لا أعلم إن كنت أكره زوجي أم لا، لكن كل ما أعرفه أنه فُرض علي فرضًا ولم أستطع الاعتراض بسبب شدة أبي. كنت ابنة لرجل من الأرياف ومن عادات قريتهم تزويج البنات للأقارب في سن صغيرة ولأني كنت أول بناته و وصلت إلى سن السادسة عشر وتقدم ابن عمتي الذي يقيم معنا في عمارتنا لخطبتي فقد وافق أبي ضاربًا باعتراضاتي ورغبتي في إكمال تعليمي عرض الحائط.
كان ابن عمتي قد حضر من القرية لإكمال تعليمه الجامعي في المدينة وأسكنه أبي مع إخوتي في الشقة الخالية، بينما كان دخوله إلى شقتنا كان مُحرمًا إلا في حضور أبي وبدعوة منه حتى لا يجرح النساء في البيت وهن أمي وأنا وأختي الصغيرة.كنت أرى في عينيه نظرات الإعجاب فأنتشي بها كأية فتاة مراهقة ولكنه لم يستطع تجاوز ذلك ولا حتى بالكلمات احترامًا للقرابة ولهيبة أبي ولصداقته بأخوتي. كان يعمل بجوار دراسته رافضًا أية مساعدة من أبي فنال احترام وتقدير الجميع. عندما تقدم لخطبتي أصر أبي على إقامتنا معه في نفس العمارة حيث خصص لكل منا شقة حتى لا نبتعد عنه. أصر زوجي على أن يفرشها بماله الذي ادخره من عمله وأحضر لي شبكة بسيطة فرحت بها كأية فتاة صغيرة كانت تحلم بفستان الفرح والشبكة وأن يكون لها من يحبها.
كان يعاملني برفق ومودة بعكس أبي شديد الطباع مع الجميع وأخوتي الذين ورثوا منه شدته ظآنين أن القسوة هي مُكملة للرجولة ولا يعرفون أن الرفق يزين كل العلاقات ويجعلها أقوى وأمتن. جعلني رفقه وتفهمه أرضى به وأقبل أن نتزوج قبل التحاقي بالجامعة مع وعده لي أن يتركني استكمل تعليمي الجامعي. كنت مجرد فتاة لا تعرف معنى الحياة الزوجية ولا مسئولياتها و لكني كنت سعيدة أني سأتخلص من سيطرة أبي وشدته وسأحيا مع ذلك الزوج الحنون. تزوجت بعد امتحانات الثانوية العامة رغم إصرار أبي على الزواج قبلها لأنه لا يفضل الخطبة الطويلة خاصة مع إقامتنا في نفس البيت. لكن ما جعله يقبل أن يُطيل الخطبة قليلًا أن خطيبي كان يعمل في عملين مختلفين ويأتي في أخر اليوم مُنهكًا حتى يدبر المال اللازم لأثاث الشقة. تحجج خطيبي بذلك وتعمد إطالة الوقت ليمنحني الوقت الكافي للانتهاء من امتحانات الثانوية العامة.
بمجرد انتهاء الامتحانات أصر أبي على إتمام الزواج و لم يدرك بعد صغر سني على تحمل مسئولية بيت وزوج بالإضافة إلى تعليمي وأنا لم أتحمل من قبل عبء ترتيب حتى غرفتي فقد كانت أمي تدللني لأني ابنتها الكبرى. لم أكن أعرف معنى العلاقة الزوجية إلا ما أراه في الأفلام فقط وبالطبع لم تقل لي أمي أي شيء لأن الكلام في هذا الموضوع من المحرمات فكنت أشعر بالرعب من المجهول القادم. تفهم زوجي مخاوفي فكان رفيقًا بي واحتملني عدة أيام ولم يخبر أحد بخوفي وامتناعي عنه وصبر علي كثيرًا حتى استجبت له أخيرًا فأغرقني في بحر حبه وحنانه.
اعترف لي زوجي يوم زفافنا أنني كنت الحلم الذي طالما حلم به وأنه بذل كل جهده لأكون له ووعدني أن يشملني بحبه الجارف حتى أخر لحظة في عمره. كنت سعيدة بتلك المشاعر وبإحساسي بأني مرغوبة فكنت أتدلل عليه كثيرًا وخاصة وأني لا أتحمل عبء البيت كثيرًا فكان يساعدني بقدر إمكاني. ورغم قلة إمكانياته وتراكم الأقساط عليه بسبب تعجل أبي في زواجنا إلا أنه أحضر لي سيدة لتعاونني في تنظيف الشقة كل فترة حتى يخفف العبء عني خاصة مع حملي والتحاقي بكلية التجارة. كان عبء الحمل مع عبء البيت يُزيدان من شعوري بالضجر وكنت دائمة اللوم لأبي لأنه قذف بي في خضم تلك المسئوليات في حين تنعم زميلاتي بتدليل أهاليهن.
أنجبت طفلي الأول قبل امتحانات التيرم الثاني فكانت النتيجة أني رسبت هذا العام فزاد سخطي وضجري الذي صببته كله على زوجي الذي كان يصبر علي ويتحملني متفهمًأ أني مازلت صغيرة على كل تلك الأعباء ولكني سأعتادها مع الوقت. كانت هو وأمي وأختي الصغيرة يساعدونني في تحمل عبء الطفل والبيت ورغم ذلك كنت ناقمة على الجميع. كنت أرى زميلاتي في الجامعة يتمتعن بحياتهن فيخرجن ويمرحن ويذهبن لرحلات بينما أنا مُحرم علي كل ذلك فلا خروج ولا سفر إلا في صحبة زوجي الغارق في عمله. بينما كنت أنا أعود مُسرعة إلى البيت لأهتم بطفلي الذي تركته مع أمي طوال النهار، وأعد الطعام لزوجي العزيز وأقوم أحيانًا بترتيب البيت أو أتركه فوضوي حتى يعود زوجي فيرتب ما يستطيع.
كانت أمي كثيرًا ما تنهرني على الفوضى التي تغمر بيتي فكنت أصرخ في وجهها وأخبرها أنهم من فعلوا بي ذلك وفرضوا علي زواج لم أكن أريده وحملوني مسئوليات فوق طاقتي. كانت تخبرني أن بطري على نعمة زوجي المتفهم الصبور، الذي يلومه أبي وأخوتي على تدليله لي،سيجعله يزهدني يومًا ما. لم أكن أبالي بما تقوله أمي فلم أهتم بأمره وإنما كنت أستمتع بحبه ودلاله وأرى أن ذلك ما أستحقه. كنت أتمادى في دلالي كان هو يتحمل كل شيء من أجل أن يحظى برضاي. نجحت في دراستي الجامعية وكنت قد قررت أن أؤجل أي إنجاب لما بعد التخرج وتفهم هو ذلك، لكني فوجئت بحملي في عامي الدراسي الأخير فثُرت ثورة عارمة وقررت الإجهاض .
تصدى لي زوجي بشدة لم أعرفها منه ورفض فكرة الإجهاض بل وشكاني لأول مرة لأبي الذي كاد أن يقتلني عندما سمع برغبتي فاستسلمت وقبلت مقهورة بذلك الحمل ولكني عاقبت زوجي بهجراني له طوال مدة حملي فلم يعترض إنما كان يعاونني حتى أنجح في عامي الدراسي الأخير. أنجبت طفلي الثاني بعد تخرجي وهنا اشتعلت رغبتي بالعمل فوعدني زوجي أن يجد لي عملًا بعد أن يشتد عود طفلي الصغير، لكنه فوجئ بثورتي العارمة وأنه يريد أن يفرض سلطاته عليه ألا يكفيه أنه هو نفسه مفروض علي. كانت تلك القشة التي قسمت ظهر البعير فترك لي البيت وصار يرسل لي مصاريفي فقط و حرمني من وجوده وتدليله ومشاعره المتدفقة، لكني لم أهتم إنما كنت حانقة لأنه ترك كل الأعباء مُلقاة فوق كتفي.
كانت الطامة الكبرى عندما أخبر والدي أنه يريد تطليقي لأننا غير متفاهمين ولم يخبره عما قلته أو فعلته به طوال مدة زواجنا. ثار أبي وأخوتي بل حتى وأمي علي ثورة عارمة وأخبروني أني لن أجد مثله في رجولته أو حنانه أو اهتمامه، لكني تمسكت بعنادي فلن أسمح لأحد بعد اليوم بالتحكم في مصيري. زاد عندي عندما أتتني فرصة للعمل فتركت أولادي مع أمي وذهبت لأبحث عن ذاتي الضائعة وأثبت للجميع أني أفضل من غيره وأني وحدي من سأقرر مصيري. زادت الأعباء علي بين العمل والبيت والأولاد وخاصة وأن الجميع تركوني أواجه مصيري وأتحمل مسئولياتي وحدي دون معاونة من أحد.
كم كنت أفتقد وجوده وصوته ومشاعره المتدفقة ومعاونته لي رغم إرهاقه في عمله بل وتدليله لي ولكني كلما شعرت بالضعف كنت أعود وأتمسك بحياتي التي اخترتها ولم يفرضها علي أحد. كنت أحيانًا أشعر بالضجر من تحمل مسئولية الطفلين التي تعوقني عن الانطلاق في الحياة فأصب جام غضبي عليهما ولم يكن ينقذهما من قسوتي سوى أمي.
ظل الحال بيني وبين زوجي مُعلق فلا هو عاد للبيت ولا هو طلقني بسبب رفض أبي و أخوتي حتى اتصل بي يومًا وسألني عما أريده وهو سينفذه لي مهما كان فقلت له:
- عاوزه اتطلق وأحس إني حرة باختار كل حاجة في حياتي ومش مغصوبة على حاجة أو حد
فلم يجبني إنما أغلق الهاتف وفي اليوم التالي أحضر المأذون وطلقني في حضور أبي الذي أصابته ذبحة صدرية بسبب ذلك وظل طريح الفراش. لم أكتفِ بهذا إنما طلبت منه أن يأخذ طفليه لأني لم أعد قادرة على تحمل مسئوليتهما وحدي. وافق وطلب مني مهلة بسيطة حتى يتدبر أمره، لم أظنه سيستسلم بتلك السهولة بل سيرجوني ويتمسك بي وأنا من ستتدلل ولكنه لم يفعل فلم أهتم. بعد نحو الشهر أعلن عن زواجه من إحدى قريباته فاشتعلت النيران بصدري فقد نسي حبي وفضل علي أخرى ولم يعد راكعًا كما كنت أتوقع. حاولت أن أفي غضبي عن الجميع وأبدو لا مبالية ولكن عصبيتي الزائدة مع الطفلين كانت تفضحني. بعد أسبوع من زواجه أرسل يطلب طفليه ليعيشا معه ويحقق لي طلبي وسط تعجب الجميع وخاصة أمي التي بكت بحرقة عند مغادرة الطفلين.
كنت أظن أني سأسعد وأنطلق بتخلصي من عبء الزواج والأطفال ولكني وجدت نفسي وحيدة وحزينة فقد انتزع جزء من قلبي. كنت أرى في الطفلين عبء ثقيل على قلبي ولم أرَ أنهما نعمة من الله حُرم منها غيري، لم أشعر بتعلقي بهما وبمحبتهما في قلبي إلا عندما غادرا وصرت وحدي. نبذني الجميع حتى أمي كانت تشيح بوجهها عني وعندما أشكو لها تقول ألم تكن تلك رغبتك فانطلقي كما تريدين.
لم أكن سعيدة في زيجة مجبورة عليها، ولم أكن سعيدة عندما تخلصت منها. أدركت أني كنت أنانية لا أهتم إلا بنفسي و بما يسعدني وحدي، ولم أهتم يومًا بالأخرين. كنت أرى في كل شيء عيوبه ومساوئه ولا أرى الجانب الجيد فيه، فلكل علاقة وجهان وأنا أردت أنا أنال الشهد ولم أتحمل وخزات النحل، فلا نلت الشهد وبقيت لي فقط وخزات ضميري فكيف لأم أن تتخلى عن أطفالها؟ بل كيف بامرأة أن تتخلى عن زوج صبور محب مثل زوجي؟
أخطأ أبي في حقي عندما عاملني بقسوة وأرغمني على الزواج رغم صغر سني، وأخطأت أمي في تدليلي حتى بعد زواجي فصرت لا أعرف تحمل المسئولية. أخطأ زوجي عندما وافق أبي على الزواج بفتاة صغيرة لا تعرف معنى الزواج ومسئولياته، وأخطأت أنا عندما تحاملت على الجميع ولم أستمتع بما منحه القدر لي. واليوم بقيت وحدي منبوذة من الجميع بعد أن حققت كل أحلامي ولكن خسرت في مقابل ذلك زوجي وأولادي. هل أعود كزوجة ثانية له وأتقبل أن تشاركني فيه امرأة أخرى بعد أن كنت ملكة قلبه؟ هل أعود وأصبح مجرد زوجة والسلام؟ أم أنتظر لعل الأقدار تكافئني بزوج أختاره أنا و أنال معه السعادة.
أتخبط وحدي في بحر الحيرة وتتقاذفني أمواجه ولا أجد أي يد تمتد لتنتشلني من حيرتي، ويجب أن أسبح وحدي حتى أصل إلى بر الأمان فهل أجده؟
تمت
#قصص_قصيرة #رومانسيه #حب #قصص #نجلاء_لطفي