل إنسان عادي جدا يعمل ليكسب

فصرخ بغضب:

-هل تتركين الأثرياء الذين يتمنون رضاك من أجل متسول؟ أمجنونة أنت؟

فقلت من خلال دموعي:

-الثري الذي زوجتني له كان يعايرني بفقري وأنك بعتني له وكان يضربني ويهينني حتى أني كدت أموت بسببه، والآن ترغب أن تبيعني لثري آخر لا يهم ما يفعله بي المهم أنك تكسب الأموال من وراء زواجي أليس كذلك؟

ساد الصمت للحظات فقلت بغضب:

-لماذا تفعل بي هذا؟ ألست ابنتك؟ ألم تكتف بسنوات العذاب والحرمان والقسوة التي لاقيتها في كنفك؟ هل تبحث عمن يعذبني؟هل تستمع بعذابي وإهانتي؟ هل تنتقم من أمي في صورتي؟

فقال بغضب:

-أنت غبية، المال هو السعادة والأمان في هذا العالم، من معه المال يحصل على النفوذ وينال احترام الجميع، وفي سبيل الحصول على المال نفعل أي شئ، لو كان لدي ابنة أخرى لفعلت معها مثلما فعلت معك، فهذا من أجل مصلحتنا جميعاً.

ثم صمت قليلاً وقال متصنعا الهدوء:

-اتركي ذلك المتسول وتعالي إلي وأعدك أن أزوجك من يعرف قيمتك ويصونك وفي نفس الوقت سيغدق عليك بأمواله.

فقلت بنفس الهدوء:

-لم يعد لدينا نفس الهدف يا أبي أنا مصممة على الزواج ممن اخترته ولن أتزوج بغيره فهل أنت موافق أم لا؟

فقال بمكر:

انت غبية افعلي بنفسك ما تشائين لكن بشرط أن ترسلي لي ما كنت تدفعينه في إيجار الشقة فقد وفرت ذلك المبلغ بزواجك فأنا أولى به.

فقلت بتعجب:

-أنت تبتزني يا أبي من أجل الموافقة على زواجي؟إنك حتى لم تسألني عن زوجي وأخلاقه وعن جنسيته أو دينه، كل ما يهمك مالي فقط؟ وسعادتي لا تهمك؟

فقال بسخرية:

-العواطف للسذج فقط أما أنا فلا أفهم سوى لغة المال،فهل انت موافقة على منحي المال؟

فقلت بغضب مكتوم:

-موافقة ولكن لن ادفع لك مليما واحدا قبل أن تعلن موافقتك عندما أحدثك يوم عقد القران، إن وافقت في اليوم التالي سيكون لديك المال

فقال هازئا:

-لا يا ندى، فكما يقولون عندك بيزنس إز بيزنس، ارسلي لي جزء من المبلغ لأتأكد من صدقك

فقلت بآسى:

-ولكني أحتاج المال لشراء ملابس العرس

فقال بقسوة:

-هذا شأنك فإما جزء من المال وإما لا موافقة، ما رأيك؟

فقلت باستياء:

-غدا سيكون لديك جزء من المال، شكراً لك يا أبي على كل ما فعلته بي وأسأل الله أن يجزيك عني.

أغلقت الهاتف والألم يعتصر قلبي، فهذا هو أبي يسعى لاستغلالي بشتى الطرق، ولا يظهر أي جهد حتى يقضي على سعادتي. يقولون أن الأبناء أحياناً يكونون ابتلاء للآباء، ولكن في حالتي أبي هو ابتلائي في الدنيا. نمت وأنا أبكي وابتهل إلى الله أن يرزقني بالسعادة التي حُرمت منها والعوض عن كل ما قابلته من قسوة وجفاء.

في اليوم التالي ذهبت إلى عملي وقد انطفأت فرحتي بعد مكالمة أبي التي نزعت السعادة من قلبي، وبمجرد دخولي اتجهت إلى مكتب مديرة الحضانة لأخبرها بخطبتي ودعوتها لحضور عقد قراني يوم الجمعة فهنأتني ومنحتني أجازة يومها، فشكرتها وانصرفت إلى عملي،خرجت لأستقبل الأطفال فجاء چون بابتسامته الساحرة وحياني وقال:

-صباح الخير يا ندى، كيف حالك؟

فقلت بابتسامة:

-صباح النور أنا بخير والحمد لله

ثم نظرت إلى ليزا وقلت لها مُرحبة:

-كيف حالك يا عزيزتي؟

فقالت بسعادة:

-أنا بخير يا ندى وسعيدة أنك ستصبحين معنا ولن تفارقينا.

فقلت لها بصوت منخفض:

-ولكني هذا سرنا دعينا لا تخبر أحد به الآن.

فابتسمت بسعادة وأومأت بالإيجاب ودخلت لتلعب مع زملائها، وهممت بالدخول فناداني چون وقال:

-ندى أنتظري، هناك شئ بك مختلف عن الأمس، ماذا حدث؟

فقلت له بتعجب:

-ماهو الشئ المختلف؟

فقال بيقين:

-في الأمس كانت عيناك تلمع والسعادة ظاهرة بهما، أما اليوم فابتسامتك حزينة وعيناك منطفئتان، لابد أن هناك شئ غير أحوالك.

فنظرت إليه بذهول فذلك الغريب من نظرة واحدة غاص في أعماق قلبي وفهم ما بداخلي ويهتم بي، بينما أبي ثُرت عليه وصرحت له مما أعاني منه فلم يُبالي، أي رجل هذا؟ وهل هو عوضي ومكافأة صبري؟ أفقت من أفكاري وقلت له:

-لقد نصحتني ميسون أن أكلم أبي فأصر على تزويجي في مصر لكنه وافق أخيرا على زواجنا بعد ان اشترط علي أن أساعده في مصاريف إخوتي فقد كبروا وزادت مصاريفهم.

حاولت بقدر الإمكان ألا أكذب وفي نفس الوقت لا أخبره بحقيقته.

فقال بهدوء:

-لا بأس افعلي ما تحبين ولكن لا تحزني

فابتسمت له وقلت:

-معك حق لن أحزن بعد الآن، فلا شئ يستحق.

ابتسم وانصرف إلى عمله وأنا مشغولة به طوال اليوم حتى عاد في أخر اليوم وقال:

-هل تسمحين لي أن أرافقك إلى البيت فطريقنا واحد؟

فقلت له بخجل:

-لا أستطيع أن أركب معك سيارتك

فقال بابتسامة:

-أعلم ذلك ولكني أرغب أن أسير معك ونتحدث.

سعدت بذلك كثيرا فاستأذنت المديرة وخرجت معه وأنا أشعر بالسعادة الممتزجة بالخجل ، وفي نفس الوقت أخاف على فرحتي الكبيرة من غدر الزمان. مشينا متجاورين وتحدث معي أنه يبحث عن شقة قريبه في نفس المنطقة فأخبرته أنني سأتحدث مع صاحبة البيت الذي أسكن فيه فربما تكون لديها شقة مناسبة، ثم سألني هل أفضل نوعاً محددا لخاتم الخطبة، فأجبته أني واثقة في ذوقه ثم قلت:

-لا أريدك أن تكلف نفسك فوق طاقتك فأي شئ سيفي بالغرض.

فنظر إلي وقال:

-لن أتكلف فوق طاقتي، بل أريدك أن تكوني سعيدة، ولو الأمر بيدي لأحضرت لك الأغلى لأنك تستحقين كل ما هو غالٍ.

احمرت وجنتاي وخفق قلبي بشدة وقلت له بتلعثم:

-شكرا لك

ثم تحدثت إلى ليزا لأداري خجلي، وعندما وصلنا إلى البيت الذي أقطن فيه قال لي:

-هل سيحضر أحد من أقاربك ومعارفك عقد القران؟

فقلت بحزن:

-ليست لي أحد سوى ميسون ودكتور عمر ومديرة الحضانة فقط.

فابتسم وقال:

-وهل تحتاجين لغيرهم؟

فقلت له:

-لا ...أنا لا أحتاج إلى أحد..

وبترت جملتي قبل أن أقول غيرك، وألقيت بتحيتي وصعدت مسرعة وأنا سعيدة بذلك الرجل الحنون الذي يبذل كل جهده لإسعادي وهو مالم يفعله أحد من قبل، بل ولم يهتم أحد بسعادتي أو يسألني إن كنت سعيدة أم تعيسة.

كانت حياتي قبله كصحراء خالية، مقفرة،موحشة، ثم سقطت عليها بعض الأمطار وإن كانت قليلة، إلا أنها روت صحراء قلبي العطشى إلى الحب والاهتمام،فذلك الضخم كم كنت أخشاه لكنه أثبت أنه أحن رجل علي.

اتصلت ميسون بي لتطمئن علي فأخبرتها بما حدث بيننا فقالت:

-يبدو أن الله أراد أن يعوضك، ولكن لا تسيري وراء مشاعرك إنما حاولي أن تستغلي فترة عقد القران لفهمه ومعرفته جيدا.

فقلت لها:

-معك حق ،لكن لأني محرومة من المشاعر فسعدت كثيراً بمشاعره.

فقالت بتفهم:

-أعلم يا عزيزتي لذلك أنبهك فهذا هو دوري كصديقة

فقلت لها:

-ونعم الصديقة، بارك الله فيك وفي زوجك وفي حياتك

خلال الأيام التالية كنت أعود إلى المنزل كل يوم مع چون حيث نتحدث عن كل شئ يخصنا، وكان يحكي لي عن طفولته وكيف كان طفل عنيد مع والدته لكن والده هو الوحيد الذي يستطيع إقناعه بعقل وهدوء، وكيف أنه تحداها في مراهقته وترك بلدتهم ليأتي إلى لندن ليمارس الملاكمة هوايته المفضلة ويعمل ويستقبل بحياته بعيدا عن سيطرتها.

كنت استمع إليه بإنصات وأدركت أنه لا يستجيب للضغط أو الأمر الواقع، بل أي مشكلة يمكن حلها معه بالتفاهم والعقل، كذلك عرفت لما تفضله أمه عن باقي إخوته كما تقول صوفي، لأن له شخصية قوية مشابهه لشخصيتها، فهي تفهمه جيداً.

حان موعد عقد القران وأصر چون وميسون على أن أرتدي فستان يليق بالحفل، وكأنهما تحالفا علي فقلت لچون لأفهمه أن في عاداتنا من تتزوج مرة لا ترتدي فستان الزفاف مرة أخرى، لكنه أصر على رأيه، فوافقته واشتريت فستان بسيط باللون السكري(أوف وايت) وعليه بعض التطريز، فكان رقيقا وفي نفس الوقت يفي بالغرض.اتجهت مع ميسون وعمر إلى المركز الإسلامي حيث عقد القران واتصلت بأبي ، وقد حولت له مبلغا من المال قبلها بيومين،وفتحت الميكروفون وطلبت منه أن يخبر الجميع بموافقته على زواجي فاخبرهم على مضض، ووكلت عمر عني ليكمل إجراءات الزواج.

انتهى عقد القران وتوافد الأصدقاء لتهنئتنا، ثم قدمنا الحلوى للجميع وانصرف المدعوون وحان موعد انصرافنا فهمس لي چون قائلاً:

-سأترك ليزا عند أحد الأصدقاء لنخرج سويا ونتناول العشاء

فقلت له بابتسامة خجولة:

-لا فقد أعددت العشاء في بيتي فلنذهب إلى هناك وستجد ليزا بعض الألعاب التي تحبها وتسليها.

فقال بابتسامته الجذابة:

-لا أريدك أن تتعبي في يوم مثل هذا

فقلت بحب:

-لن أتعب لكني أريدك أن تتذوق الطعام المصري من صنع يدي

فأمسك بيدي وقبلها برقة وقال:

-بالتأكيد سيكون لذيذ طالما لمسته يدك

خفق قلبي بشدة واحمرت وجنتاي فأمسك بيدي بيده الضخمة فلم أشعر بالخوف منه بل بالعكس شعرت بالأمان ويدي الصغيرة تغوص في كفه الكبير، وباليد الآخرى أمسك بليزا التي كانت سعيدة بالحفل وفستانها الجميل وشعرها المصفف بعناية.

وقبل أن ننصرف وقفت أمه أمامنا وقالت:

-أهنئك فقد وصلت إلى هدفك بسرعة أكبر مما تصورت.

فضغط چون على يدي وقال لها محذرا:

 أمي كفى أرجوك لا تفسدي سعادتي كعادتك

فنظرت إليه بدهشة وقالت:

-أنا أتعمد إفساد سعادتك؟ أم إن اختياراتك السيئة هي من تفسد حياتك

فاصطحبني وليزا بعيدا عنها وقال موجهاً الحديث إلى والده:

-إلى اللقاء يا أبي وسأتصل بك لأخبرك بموعد حضورنا لعُرس صوفي.

انصرفنا وأنا أشعر بالخجل من تركنا لهم بتلك الطريقة، وفي نفس الوقت غاضبة من تعليقات أمه السخيفة، وبمجرد ركوبنا السيارة لاحظ تغيري فقال:

-لا تهتمي بأمي ولا بكلماتها ولا تدعيها تحقق هدفها بتعكير صفو ليلتنا، فأنا اليوم أسعد إنسان ولن أسمح لأي أحد أن يفسد علي تلك اللحظات.

لم أصدق أني سأقابل يوما من يسمعني تلك الكلمات، ويشعر بالسعادة لارتباطه بي، كنت أخشى على قلبي من السعادة حتى لا أستيقظ من أحلامي الوردية على واقع صادم، لكن يقيني بالله أن حياتي معه ستكون مختلفة عما سبق كله.

وصلنا إلى البيت وصعدنا إلى شقتي وشعرت بخفقات قلبي كطبول الحرب فتلك أول مرة يدخل بيتي رجل، وليس أي رجل، بل هو زوجي الضخم الوسيم الذي طالما حلمت بقربه.

دخلنا إلى الشقة ورحبت به وبليزا واتجهت إلى المطبخ لأسخن الطعام وأعد المنضدة الوحيدة الموجودة في الشقة للطعام، جاءت ليزا لتساعدني كما اعتادت، ووضعت الملاعق والشوك، وأحضرت الأطباق وبدأت في ترتيب الطعام بشكل جميل وعندما انتهيت ذهبت إليه وقلت بخجل:

-الطعام جاهز

فقال بمكر:

-ألا تلاحظين أنك لا تناديني بإسمي أبدا؟

فقلت باضطراب:

-ربما لأني لا أعلم بأيهما أناديك.

فقال برقة:

-بأقربهما لقلبك

فقلت بخجل:

-إذا فهو محمد، هيا يا محمد لنتناول طعام عُرسنا

فاقترب مني ووضع ذراعه على كتفي وضمني إليه فشعرت بدفء جسده وخفقات قلبه، فجاءت ليزا وقالت ببراءتها:

-لقد ساعدت ندى في إعداد الطعام

فابتعد عني لكنه مازال يحاوطني بذراعه وقال بمرح:

-إذا سيكون لذيذ يا صغيرتي

جلسنا على المنضدة وشرحت له مكونات كل صنف وأنا أضع منه أمامه فتذوق من كل الأصناف، ثم قال:

-طعامكم لذيذ جداً لكنه سيسبب لي السمنة وإن تناولته بانتظام لن أستطيع الحركة وسأعتزل الرياضة

فضحكت وقلت:

-معك حق ولكن لا تخشى من ذلك فهو يحتاج إلى وقت طويل لإعداده وأنا لا امتلك ذلك الوقت، وأخاف على قوامي، لذلك سنكتفي به في المناسبات، ونعيش باقي الأيام على الطعام الصحي فقط.

فابتسم وقال:

-قوامك هكذا أكثر من رائع ولا أمانع إن زاد وزنك قليلاً وخاصة بعد الحمل والولادة

فتوقفت عن الأكل واضطربت ثم قلت:

-هل ترغب في أطفال؟

فقالت ليزا ببراءة:

-أنا أريد العديد من الأخوة

فنظر إلي وقال:

-أنا أعلم أن الشرقيين يحبون الإنجاب أليس كذلك؟

فقلت بجدية:

-نعم ولكن إذا اكتشفت أني لا انجب هل ستتركني؟

فنظر إلي ثم إلى ليزا وقال مبتسماً:

-هل انتهيت من طعامك يا صغيرتي؟

فقالت بحماس:

-نعم هل يمكنني أن ألعب بالدمية يا ندى؟

فقلت بحب:

-بالطبع يا حبيبتي فهي تحب من ينهي طعامه، ويغسل يديه

فاتجهت ليزا إلى الحمام واغتسلت ثم عادت إلى حجرة الجلوس وأحضرت الدمية وجلست لتلعب معها. فتصنعت الانشغال عن سؤالي بجمع الطعام وصنع الشاي فقال لي:

-بالطبع لن أتركك لأي سبب إلا إذا كرهتي الحياة معي،هل تركك زوجك لأنك لا تنجبين؟

فقلت بدهشة:

-لا هو لم يتركني بل أنا من طلبت الطلاق واستخدمت كل الوسائل للحصول عليه والسبب أنه كان متوحشا وكان يضربني ويهينني لأتفه الأسباب رغم أنه حاصل على الماجستير وثري ومركزه الاجتماعي في بلدنا جيد جدا، لكن كل ذلك لا يساوي شئ أمام احتقاره لي وجرح كرامتي.

فاقترب مني وقبلني في وجنتي وضمني إلى صدره العريض بذراعيه القويتين وقال بحنان:

-انسي الماضي، من اليوم لن تجدي معي سوى السعادة والاطمئنان، أعدك بذلك.

لآول مرة أكون بين يدي رجل فارتجف جسدي بشدة فابتعد عني وقال برقة:

-أخرجي إلى ليزا وسأعد أنا الشاي

فقلت بصوت خفيض:

-عندنا هذا لا يصح

فقال هامسا:

-لكنه يصح عندي، وسنتشارك في كل شئ معا.

خرجت وأنا أشعر بالسعادة فلم أكن أتخيل أن ذلك الضخم يحمل قلبا حنون هكذا، كنت أرى من نافذتي مدى اهتمامه ورعايته لزوجته، لكني لم أتخيل رقته وطيبة قلبه.

جلست ألاعب ليزا التي جلست بجواري على الأريكة واحتضنتني وقالت:

-أنا سعيدة أنك لن تتركينا وستعيشين معنا، فقد طلبت من الله أن تكوني أمي وقد استجاب لي وأنا اشكره كثيرا

فقبلتها في جبهتها واحتضنتها بحب وقلت:

-وأنا أيضا دعوت الله أن أكون معكما وقد استجاب لي وأنا سعيدة بذلك

عندها دخل وهو يحمل كوبي الشاي، وجلس بجواري من الجهة الأخرى، فنامت ليزا على صدري أثناء حديثنا فأراد محمد أن ينصرف من أجلها فطلبت منه أن يضعها في سريري ويتركها معي حتى الصباح، فحملها ووضعها في السرير ودثرها جيدا ثم خرج إلي وجلس بجواري وهو يضمني إلى صدره وقال:

-هل تعلمين أن أمها لم تكن تريد أن تنجبها؟ وضغطت عليها لتكمل الحمل، وأنها لم تكن تضمها أو تسمح لها بالنوم بجوارها، بينما كنت أبذل قصارى جهدي لتعويضها، ثم رزقني الله بك لتعوضينا عما كنا نفتقده

فشعرت بالخجل فاقترب مني كثيرا وقال بخبث:

-هل صحيح ما سمعته؟

فقلت بدهشة:

-ماذا سمعت؟

فقلت بهمس:

-أنك دعوت الله أن أكون لك؟لا تخجلي فقد دعوت الله أنا أيضاً بذلك.

ثم بدون أية كلمات اقترب مني ومنحني قبلة أشعلت النيران في جسدي وجعلتني أرتعش بين يديه، فابتعد وهو يلهث وقال بجدية:

-ما بك؟ لم ترتجفين كلما لمستك؟ هل تشعرين بالنفور مني؟

فقلت بدون تفكير:

-لا بالعكس...لكني لست معتادة عليك بعد

فابتسم وقال:

-عندما نتزوج ستعتادين على ما هو أكثر من ذلك

فاحمرت وجنتي وضربته بقبضتي في صدره وقلت:

-إنك عديم الحياء

فضحك بشدة وقال:

-أنا اعشق الحياء الشرقي فله مذاق مختلف

ثم قبلني على جبيني وقال:

-سأنصرف الآن وسآتي إليك في الصباح، هل أتصل هاتفيا قبل صعودي؟

فابتسمت وقلت بمشاكسة:

-بلى لأستعد لاستقبالك كما يليق بك.

فقال بهمس:

-تصبحين على خير يا زوجتي الخجولة.

انصرف وأغلقت الباب ووقفت وراءه وأنا أرتجف من فرط سعادتي وقلت:

-تصبح وأنت معي دائما وفي قلبي يا زوجي الحبيب.

الفصل العاشر

تلك القصيرة التي شغلت تفكيري وجعلت قلبي يخفق كما لم يفعل من قبل فقد أحببت في مراهقتي زميلة الدراسة، وظننت أني أحببت ماري لسنوات، لكني لم أشعر يوما بذلك الاضطراب في قلبي كما أشعر مع ندى. إنها مختلفة عن الجميع، كذلك مشاعري تجاهها مختلفة، والعجيب أني أشعر أنها تبادلني نفس المشاعر لكنها تعيش في صراع بين حبها لي وتعاليم دينها الصارمة التي تُحرم عليها الحب، وبسببها كلما اقتربت منها أبعدتني، كلما حاولت البعد لا أستطيع فهي ملء قلبي وسمعي وبصري.فكان الحل الأمثل من وجهة نظري أن أتعرف على دينها وتعاليمه لأعرف ما الوسيلة التي تقربني إليها وتجعلها راضية وسعيدة.ذهبت إلى المركز الإسلامي فقابلني على الباب شاب أسمر يميل إلى السمنة بشعر أسود مجعد وعيون سوداء وابتسامة مُريحة وسألني عما أبحث عنه فعرفته بنفسي وأخبرته أني أريد معرفة كل شئ عن الإسلام فابتسم وعرفني بنفسه فهو طبيب واسمه عمر وتذكرت على الفور أني رأيته من قبل وذكرته بنفسي فرحب بي، واصطحبني إلى أحد الكبار في المركز الذي تبدو عليه الهيبة والوقار فأرشدني إلى أسماء بعض الكتب المتوفرة للقراءة المجانية ورحب بوجودي في أي وقت، وأخبرني ٱن أردت مناقشة أي شئ ألا أتردد في زيارته ومناقشته ومنحني بطاقة مدون فيها اسمه ورقم هاتفه وكتب لي مواعيد تواجده في المركز. اصطحبني دكتور عمر إلى المكتبة ودلني على الكتب وتركني لأقرأ وأفهم، قرأت بنهم وخاصة كل ما يتعلق بالنساء وتعجبت من ذلك التشدد والقهر فيما يخصهن، وأثناء خروجي تناقشت في ذلك مع دكتور عمر الذي أوضح لي أن ذلك ليس تشددا بل رغبة في حمايتهن وصيانتهن من كل سئ الأخلاق، عديم المروءة، فتعجبت من ذلك الدين  وقررت أن أفهم أكثر لذلك خصصت من وقتي بعض الوقت لأقرأ عنه حتى لو من خلال الهاتف او اللاب توب.

قرأت كثيرا وفي كل مرة كنت أناقش دكتور عمر أو الرجل ذو الهيبة وعرفت أن اسمه الشيخ عبد الرحمن، وبعد فترة وجدت قلبي ينشرح لذلك الدين فقد وجدت فيه تعاليم وتسامح ورحمة كنت أبحث عنها، كما أنه يتحدث عن المساواة بين كل البشر بمختلف ألوانهم وأجناسهم، كما أعجبني أنه يمنح المرأة العديد من الحقوق ويفرض على الرجل أن يعتني بها وينفق عليها سواء كان أب أو أخ أو زوج أو حتى ابن. فكرت كثيرا وقررت أن اعتنق  من الإسلام ليس من أجل ندى وزواجي بها، فحتى إن رفضتني سأظل مسلماً، فقد اقتنعت أنه الدين الحق.

اتصلت بعمر وطلبت لقاؤه مع الشيخ عبد الرحمن وأعلنتهما برغبتي في الدخول في الإسلام، بدت عليهما السعادة الشديدة، واحتضنني عمر وهو يبكي بشدة من السعادة واصطحبني الشيخ عبد الرحمن  إلى مدير المركز وهناك أشهرت إسلامي ورغبت في تغيير اسمي من چون إلى محمد، فاقترح علي عمر أن أسمي نفسي محمد چون حتى لا يحدث ارتباك وخاصة من أجل ليزا فوافقت.

بدأت رحلة شاقة في الالتزام بتعاليم الإسلام وخاصة الحفاظ على الصلوات، حيث كانت من أصعب الأمور على قلبي، ولكني كنت أبذل قصارى جهدي للالتزام بها وأدائها في مواعيدها، كذلك امتنعت عن الخمر ولم يكن ذلك أمر شاق لأني كنت مبتعدا عنها بسبب ممارسة الرياضة.

قررت أن أمشي طريقي في البداية بمفردي ولا أخبر ندى شيئا عن إسلامي حتى أستطيع قطع شوطا لا بأس به في التزامي ثم أخبرها برغبتي في أن تشاركني حياتي بعد ذلك ، وسواء وافقت أم لا سأبقى على ديني وأحاول أن أنتظم في أداء العبادات.كنت أراها من بعيد في المركز الإسلامي فأختفي عن انظارها حتى لا تراني ولا تعرف بإسلامي من أحد، وذات يوم رأيتها تتحدث مع عمر وامرأة أخرى، فلما سألته عنها أخبرني أنها صديقة زوجته منذ اليوم الذي تبرعت لها بدمائي وأنقذتها من الموت،فحكيت له عن إعجابي بها ورغبتي في الزواج منها ، فسكت قليلا ثم قال:

-أمن أجلها أسلمت؟

فقلت له بجدية:

-لو كان من أجلها لأخبرتها منذ أول لحظة، لكني مازلت أخفي عنها إسلامي حتى أثبت على أداء الصلاة على الأقل وبعدها أعلنها برغبتي في الزواج.

فقال بتساؤل:

-وإن رفضتك هل ستترك الإسلام؟

فقلت بلا تفكير:

-لا فقد وجدت نفسي التائهة في دروب الحياة عندما اعتنقته.

فربت على كتفي وقال:

-ثبتنا الله وإياك على دينه،ندى بمثابة أخت لي وعندما تقرر مفاتحتها في الزواج دع الأمر لي وإن شاء الله سيكتب لكما كل الخير.

سعدت كثيراً بمؤازرته لي وشعرت أن الله أراد أن يهديني أولا لأستحق ندى، فتكون هي مكافأة صبري والتزامي، خاصة مع هجوم أمي الضاري علي ورفضها تماماً لإسلامي،كذلك يقف إخوتي في صفها، بينما أبي وصوفي يلتزمان الصمت.

بعد فترة شعرت بحاجتي إلى ندى بجواري لتساندني في طريقي، ولأني أحتاجها كزوجة تشبع احتياجاتي، لكن مازال بداخلي خوف من الغدر كما فعلت بي ماري، إلا أني قلت لنفسي ندى مختلفة وحتى إن كرهتني لن تخونني، على الأقل دينها يمنعها من ذلك، فقررت أن أتحدث مع عمر و أطلب منه تحديد موعد مناسب لمقابلتها والحديث معها. اتصلت بعمر وطلبت منه أن يكون وسيطاً بيننا فقال لي أنه سيترك الأمر لزوجته لترتبه، وبعد يومين اتصل بي وأخبرني أن هناك عقد قران في المركز الإسلامي يوم الجمعة وأن ندى ستحضره ويجب أن أكون موجوداً، بقدر سعادتي بلقائها، كان خوفي من الخطوة المقبلة فدعوت الله أن ييسر لي الخير الذي يرضاه لي.بمجرد أن رأيتها شعرت بخفقات قلبي، وكم كنت متألماً عندما وجدتها وعينيها فقدت بريقها ولمعانها، وصممت أن أدخل السعادة على قلبها وأن أجعلها تستعيد ابتسامتها. وقفت أمامها وهي تقدم لي الحلوى وابتسمت وبمجرد أن تلاقت أعيننا شعرت باضطراب لذيذ في قلبي وخفقاته تتلاحق،كذلك ظلت هي تنظر إلى دون أن تشيح ببصرها عني كما اعتادت، وكأننا تلاقينا بعد سنوات فراق عديدة، وارتوت عينانا بعد طول ظمأ وشوق. كنت لا أشعر بمن حولي أو أراهم حتى أفاقني صوت دكتور عمر وهو يدعونا للحديث معا في اليوم التالي في بيته. كم شعرت بالسعادة لأني سأكون معها وأبوح لها بما في قلبي. انشغلت في الحفل عنها بالحديث مع بعض المعارف من المركز الإسلامي، كما حاولت بقدر الإمكان أن أغض بصري عنها حتى لا نبدأ قصتنا بالذنوب.

كنت أعد الدقائق حتى نلتقي في اليوم التالي وعندما التقينا في مدخل البناية لم أستطع غض بصري عن وجهها الجميل الذي يملأ قلبي بالراحة والسكينة وابتسامتها التي تنير حياتي. صعدنا عند دكتور عمر الذي رحب بنا بشدة هو وزوجته وبعد فترة تركانا معا لنتحدث فسألتني وأجبتها بكل شئ ولكني لم أخبرها أني أحبها ولا أريد سواها بل ادخرت ذلك الاعتراف ليوم زواجنا. عقدنا القران وأنا أدعو الله أن تكون هي. خير عوض لي ولابنتي، وأن نكون عونا لبعضنا على طاعته، وبدأت التقرب منها لأظهر لها حبي ومشاهري الفياضة، لكني لاحظت ارتجافها كلما قبلتها او ضممتها إلى صدري فسألتها هل تشعر بالنفور مني فنفت ذلك وبررته بأنها مازالت غير معتادة علي وتحتاج بعض الوقت  فالتمست لها العذر لأني رأيت في نظرتها ولهفتها وطريقة تعاملها معي كل الحب. بدأت رحلة البحث عن شقة وبعد يومين أخبرتني أن هناك شقة في عمارتهم ستخلو في أول الشهر وأن إيجارها مماثل لإيجار شقتي، فسعدت بذلك وذهبت إلى صاحبة العمارة التي حضرت عرسنا وتعرفني جيدا واتفقت معها. بدأت ندى تستعد بشراء احتياجات العروس، وكذلك حضرت صوفي لشراء ما ينقصها فلم تتركها ندى بل استضافتها في شقتها وصارتا صديقتين وسعدت بذلك كثيراً وأخبرتنا صوفي أنهم حددوا الأسبوع المقبل كموعد للزفاف واكدت على ندى بضرورة الحضور لأنها ستكون أشبينتها فتساءلت ندى هل الحجاب عائق فنفت صوفي ذلك وأصرت على أن تكون ندى بجوارها في تلك الليلة. فوافقت ندى بسعادة واشترت لها ولليزا فستانين متشابهين في اللون كباقي الأشبينات، فسعدت ليزا بذلك كثيراً وظلت تحلم بيوم العرس والاحتفال الذي لم تحضر مثله من قبل.

ذهبنا مساء الجمعة إلى بيت أبي فوجدنا الجميع في حالة استعداد وصخب الأطفال يملأ البيت فسعدت ليزا كثيرا وبعد أن سلمت على الكبار انطلقت بسرعة لتشارك أبناء إخوتي صخبهم، رحب الجميع بندى ولكنهم كانوا يعاملونها بتحفظ لأنها شرقية ومسلمة، إلا أن صوفي كسرت ذلك الجمود واصطحبتها لغرفتها وظلا يتحدثان حتى حان موعد العشاء فتناولناه معا، لأول مرة منذ فترة طويلة تجتمع كل الأسرة على العشاء من أجل وداع صوفي التي ستعيش في  برايتون. لأول مرة منذ زمن أشعر بدفء الأسرة وأهمية تجمع العائلة مهما اختلف أفرادها، ونظرت إلى ندى وشعرت بالشفقة من أجلها فهي بلا وطن ولا أسرة فقررت أن أكون أنا كل أسرتها ويكون قلبي موطنها. أفقت من أفكاري بعد انتهاء العشاء على صوت أمي وهيف تقول لندى:

-يمكنك ان تستريحي وتنامي مع چون في غرفته

فنظرت إلي ندى بذهول فقلت مسرعاً:

-ألم أخبرك يا أمي أنها لا يمكنها أن تنام معي في غرفتي؟

فقالت أمي بلامبالاة :

-ألم تصبحا زوجين أم أنها تتمرد عليك وتفرض شروطها من البداية كعادة النساء معك؟

غضبت وظهر ذلك جلياً على وجعي فقالت صوفي:

-بل ستنام ندى معي الليلة في غرفتي وخذ أنت ليزا معك

فقالت أمي :

-هذا لا يصح كما أنك تحتاجين إلى الراحة لتكوني مشرقة غداً

فقالت صوفي بإصرار وهي تجذب ندى نحو غرفتها:

-بل كل شئ مباح من أجل العروس وليلتها الأخيرة في بيت أهلها

وانطلقتا دون أن يهتما برد فعل أمي، فالتفت إليها وقلت بهدوء:

-لم تصممين أن تفسدي سعادتي في كل مرة؟

فانفجرت غاضبة بقولها:

-ولم تحظ عاهراتك بكل الحب والاهتمام اللذين لم أحظ بهما يوماً؟

نزلت  كلماتها كالصاعقة على رؤوسنا جميعاً وتركتنا وانصرفت إلى حجرتها كالعاصفة، وتوجهت الأنظار صوب أبي الذي قال بهدوء يُحسد عليه:

-لقد كانت دوما تسخر من الحب والمشاعر وتؤكد أنهما ضعف ومراهقة، فلم تبحث عنهما الآن؟ هذا هو اختيارها من البداية وعليها أن تتحمل نتائجه ولا تلوم الآخرين عليه.

قالها وانصرف بهدوء إلى الخارج وتركنا جميعاً في حالة تخبط. انتهى العشاء نهاية درامية وأدركت حينها أن أمي تغار من أية امرأة تحظى بحب زوجها وخاصة زوجات أبنائها لذلك أصرت زوجات إخوتي على الحياة بعيدا عنها في بيوت مستقلة حتى لا تصب عليهن جام غضبها ليل نهار.

الليلة نهاية درامية بفضل أمي وفي الصباح كان البيت كله كخلية نحل، فالكل يستعد من أجل العرس. وكان علي أن أصطحب ندى وصوفي إلى الكنيسة من أجل مراسم الزواج، وبمجرد أن انتهى استعدادهما ظهرت ليزا أولا وهي سعيدة بفستانها السماوي الفاتح الذي يشبه فساتين الأميرات وظلت تدور حول نفسها لتريني مدى جماله، ثم تلتها ندى بنفس لون الفستان ونفس الموديل لكن بأكمام وغطاء رأس، ثم أخيراً ظهرت صوفي بفستانها الأبيض الذي بدت فيه كالملائكة والسعادة والاضطراب ظاهرين على وجهها، فابتسمت وقلت بفخر:

-أنا اليوم أسعد رجل في العالم فلدي أجمل نساء العالم، ولي شرف اصطحابهن.

فابتسمن جميعاً فقبلت وجنة صوفي وتمنيت لها السعادة،ثم أمسكت بيدها هي وندى وليزا تسير أمامنا بسعادة حتى توجها إلى سيارتي وركبت ليزا بجوار صوفي في الخلف أما ندى فجلست بجواري، فحمدت الله على نعمة وجودهن في حياتي.

عندما دخلت ندى الكنيسة كأشبينة لصوفي أثار ذلك تعجب الجميع لكن سرعان ما أخفوا ذلك، ومضت إجراءات الزواج وعهوده، ثم اتجهنا جميعا إلى بيت أبي حيث يُقام في الحديقة حفل الاستقبال.

تعرف جميع الجيران والأصدقاء على ندى وهنأونا على قرب زفافنا، وانتهى الحفل بانصراف صوفي مع زوجها لقضاء شهر العسل، بينما صممت أنا على العودة إلى لندن حتى لا تسبب أمي حرجاً لندى، ولكن أمي طلبت مني البقاء، وطلبت من ندى المبيت في حجرة صوفي، فشكرتها ندى واصطحبت ليزا لتنام معها، وكانت ليزا في قمة سعادتها.

ورغم ارهاقنا في العرس فوجئت باستيقاظ ندى مبكراً هي وليزا، وانطلقت ليزا لتلهو مع الأطفال بينما أصرت ندى على أن تعد هي طعام الإفطار لترتاح أمي قليلاً من إرهاقها، فاسعدتني تلك اللفتة الرقيقة منها، كما ظهر الرضا على وجه أمي.تناولنا الإفطار مع أبس وأمي وقد أبدى أبي إعجابه بالطعام، فقلت له مازحاً:

-لا تعتاد على ذلك وإلا اعدت لك مأكولات شرقية لذيذة لكنها كثيرة الدسم

فقالت ندى بمشاكسة:

-عقابا لك على سخريتك سأعد اليوم طعاماً مصريا لذيذا منخفض السعرات وسأنتظر لأعرف رأيكم.

فضحكت أنا وأبي الذي قال بمرح افتقدناه جميعاً منذ زمن:

-كم أتوق لذلك العقاب اللذيذ

أصرت ندى على ان تبقى أمي مع ليزا والأطفال وقامت هي بإعادة ترتيب البيت وإعداد الطعام الذي أخبرتنا به، وفوجئنا عند تناوله أنه لذيذ فهو مكون من مكرونة وأرز وعدس وبعض المكونات الأخرى التي منحته مذاقا لذيذا وأخبرتنا ندى أن المصريين يسمونه (كُشري) أي مزيج بين عدة أصناف، شكرها أبي على ما صنعته فوعدته في كل زيارة أن تعد لنا صنف جديد، فضحك أبي وطلب منها أن تأتي في نهاية كل أسبوع.

بدا الرضا إلى حد ما على وجه أمي وخاصة عندما ودعتها ندى وقالت لها بصوت منخفض لكني سمعته لقربي منهما:

-مكانتك في قلب ابنك لن تستطيع أية امرأة أن تأخذها إلا إذا تنازلت عنها بإصرارك على إبعاده عنك.

انصرفنا وأنا أتعجب من تلك المرأة التي أكتشف بها كل يوم شئ مختلف، نظرت إليها متعجباً فقالت مبتسمة:

-ما بك؟

فقلت لها بدهشة:

-توقعت بعد ما فعلته أمي ان تثوري وتغضبي وتطلبي مني أن نغادر فوراً لا أن تساعديها وتصنعين الطعام

فقالت بجدية:

-أولا هي أمك ولها كل الاحترام والتقدير، كما أنها تشعر بالغيرة ويجب اخذ ذلك في الاعتبار، كما أن مجهود العرس استنزف طاقتها النفسية والجسدية وتحتاج لبعض الراحة وطالما بإمكاني مساعدتها وإدخال بعض البهجة على نفسها فلماذا لا أفعل؟

فقلت بحزن:

-هل سمعتيها وهي تصرخ طلبا للحب والاهتمام؟

فقالت:

-لا لم أسمعها ولكن شعرت بها فهي تحمل العبء وحدها وقد كبرت في السن، كما أن فراق صوفي لابد وأنه أثر عليها

نظرت إليها غير مصدق أن تلك الصغيرة تحمل ذلك العقل الكبير والقلب الرحيم، فسألتها:

-هل أنت جادة بشأن تكرار الزيارة؟

فنظرت إلي بتعجب وقالت:

-ألا تعرف أن ديننا يحضنا على صلة الرحم والبر بالوالدين؟

فقلت بهدوء:

-نعم أعرف ولكنهما ليسا على دينك وليسا أبويك

فابتسمت وقالت:

-إن لم أساعدك على برهما سيرسل لي الله فيما بعد من يمنع أولادي عن بري، كما أن الرجل الذي لا خير لأهله فيه أخاف منه، فمن يفرط في أهله، يسهل عليه التفريط في أي شخص أخر.

كنت في الماضي معجبا بندى الخجولة، التي تكتم مشاعرها احتراماً لدينها، لكني اليوم معجب بتلك العاقلة المتزنة التي تخشى الله في كل تصرفاتها. أمسكت بيدها وقبلتها بحنان وقلت لها:

-كم كنت محتاج لك لتأخذي بيدي إلى الطريق القويم.

فنظرت إلي بحب مشوب بالخجل الشرقي الذي أعشقه وقالت بصوت رقيق:

-وكم كنت أحتاج إلى وجودك في حياتي القاحلة الباردة لتملأها بحبك واهتمامك.

مضت بنا الأيام ونحن نستعد للزفاف وأنا أحاول بقدر الإمكان أن أسيطر على نفسي ومشاعري حتى لا أنجرف في رغبتي القوية بها إلى ما هو ممنوع.اقترب موعد الزفاف وأصررت على ارتداءها لفستان زفاف لتشعر بالسعادة ككل فتاة وعندما حاولت الرفض بحجة أنها مُطلقة وأن أثواب الزفاف باهظة الثمن، حلت لنا زوجة دكتور عمر المشكلة بأن أعارتها فستان زفافها بعد إجراء بعض التعديلات عليه.

حان موعد الزفاف في المركز الإسلامي وحضرت كل أسرتي وكذلك صوفي وزوجها وبعض الأصدقاء المقربين، ووزعت النساء الحلوى على الجميع وبعد انتهاء الحفل حاولت أمي ان تصطحب ليزا معها لتترك لنا الفرصة للاستمتاع معاً ولكن ندى رفضت وأصرت على بقائها معنا  بل وأمسكت يدها لنصطحبها معنا، كم سعدت ليزا بذلك وأنا أيضاً.

 ركبنا السيارة وأنا في منتهى السعادة وليزا ظلت تحكي لي عما شاهدته وفعلته وأنا أستمع بينما ندى صامتة ويبدو عليها الارتباك،فقلت ربما ككل عروس تشعر بالارتباك عندما تبدأ حياة جديدة. صعدنا إلى شقتنا وتركت ندى لتبدل ملابسها فكما علمت من دكتور عمر يجب أن نصلي معا ركعتين، وادعيت الانشغال بليزا التي بدأت هي الاخرى تبديل ملابسها ورفضت تناول الطعام لأنها تناولت كمية كبيرة من حلوى العرس فطلبت منها أن تغسل أسنانها وجلست بجوارها حتى تنام فثابت لي بسعادة:

-أنا سعيدة يا أبي ان ندى ستصبح أمي، أرجوك لا تغضبها حتى لا تتركنا هي أيضاً، وأنا اعدك ساكون مطيعة حتى نظل معا.

فقبلتها وقلت لها:

-أعدك أني لن أغضبها

أمسكت ليزا بيدي ونامت وهي مبتسمة وأنا سعيد لسعادتها. تركتها وذهبت إلى غرفتنا وطرقت بابها ففتحت لي ندى وهي ترتدي زي الصلاة فقلت لها:

-لحظات سأبدل ملابسي واعود لنصلي معا

فأومأت مبتسمة، بدلت ملابسي وتوضأت وناديتها لنصلي معا، كنت أشعر بالارتباك لأنها أول مرة تسمعني وأنا أصلي واقرأ القرآن، ختمت صلاتي بالدعاء وقبلتها في جبينها فنهضت بارتباك وقالت:

-سأحضر العشاء فأنت لم تأكل شيئا طوال اليوم

فقلت هامسا وأنا أقترب منها:

-أنا لا أريد سواكِ

فابتعدت بارتباك ظاهر وبدأ جسدها يرتجف فقلت بجدية:

-ندى ماذا بك؟ هل تخافين مني أم أنك تشعرين بالنفور؟

فنزلت دموعها فأربكتني ومددت يدي ومسحت دموعها وقلت لها بحنان:

أخبريني بكل مخاوفك ولا تخشي شيئا

فقالت بخوف:

-زواجي الأول لم يكن طبيعياً كأي زواج إذ أن زوجي كان يعاني من عجز جنسي وكلما فشل كان ينهال على ضربا وسباباً، وفي أخر مرة تناول المنشطات التي منحته القدرة لكنه كان قاسي القلب ومتحجر المشاعر فلم يهتم بأن يجعلني اتقبله إنما لجأ للاغتصاب ليصل إلى غرضه ولم يكتفِ بمرة واحدة بل بعدة مرات متتالية وعندما حاولت مقاومته كسر ذراعي، واستسلمت له من رعبي وضعفي حتى أني غبت عن الوعي وهو لا يدرك ذلك وأفقت في المستشفى ومن يومها لم يلمسني رجل وعندما كنت تلمسني رغم حبي لك واحساسي بالأمان معك، إلا أني كنت أتذكر ما فعله بي وأرتجف خوفاً رغما عني.

سكت للحظات من هول ما سمعت، ثم تمالكت نفسي وتذكرت وجودها في المستشفى فسألتها:

-هل كان ذلك يوم أن تبرعت لك بالدم؟

فأومأت بالإيجاب وقالت بخجل وهي تتحاشى النظر إلي:

-يبدو أن قدرك دائما أن تنقذني

فرفعت رأسها لتنظر في عيناي وقلت:

-لقد وضعنا الله في طريق بعضنا لننقذ بعض ونأخذ بيد بعض إلى الطريق الصحيح.

ضممتها إلى صدري وقلت لها:

-أنا جائع هل لدينا طعام أم أطلب من المطعم المجاور؟

فابتسمت وقالت:

-من عاداتنا إعداد طعام للعروسين وميسون أعدت لنا الطعام هيا أجلس وسأعده لك

فقلت مبتسماً :

-بل سأعده معك

دخلنا معا المطبخ وأعددنا الطعام معا وتناولناه وأنا أحكي لها مواقف من حياتي ونضحك معا، وبعد أن انتهينا ساعدتها في غسل الأطباق وترتيب المطبخ ثم طلبت منها ان تجلس بينما أعد الشاي، فجلست على الأريكة أمام التليفزيون وكانت تتابع أحد المسلسلات التركية، فأحضرت الشاي وجلست بجوارها وتحدثنا كثيرا حتى أنها غفت على كتفي فحملتها ووضعتها في السرير وأنا أنظر إليها بشفقة لأنها قاست كثيراً، ثم نمت بجوارها واحتضنتها وأنا أتمنى لو أن باستطاعتي محو الزمن حتى لا يبقى في ذاكرتينا سوى أنا وهي فقط.

في اليوم التالي استيقظت ندى وهي تشعر بالخجل مني وتهربت وادعت الانشغال بإعداد الإفطار، فاغتسلت وصليت وذهبت خلفها إلى المطبخ وقبلتهما وجلسنا نتناول الإفطار في مرح ، ثم طلبت منهما الاستعداد لقضاء اليوم بأكمله في الخارج، طارتا من السعادة وارتدتا ملابسهما بسرعة وذهبنا إلى التنزه ثم اصطحبتهما إلى الملاهي فلعبتا بمرح وصخب، ثم ذهبنا لتناول الغداء، ثم تركنا ليزا مع صاحبة البيت ودخلت مع ندى السينما حيث أخبرتني أنها تحب الأفلام والقصص الرومانسية. حرصت خلال وجودي معها على ملامستها باستمرار حتى انزع الخوف من قلبها. وبعد أن انتهينا اردت أن نتعشى سويا فقالت بخجل:

-دعنا نتعشى في البيت مع ليزا أفضل لتشعر بالطمأنينة وحتى توفر مالك

فابتسمت وقلت

هل تخشين على مالي في شهر العسل؟

فقالت بجدية:

-نحن لسنا أثرياء وليس لدينا رفاهية الإنفاق بسخاء، فلابد أن ندخرمن أجل المستقبل.

فنظرت إليها وتذكرت ماري ومشاجرتها معي من أجل إنفاقها مرتب أسبوع في يوم واحد على شراء فستان أعجبها وبقينا من غير طعام لولا أني كنت ادخر مبلغا من المال لإصلاح السيارة لمُتنا جوعا، وفابتسمت وقلت لها :

-كل يوم أكتشف بك صفة جديدة فاليوم انت وزيرة اقتصاد أسرتنا

فضحكت وقالت بخجل:

-أتمنى ألا يأتي يوم تندم فيه على الزواج مني

ركبنا السيارة وقلت:

-لن أندم أبدا

فقالت بحزن:

-حتى بعد ما اكتشفته أمس؟

فقلت بجدية:

-ما حدث معك لست مسئولة عنه وطبيعي أن يترك بك بعض الأثر وأنا متفهم لذلك.

فنظرت إلي بارتباك وقالت:

-أعلم أنك لو أردت الحصول على حقك لن أمنعك ولكني فقط أحتاج إلى بعض الوقت ليس أكثر حتى أتخلص من مخاوفي.

فسألتها بجدية:

-هل تحتاجين إلى معاونة طبيب؟

فقالت بدون تفكير:

-لا يمكنني تخطي الأمر وحدي

فأمسكت بيدها وقبلتها وقلت لها:

-خذي كل الوقت الذي تحتاجين فأنا كل ما يهمني وجودك معنا، وعندما تشعرين بالاطمئنان ستذوب كل الحواجز بيننا وحدها.

عدنا إلى البيت واصطحبنا ليزا وتعاوننا في إعداد الطعام، وتناولناه، ثم ذهبت ليزا إلى النوم بصحبة ندى واغتسلت أنا وصليت ثم استلقيت على السرير وانتظرت ندى حتى بدلت ملابسها واغتسلت وصلت وكانت مرتبكة فطلبت منها أن تأتي بجواري فجاءت على استحياء، فقلت لها:

-غدا سأعود إلى العمل فإن أردت أن تبقي في أجازتك فلا بأس

فقالت بحماس:

-لا بل أريد الذهاب إلى عملي وسأصطحب ليزا معي

فجذبت يدها وقلت لها:

-إذا حان وقت النوم هيا تعالي

فاضطربت واحمرت وجنتاها فجذبتها نحوى واحتضنتها ونمت، أنا فقط أريدها أن تشعر بالأمان وتعتاد وجودي بجوارها، بعد عدة دقائق نامت بعمق فقبلتها ونمت وأنا أدعو الله أن يمن علينا بالسعادة.

مضى علينا أسبوعين ونحن نعمل ونتلاقي في الصباح عندما أقوم بإيصالهما إلى الحضانة بسبب البرودة الشديدة، وفي المساء عندما اعود من عملي ونجلس لنتناول العشاء وكل منا يحكي ماذا فعل في يومه، وينتهي اليوم بنوم ليزا في غرفتها وندى في حضني، وفي يوم الأجازة دعانا دكتور عمر وزوجته على الغداء وقضينا وقت لطيف معهما، وفي اليوم التالي قضينا معظم الوقت بالمركز الإسلامي حيث بدأت ليزا تحفظ القرآن ثم بعدها تلعب مع الأطفال، بينما كنت أحضر درس فقه أتعلم فيه المزيد عن ديني وتلاه درس لتعلم قراءة القرآن بشكل صحيح. وفي  أجازة الأسبوع الثاني دعتنا والدتي لزياتهم، فوافقت ندى وغادرنا يوم الجمعة بعد العمل وانطلقت ليزا لتلهو مع الأطفال، بينما استقبلتنا أمي بتحفظ وهمست لي وقالت:

-كيف حالها معك؟

فاندهشت من تدخلها ولكني سرعان ما تمالكت نفسي وقلت لها :

أكثر من رائعة

فنظرت إلى ندى وقالت:

-هل ستنامين معه تلك المرة ام تتمردين عليه أيضاً؟

لم تفاجئني كلمات أمي بقدر ما فاجئتني جرأة ندى عندما اقتربت مني وشبكت ذراعها بذراعي وقالت بدلال:

-بالطبع سأنام معه فأنا لا أستطيع الابتعاد عنه

فدخل أبي وسمع كلمات ندى ورأى تأثيرها على وجه أمي فقال ضاحكاً:

-مرحبا بزوجة ابني الشرقية التي ستعد لي الطعام اللذيذ

فقبلت ندى يده وقالت بكل احترام:

-مرحبا بك يا أبي، يسعدني أن اعجبك طعامي ولكني تلك المرة سأصنع لك حلوى شرقية ستعجبك

فقال بمودة:

-بالتأكيد ستعجبني إن كانت لذيذة مثلك

فنظرت إليه بتعجب وقلت محذراً:

-أبي مابك؟ اتغازلها؟

فضحك وقال:

-لابد ان يفعل أحدنا ذلك

ثم اقترب مني وقال بصوت منخفض:

-أنا فقط اشجعها لتصنع لنا كعام مختلف عما اعتدناه لسنوات

ابتسمت وذهبنا جميعا لتناول العشاء فأبدت ندى إعجابها بطعام أمي وقالت لها :

-سلمت يداك الطعام لذيذ حقا هل يمكنني أن أحصل على الطريقة لأعده في البيت؟

نظرت إليها أمي بشئ من الفخر وقالت وهي تنظر إلى أبي بتحدي:

-سأعطيك الطريقة ولكن ليست هي المهمة بل القدرة على التنفيذ بصبر ودقة واتقان

فابتسمت ندى وقالت:

-أعلم وفي مصر يطلقون عليها ( النَفَس) فليست كل امرأة تستطيع صنع الطعام بنفس الجودة.

ابتسمت أمي بانتصار وهي تنظر إلى أبي الذي لم يبال. انتهينا من العشاء وصعدت إلى غرفتي بينما ذهبت ندى مع ليزا إلى غرفتها المجاورة لنا حتى تبدل لها ملابسها وتضعها في فراشها ثم جاءت إلى غرفتنا. ابتسمت لها وقلت:

-اليوم اكتشفت أنك ماكرة

فقالت بدهشة:

-أنا؟ لماذا؟

فقلت بمشاكسة:

-لأنك احتضنتيني أمام أمي وهو مالاتفعلينه ونحن وحدنا

فاحمرت وجنتيها وقالت:

-خفت ان تعرف أمك بطبيعة علاقتنا وعندها لن ترحمني

فاقتربت منها وضممتها إلى صدري وقلت بحنان:

-لن يستطيع احد أن يؤذيك حتى بالكلام مادمت موجوداً

فضمتني لأول مرة بيديها الصغيرتين وقالت ضاحكة:

-عندما رأيتك أول مرة وأنت تضرب ذلك اللص قلت إن ذلك الضخم لابد أن يكون قاسي القلب وعنيف.

فقبلتها في وجنتها وقلت هامسا:

-ثم ماذا اكتشفتي؟

فقالت بخجل:

-أحن قلب ورجل أحتمي به

فقلت بسعادة:

-حقا يا ندى؟

فقالت:

-لو قضيت عمري كله أشكر الله لأنه جعلني زوجتك لن يكفي عمري بل سأحتاج لعمر آخر

لم أستطع تمالك نفسي أمام اعترافها الذي طالما تُقت إليه، فغمرتها بقبلاتي ثم ابتعدت عنها حتى أستطيع التحكم بنفسي، فأنا اريدها ان تكون لي بكامل إرادتها. شعرت باستجابتها للمساتي وأنها لم تعد ترتجف كما كانت في السابق، لكني أردت أن أمنحها الفرصة كاملة حتى لا تخشاني. قبلت وجنتها وقلت لها :

تصبحين على خير يا حبيبتي

دخلت الحمام المجاور لغرفتنا ثم عادت وهي تضع إزاراً فوق ملابسها، ثم أضاءت  المصباح الجانبي وخلعت الإزار ففوجئت بها ترتدي أسفل منه قميص نوم أحمر قصير يظهر مفاتنها وجمالها بسخاء، ولم تكتف بذلك بل اندست تحت الغطاء واحتضنتني وقبلتني في وجنتي فأدركت أنها دعوة منها، فغمرتها بقبلاتي وغرقنا معا في بحر الحب وحرصت أن أكون رفيقا بها حتى لا أؤذيها ولا أخيفها، وبعد أن انتهينا قلت لها هامساً:

-هل أنت بخير؟

فقالت بخجل وهي تدفن رأسها في صدري:

-لم أكن في يوم أفضل من الآن.

فقبلت جبهتها وضممتها إلى صدري، وأدركت أني دخلت جنات النعيم بوجودي بقربها لأنهل من أنهار عسلها وحبها.

استيقظت في اليوم التالي فوجدت رأسها اتخذ من صدري وسادة لها ويديها تحيطان بي، فقبلت جبهتها وقلت:

-صباح الخير يا جميلة

فقالت بخجل:

-صباح الخير يا حبيبي

فقلت بتعجب:

-حبيبك؟ هل حقا تحبينني؟

فثابت وهي تقبل وجنتي:

-لا بل أعشقك ولم ولن أعشق سواك

فقلت لها بمكر:

-إن بقينا هنا نتغزل ببعضنا ربما ستقتحم أمي غرفتنا وتضربنا لأننا معدومي الحياء ولا نحافظ على نظام البيت

فضحكت بمجون جعل خفقات قلبي ترتفع وقالت:

-لا أقدر على غضب والدتك ولكن دعنا نغادر بعد الغداء

فقبلت جبينها وقلت:

-أمر حبيبتي

نهضت من الفراش وسبقتني إلى الحمام لتغتسل، ثم عادت وبدلت ملابسها وذهبت إلى ليزا فعاونتها على تبديل ملابسها واصطحبتها لتناول الإفطار ولحقت بهما فقالت أمي بحنق:

-ألا تعلمان أن للبيت قواعد؟ وأني لا اسمح بتغييرها؟

فقلت لها:

-نعتذر عن التأخير فقد كنا مرهقين

فقالت ليزا ببراءة:

-أريد إفطاري بسرعة حتى ألحق بالأطفال

فنهرتها أمي،فبكت ليزا فقالت لها ندى بهدوء:

-جدتك على حق اجلسي وتناولي إفطارك أولا ثم اذهبي للعب كيفما تشائين لكن لا خروج قبل تناول الإفطار

فاستجابت لها وجلست بهدوء وتناولت إفطارها وقبل ان تخرج للحديقة قال لها أبي مبتسماً:

-هل تذهبين دون أن تقبلي جدك العجوز؟

فقالت ببراءة :

-لقد وعدتني ان تحلق ذقنك التي تؤلمني ولم تفعل فلن أقبلك

فقال لها برجاء:

-بل سأفعل من أجلك في المرة القادمة فامنحيني قبلتي يا جميلة

فقبلته ببراءة فمنحها قطعة الشيكولاته التي تحبها فخرجت بسعادة، فقالت أمي بغضب:

-يفرق الضحكات والقبلات على الجميع ويأتي عندي ويصيبه الخرس والصمم

قالتها وانصرفت ولم يظهر أي رد فعل على أبي، إنما غادر بهدوء فقالت ندى بصوت منخفض:

-إن والدتك تعاني من جفاف والدك العاطفي معها.

فقلت بجدية:

-أمي لا تؤمن بالحب او المشاعر وتراهما تفاهات.

فقالت بمكر:

-كل امرأة تحتاج إلى الحب والاهتمام مهما أنكرت، هل رأيت طوال حياتك شجرة تُثمر بدون أن ترويها بالماء بانتظام؟

قالتها وانصرفت لمعاونة أمي في ترتيب البيت وإعداد الطعام و هو ما لم تفعله يوما إحدى زوجات إخوتي. كم هي عجيبة تلك الشرقية القصيرة، كنت أظنها ستتصادم مع أمي فإذا بها تفهمها جيدا ً، بل وتشفق عليها.

تناولنا الطعام ثم الحلوى التي اعدتها ندى وودعنا الأسرة وانصرفنا وأصرت أمي على تكرار الزيارة قريبا فوعدتها ندى بذلك، طوال الطريق وأنا أمسك بيد ندى ولا أفلتها فكم أشعرتني بالسعادة بذكائها وحسن تصرفها ولباقتها.

كانت الوحيدة المتذمرة من عودتنا هي ليزا فأخبرتها ندى أننا عدنا لأن موعدنا غدا في المركز الإسلامي مع حفظ القرآن وبعدها ستلعب كما تشاء مع الأطفال وستتناول الحلوى، فسرعان ما تناست ليزا غضبها وظلت تحلم بالغد.

مضت بنا الحياة في سعادة  وتفاهم ويكللها الحب، لكن ندى كان يؤرقها أننا مر علينا عام دون أن تحمل بطفل رغم تأكيد الأطباء لها أنها بخير ويمكنها أن تنجب، وما هدأها قليلاً أن زوجة دكتور عمر ذكرتها أنها بقيت عامين بدون إنجاب ثم رزقها الله بطفلين خلال ثلاثة أعوام.

ظلت حياتنا على وتيرة واحدة حتى حدث ما زلزل كياننا تماماً عندما ظهرت ماري مرة أخرى.

 

(يتبع)

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↑1الكاتبمدونة محمد شحاتة
4↓-1الكاتبمدونة اشرف الكرم
5↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
6↓الكاتبمدونة حاتم سلامة
7↓الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
8↑1الكاتبمدونة آيه الغمري
9↑1الكاتبمدونة حسن غريب
10↓-2الكاتبمدونة ياسر سلمي
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑31الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني203
2↑22الكاتبمدونة مها اسماعيل 173
3↑14الكاتبمدونة مرتضى اسماعيل (دقاش)205
4↑11الكاتبمدونة منال الشرقاوي193
5↑5الكاتبمدونة كريمان سالم66
6↑5الكاتبمدونة خالد عويس187
7↑4الكاتبمدونة نجلاء لطفي 43
8↑4الكاتبمدونة غازي جابر48
9↑4الكاتبمدونة سحر حسب الله51
10↑4الكاتبمدونة نهلة احمد حسن97
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1079
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب695
4الكاتبمدونة ياسر سلمي655
5الكاتبمدونة اشرف الكرم576
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري501
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني426
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين417
10الكاتبمدونة شادي الربابعة404

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب334116
2الكاتبمدونة نهلة حمودة190203
3الكاتبمدونة ياسر سلمي181645
4الكاتبمدونة زينب حمدي169810
5الكاتبمدونة اشرف الكرم131005
6الكاتبمدونة مني امين116806
7الكاتبمدونة سمير حماد 107912
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي98003
9الكاتبمدونة مني العقدة95092
10الكاتبمدونة حنان صلاح الدين91899

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة نجلاء البحيري2025-07-01
2الكاتبمدونة رهام معلا2025-06-29
3الكاتبمدونة حسين درمشاكي2025-06-28
4الكاتبمدونة طه عبد الوهاب2025-06-27
5الكاتبمدونة امل محمود2025-06-22
6الكاتبمدونة شرف الدين محمد 2025-06-21
7الكاتبمدونة اسماعيل محسن2025-06-18
8الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني2025-06-17
9الكاتبمدونة عبد الكريم موسى2025-06-15
10الكاتبمدونة عزة الأمير2025-06-14

المتواجدون حالياً

959 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع