أنا شاب فلسطيني نشأت في غزة يتيمًا فقد قتل المُحتل الغاشم أبي وهو يدافع عن أرضنا وبيتنا وطردوا أمي من بيتها وأنا مجرد جنين في بطن أمي. رفضت أمي الزواج مرة أخرى فقد كانت تحب أبي وهو ابن عمها وقررت أن تهب حياتها لي. عدنا إلى بيت جدي لأمي بعد هدم بيت أبي وأسرته وعادت أمي لعملها بالتمريض في مستشفى للأطفال.
نشأت طفلًا مُنكسرًا بسبب يتمي فكنت أتجنب ارتكاب الأخطاء حتى لا يعاقبني جدي الذي تولى شأني وليحبني الجميع. رباني جدي على الصلاة وحفظ القرآن ومساعدة الناس كما علمني أسرار مهنته النجارة فبرعت فيها بجانب دراستي. كانت أمي تتركني مع جدتي في وقت عملها وتوصيني بمساعدتها فكنت المُقرب لجدتي فأساعدها في كل شيء و لا أرفض لها طلبًا، كما كنت أساعد الجارات وخاصة المُسنات فيما يحتجنه وأشعر بالسعادة عندما أسمع دعواتهن لي.
لم أكن أحب الدراسة كثيرًا فاكتفيت بدراسة الثانوي الفني وبقيت مع جدي في دكانه أساعده في مهنته لأن كل أبناء العائلة أكملوا تعلميهم الجامعي ويتأففون من العمل اليدوي.
أتقنت المهنة وأصبح لي اسم في مجالي ودخل جيد ولكن رغم انشغالي لم أتأخر عن أي شخص يطلب المساعدة خاصة لو امرأة كبيرة في السن أو طفلة صغيرة فكانت تلك نقطة ضعفي.
كانت أمي دائمة السخط علي لأني لم أكنل تعليمي وأصبح طبيبًا كما كانت تحلم، ولأني انفق وقتي وجهدي في مساعدة من يستغلونني كما ترى ولا أهتم أكثر بجمع المال ليصبح لي بيتًا وزوجة، فكنت أخبرها أن الله سيرزقني وأني راضٍ برزقي مهما كان.
تزوج كل أبناء العائلة وتوفي جدي وخلا البيت إلا مني أنا وأمي وجدتي التي تجاوزت الثمانين لكنها ولله الحمد مازالت بصحة لا بأس بها.
ألحت علي أمي وجدتي أن اتزوج فاختارت لي جدتي إحدى قريباتها ذات الأصل الطيب فوافقتها وحددنا يوم العاشر من أكتوبر لزيارتهم والتعرف عليهم. لكن للقدر رأي أخر ففي يوم السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣ قامت المقاومة بأسر عدد من أبناء الاحتلال فكان انتقام العدو المحتل يفوق كل تصور من حيث وحشيته فدمر كل شيء ولم يترك لنا أي شيء.
منذ أول يوم وأمي لا تغادر المستشفى لتساعد الجرحى الذين اكتظت بهم المستشفى وبقيت أنا مع جدتي أرعاها واتولى شئونها ولكن ذلك لم يمنعني عن مساعدة الجيران فأساهم في نقل الجرحى إلى المستشفى أو أرفع انقاض منزل انهار على سكانه وأحاول بمساعدة الناس إنقاذ الأحياء تحت الأنقاض، وندفن الموتى.
ذات يوم وقع انفجار كبير فكان ذلك قصف شديد لبيتنا الذي انهار جزء كبير منه نجوت منه ولكن للأسف لم تنجُ جدتي. أخرجت جثمانها وأنا أبكي وأخبرها أن تأخذني معها للجنة، لكن شدة القصف لم تمنحني حتى فرصة لرثاء من أحب فأسرعنا ندفنها أنا والجيران وعندما عدت وجدت بيتنا أصبح كومة تراب.
ضاع كل شيء البيت والمحل والأدوات والمال وجدتي ولم يترك لنا الاحتلال ما يُبقينا على قيد الحياة. لم أيأس ونبشت تحت الأنقاض وأخرجت أدواتي وحملتها معي أساعد بها الناس في صنع مأوى يحميهم أو أصلح ما تهدم في مدارس الإيواء التي اكتظت باللاجئين من كل صوب وحدب.
كنت في أخر الليل أذهب لأبيت مع أمي في المستشفى فأساعد في نقل مريض أو أعطي أخر الدواء، أو أطمئن طفلة صغيرة جريحة تصرخ من الألم وهي وحيدة بعد ان فقدت أهلها.
كم حلمت أن أنضم للمقاومة وأكون مقاتلًا يدافع عن أهله ووطنه ضد المحتل الغاشم لكني لم أكن أمتلك الشجاعة الكافية لذلك، فقد خلقني الله رقيق القلب والمشاعر ولا أستطيع أن أقتل أي كائن أو أحمل سلاحًا. أمي كانت ترى ذلك ضعفًا وخنوعًا وجُبنًا لكن جدتي كانت تراه طيبة لا يتميز بها سوى قلة من الناس اصطفاهم الله لخدمة العباد وثوابهم كبير عند الله.
ربما لم أستطع أن أنضم للمقاومة ولكني أستطيع معاونة الناس وهذا جهاد من نوع أخر ودور مختلف في الحياة.
واليوم أستعد لإدخال البهجة على قلوب الأطفال في مدارس الإيواء الذين فقدوا ديارهم ومدارسهم بل وذويهم وأصابتهم وحشية المحتل بالفزع والكآبة، فقررت ان أرتدي ثياب مُهرج لأدخل قليل من البهجة على تلك القلوب الصغيرة التي عرفت من الحزن ما يفوق عمرها بكثير.
وأكتب تلك الرسالة وأحملها معي في ملابسي حتى إذا تعرضت للقصف تبقى رسالتي شاهدة على دوري في الحياة ورغبتي في مساعدة وإسعاد الناس، وعلى وحشية العدو الذي دمر كل شيء لكنه لم يستطع تدمير قلوبنا ولا عزيمتنا وإصرارنا و صمودنا.
خبر في نشرات الأخبار:
قصف مدرسة من مدارس الإيواء واستشهاد عدد كبير من اللاجئين وخاصة الأطفال أثناء إقامة حفل للترفيه عنهم واستشهاد مُهرج الحفل.
تمت