الفصل الأول
أشعر بألم شدید یحطم رأسي وثقل كبیر في جسدي سأدق الجرس وأنادي على الخادمة وأمرها بتجهيز حمامي لعلي انتعش قلیلا. ما هذا لم لا تتحرك یداي؟ ماهذا الثقل الذي أشعر به في قدمي؟ لم لا أستطیع تحریكهما؟ حاولت أن أنادي على الخادمة ولكن صوتي لا یخرج من فمي، فتحت عیناي بصعوبة فوجدتني في مكان غریب لا أعرفه وجسدي ممدد على سریر صغیر حقیر ویداي وقدماي مكبلین بالسلاسل وفمي علیه قطعة قماش محكمة تمنعني من الكلام. حاولت أن أتحرك وفشلت وزاد ألم رأسي حتى فجأة سمعت أصوات تأتي من بعید وصوت أقدام تقترب من باب الغرفة المغلق فجأة فُتح الباب ودخل منه ملثم ضخم الجثة لم أر منه سوى عینان سوداوان أخافتني نظراتهما المتفحصة لجسدي ووجهي، اقترب مني ببطء وجلس على طرف سریري وقال هامسا:
-الحمد ﷲ على سلامتك یا سمو الأمیرة
واقترب بوجهه أكثر ومسح بكفه الغلیظ على وجنتي وقال :
-كنت أرغب في الاستمتاع بك لكن لدي أوامر ألا أفعل لكن أعدك ستقعین في قبضتي مرة أخرى عندها لن أتركك أبدا
شعرت بالرعب وارتجف جسدي كله فابتسم لتأثیره على نفسي كاد أن یقترب أكثر لولا دخول ملثم أخر أقل منه في الضخامة لكنه یبدو قائده وقال بصرامة:
-ألم أقل لك ألا تقربها؟ أخرج من هنا حالا فنظر الضخم إلي وقال:
-سنجتمع مرة أخرى كما وعدتك
ازداد ارتجاف جسدي وأشحت بوجهي عنه وقبل أن یقترب الأخر مني سمعنا صوت جلبة شدیدة وصوت صلیل السیوف یدل على وقوع معركة وقبل أن یتحرك الملثم فوجئ بباسل یقبض علیه وهو یضع السیف على رقبته ودخل بعده عدة جنود اقتادوه للخارج وأسرع باسل نحوي یفك قیودي وهویقول بلهفة:
-كنت أسابق الریح لأعرف مكانك خائفا أن یصیبك أحدا بسوء
وبمجرد أن تحررت یداي ارتمیت في حضنه أنا أبكي فزعا وقلت من خلال دموعي:
-حمدا ﷲ أنذ وصلت الآن لقد كنت خائفة
-هل مسك احد بسوء؟
-لا
ابتسم وضمني بقوة وحب بدا واضحا ولم يعد محتاجا لحروف تعبر عنه ولم أعد أنا بحاجة لتأكيد على لهفته علي، ثم أبعدني برفق وقال :
-هیا بنا فوالدك الملك في انتظارك
خرجت معه وركبت فرسي وتذكرت أول مرة رأیته كنا في مسابقة للفروسیة وكنت أنا وأخي عادل مشتركین بها وأیضا باسل ولأن العادات لا تسمح باشتراك النساء فارتدیت زي الرجال وغطیت وجهي ونافست معظم الرجال بشراسة وفزت أنا وعادل بالمركز الثاني معا بینما استحق باسل بجدارة المركز الأول ولأني كنت أعشق المشاغبة فكشفت عن وجهي أثناء استلام الجائزة مما أثار دهشة الجمیع خاصة حینما علموا أني الأمیرة جوهرة ورأیت حینها علامات الدهشة على وجه الأمیر باسل فابتسمت وغادرت مسرعة مع عادل.
و التقینا مرة أخرى عندما دعا والدي الملك الصادق ملك مملكة الشمال لزیارة مملكتنا حیث أننا جیران ونتشارك الحدود وأراد أبي بتلك الدعوة تقویة أواصر الصداقة وتكوین تحالف مشترك بین المملكتین للتصدي للطامعین ولأي عدوان خارجي، فحضر الملك لزیارتنا مصطحبا أفراد أسرته ولي عهده الأمیر كامل ووزیر دفاعه وقائد جیوشه الأمیر باسل وعدة وزراء أخرین. وبمجرد أن رآني باسل نظر إلي وابتسم فقال له عادل هامسا:
-لم أستطع منعها من المشاركة في المسابقة فهي عنیدة لكن أرجوك لاتخبر أحدا لأن الملك لو عرف لعاقب كلانا
-سرك في بئر عمیق لاتخف
خلال فترة الزیارة كان باسل یرافق عادل في تفقد الحدود والتعرف على قدرات الجیش القتالیة أما كامل فكان یفضل أن یتعرف على المعالم السیاحیة، أو یزور مكتبة العاصمة التي تضم كتب تراثیة ضخمة، أو یخرج في جولات على ضفاف النهر. تعجبت كثیرا كیف یكون كامل ولیا العهد وهو لا یعرف شیئا عن شئون الحكم؟ بل ویشترك في اجتماعات الملكین على مضض فكیف سیدیر المملكة بعد أبیه؟ كان باسل الأجدر بولایة العهد من وجهة نظر الجمیع ماعدا الملك الصادق، ومن وجهة نظري كان جدیرا أیضا بحكم قلبي ففي الأوقات القلیلة التي قضیناها معا أدركت أن قلبي لا یخفق إلا لمرأى باسل ونظراته عينيه السوداوين التي تخترق أعماقي وتحرك بداخلي مشاعرا لم أعرفها من قبل، وابتسامته الساحرة التي لا یمنحها لسواي، لكن ترى هل یشعر بما أشعر به أم أن أوهام الحب ترسم لي صورا خیالیة؟؟ لم أجد جوابا لتساؤلاتي سوى ابتسامة عذبة خصني بها.
قرر أبي في نهایة الزیارة وبعد توقیع اتفاق دفاع مشترك بین المملكتین أن یقیم حفلا كبیرا على شرف الضیوف، اخترت أجمل فساتیني لأبدو جمیلة في عین باسل وقررت أن أحاول لفت نظره بكل الطرق حتى یعترف لي بحبه. في الحفل تجمع كبار رجال الدولتین والعدید من الأمراء من أقاربنا وأعطي الملك شارة البدء فصدحت الموسیقى في كافة الأنحاء وبدأ الجمیع بالاستمتاع وتناول الطعام وأنا أقوم بدور المضیفة وأرحب بالجمیع وعندما قابلت كامل سألته:
-هل أعجبك الحفل؟
-لو كان به شعر أو غناء لاستمتعت أكثر
-الغناء یبدأ بعد تناول العشاء وأتمنى أن یعجبك جاء باسل وشاركنا الحدیث فقلت له :
-وأنت أیعجبك الغناء؟؟ فقال مبتسما :
-بل الفروسیة
فخفق قلبي لابتسامته واستأذنتهما لأعتني بباقي ضیوفي وفي الواقع أنا أهرب من عینیه.
أشرفت على العشاء ورحبت بالجمیع وحرصت على تلبیة طلباتهم وبعد انتهاء الطعام بدأ الغناء فخرجت للحدیقة لأستنشق الهواء النقي وجلست تحت مظلتي اتمتع بعبیر الزهور مع هواء اللیل المنعش، وأفقت من شرودي على صوت صهیل جواد فخرجت لأرى القادم فوجدته باسل وبمجرد أن رآني سألني عن عادل وقبل أن أجیبه ظهر عادل فقال باسل بغموض:
-تعالى معي هناك أمر خطیر فقلت بلهفة:
-هل أتي معكما؟ فقال بصرامة :
-لا بل اهتمي بضیوفك وان سألك أحد عنا قولي أنك لا تعرفین مكاننا
واختفیا في لحظات وأنا متعحبة من شأن باسل. عدت للحفل وشكرني الملك الصادق على حسن الضیافه ودعاني وأبي لزیارة مملكتهم في الصیف حیث یكون الجو أكثر اعتدالا من مملكتنا فشكرته ووعدته بالزیارة، وقبل انتهاء الحفل عاد باسل وعادل والإرهاق بادیا على وجهیهما فقال أبي:
-مابكما؟ فقال عادل :
-سنعقد اجتماعنا بعدانصراف المدعوین انصرف الناس واجتمع الملكین بالأبناء وكنت معهم فحكى باسل وقال:
-شعرت بالملل فخرجت أمتطي فرسي وأجوب في أنحاء القصر فلاحظت أن إحدى البوابات الجانبیة بلا حرس فشعرت بالریبة ولما اقتربت منها وجدت جندیا بسیطا یجلس بالقرب من البوابة ویتحدث مع زمیل له عن قرب التخلص من الملك فعند منتصف اللیل سیبدأ هجوم مجموعة من الفرسان الملثمین المسلحین على القصر ویقتلون الملك وأسرته فعدت بهدوء دون أن یشعرا بي وأخبرت الأمیر عادل فأحضر فرقة من الحرس الملكي وأعاد توزیع الجنود وشدد الحراسة وبعد القبض على الحارسین واستجوابهما أخبرنا أحدهما أن الفرسان قادمون من الغرب وأن أمیر الإمارة الغربیة یرغب في الاستیلاء على المملكة، وبالفعل تصدینا لهم جمیعا وقتلنا بعضهم وأسرنا البعض الأخر.
صمت باسل وساد الصمت بین الجمیع فقال أبي:
-وما رأیكم؟ فقال الملك الصادق :
-نحن معك في أي قرار تتخذه وقال عادل:
-هذا الأمیر یحتاج لتأدیب وقال كامل:
-أرى أن ماحدث فیه تأدیب كاف له
فنظرت له متعجبة من خنوعه وقلت لأبي بمكر:
-هو یحتاج لنوع خاص من التأدیب، مثلا فرقة فدائیین محترفین تقتحم قصره وتخطفه وتأتي به هنا لیؤدبه الملك بنفسه، أو تترك على وجهه علامه كلما نظر في المرآة تذكر سیطرة ملكنا علیه وعلى أمثاله لعله یرتدع
ابتسم أبي ونظر لباسل وقال :
-وما رأي الأمیر باسل؟
-یستحق القتل لیكون عبرة لغیره ممن یفكرون مثله فیخشى الجمیع بطش الملك
فقال أبي:
-بل الجزاء من جنس الفعل
انتهى الاجتماع وغادروا جمیعا في الیوم التالي، وفي قلبي غصة لا أعرف سببها وقبل أن یبتعد باسل عن نظري فاض بي شوقي وحنیني إلیه.
الفصل الثاني
مرت لي الأیام باردة وخاویة لا مذاق لها ولا أستمتع بأیة لحظة فیها سوى تلك التي أتذكر فیها ابتسامة باسل أو نظراته التي تجعل قلبي یخفق بقوة، أو صوته القوي الذي یمس الروح ويجعلها تحلق في السماء مع الطيور تتغنى بحبه وحنيني إليه. اعتزلت المغامرات والسهرات حتى أن عادل لاحظ ذلك وسألني عن السبب فقلت له:
-سئمت حیاة الأمیرات الفارغة وأرید أن أشترك معكم في شئون الحكم
-ستشتركین بالفعل ولكن في رحلة عمل لمملكة الشمال الأسبوع القادم وسأقنع الملك أن تطلعي معنا على كل ما یخص الحكم.
كان ذلك الخبر كفیلا بأن یجعلني أحلق في السماء فوق السحاب فأخیرا سألتقي بمن یخفق له قلبي ذو العیون السوداء والجسد الریاضي الطویل،والابتسامة المُهلكة أسرعت لحجرتي وتأملت جمالي الذي طالما جذب العشرات وتساءلت هل تجذبهم حقا العیون اللوزیة ذات الأهداب الطویلة والشعر البني الفاتح والبشرة البیضاء أم یجذبهم المركز والمال؟ ترى لو كنت ابنة رجل من الشعب هل كان سیقع أحدا في حبي؟ ترى هل وقع باسل في غرامي أم أني واهمة؟ هل لو كنت من عامة الشعب كان سیراني ویعجب بي؟؟ تساؤلات أرقتني وحرمتني النوم عدة لیال حتى حان موعد السفر وقررت أن أعرف حینها.
سافرنا وأنا أتأرجح بین الشوق والخوف من أن أكون واهمة، ولكن تغلب شوقي وحنیني على حبي، فبمجرد رؤیتي لباسل بددت نظراته كل مخاوفي ولم تترك لي سوى قلب یخفق بحبه ویتمنى قربه.
رحب بنا باسل أشد الترحیب واصطحبنا للقصر المخصص لنا فصعدت لجناحي لأغتسل وأبدل ملابسي وبمجرد خروج الخادمة من الجناح فوجئت بشخص ملثم یقفز لشرفتي ودخل مسرعا وكمم فمي وغطى أنفي بمندیل به مادة مخدرة فغبت عن الوعي وعندما أفقت أدركت أنه اختطفني، كنت أشعر بالرعب وذلك الملثم يتفحص جسدي بنظراته لكني شعرت بالأمان عندما جاء أمیري الشجاع لإنقاذي واعترف بخوفه علي وضمني لحضنه بحب وحنان، فالیوم فقط تأكدت من حبه لي وأدركت أني في طریقي للسعادة.
أفقت من ذكریاتي عندما قال باسل:
-لقد وصلنا للقصر سأتركك في حراسة مشددة من رجال أثق بهم لأذهب في مهمة عاجلة.
-باسل… شكرا لكل مافعلته لأجلي
- حیاتي فداءا لحیاتك یا سمو الأمیرة
قالها وهو یقبل یدي برقة أذابتني معها، وأنا متعجبة كیف لذلك القوي الشجاع أن یصبح رقیقا في لحظات.
دخلت القصر فوجدت أبي ملهوفا على وكذلك عادل ورحب بي الملك بسرور وقال لي:
-سنقیم الیوم حفلا على شرف الأمیرة شكرته كثیرا واتجهت لجناحي لأستریح ورفض عادل ان یتركني إنما رافقني لیتاكد من تأمین الجناح وخلوه من أي خطر، وبعد أن تأكد جلس بجواري على السریر وطلب مني أن أقص علیه كل ماحدث ففعلت فسكت قلیلا ثم قال:
-ارتاحي الأن ولا تقلقي لقد وضعت الحرس الملكي حولك لیحمیكي.
غادر وتركني فاغتسلت ونمت وأنا أفكر في باسل وأتمنى أن یكون معي في الحفل وفي كل وقت فأنا لا أشعر بالأمان إلا في وجوده.
في المساء ارتدیت ثوبا جدیدا على أمل أن یراني باسل فقد وعدني ألا یغیب عني، وكنت أشعر بانقباض في قلبي لا أعرف له سببا.
بدأ الحفل في غیاب باسل ولكن كامل كان حاضرا وهنأني بسلامة عودتي وقال مبتسما:
-لقد أعددت لك حفلا رائعا یحضره كبار الشعراء والمطربین والراقصات
فابتسمت ولم أجب فقد كانت عیناي تبحثان عمن أحیا قلبي وجعله یخفق باسمه وحده، لكنه لم یظهر فأخفیت إحباطي وتعاستي ورسمت على وجهي ابتسامة مجاملة وشكرت الملك على حفلته.
في الأیام التالیة اصطحبنا كامل في جولة في البلاد بینما بقي أبي مع الملك یتناولان شئون الحكم. عدنا من جولتنا بعد ثلاثة أیام ولم یكن باسل قد عاد بعد وكاد الحنین یمزق قلبي فقد ظننت أنه لن یفارقني خلال وجودي لدیهم لكني كنت واهمة فإما أنه ندم على مافعله معي وأراد الهروب حتى لا أتعلق به، أو أنه في مهمة خطیرة لا تحتمل التأجیل، وارتاح قلبي لتفسیر التاني والتمس له الأعذار فقلب المحب یغفر للحبیب أي شئ بل ویخلق له المبررات والأعذار لیسامحه.
حان موعد الرحیل وباسل لم یظهر بعد وكلما سألت كامل قال أنه في مهمة خارج البلاد، كنت أظن أنه لن یفوت لحظة وداعي لكني أدركت أني واهمة فنحن نغادر ولم یظهر بعد. وقف الملك وكامل یودعانا وقال الملك:
-قریبا لن نفترق وسنصبح كیان واحد
ابتسمت ولم أفهم مقصده فقد كنت مشغولة بذلك الغائب الذي سرق قلبي ورحل بلا عودة وكأنه لم ینقذني ولم یحتضنني بلهفة ولم یقبل یدي برقة، أم تراه یفعل ذلك مع الجمیع؟ هل كنت أتوهم أنه یحبني وهو یعاملني برقة كما یفعل مع غیري؟ هل هرب خوفا من تعلقي به؟ تساؤلات كثیرة أرقت لیلي حتى في أحلامي لم یتركني ولكنه كان غاضبا وتفصل بیننا عدة أسوار عالیة.
وصلنا قصرنا وفي الیوم التالي ناداني والدي وقال:
-الملك الصادق طلبك للزواج من ابنه فما رأیك؟
-باسل؟
-لأ بالطبع كامل فهو ولي العهد ویرغب في أن ترتبط المملكتین بروابط المصاهرة حتى نوثق الصلات بیننا
-لكني یا أبي لا أمیل لكامل ولا یوجد بیننا أي توافق نهائي
-ولو كان باسل هو من طلبك هل كنت سترفضین؟
-باسل یختلف تماما ولن أكذب علیك أنا أمیل إلیه
-لكنه لن یرث العرش لأن أمه جاریة أما أم كامل هي ملكة بنت ملك
-لایهمني لكنه فارس بحق وأنقذ حیاتي في حین أن كامل لم یفكر أن یتحرك خطوة واحدة
-انت مبهورة به لیس أكثر لكني والدك وأعرف مصلحتك أكثر فكامل هو الأفضل والأنسب لك كما أن باسل لم یطلب یدك ولكن كامل فعل، ومصلحة بلدینا تقتضي زواجك من كامل فوالده جعل ذلك شرطا للتحالف العسكري بیننا.
-وكیف أتزوج كامل وقلبي متعلق بأخیه الذي سیعیش معنا في نفس القصر وسنلتقي كثیرا؟؟
-لا تهتمي بالتفاصیل فبموافقتك ستتغیر أشیاء كثیرة.
-دع لي وقت للتفكیر یا أبي
-هل ستخالفین أوامري ؟
-لا یا أبي لكني أطلب مهلة أسبوع للتفكیر ألیس ذلك حقي؟
-نعم حقك وسأنتطر موافقتك فأنا أعلم مدى رجاحة عقلك.
بكیت في غرفتي كما لم أبك من قبل فلو كانت أمي على قید الحیاة لكانت دلتني على الصواب وربما لجعلت أبي یتراجع عن عناده ويتفهم احتياجات قلبي ويهتم بصالحي قبل صالح المملكة.
وبعد قلیل فكرت في إرسال رسالة لباسل لأستشف بها مشاعره تجاهي، لكن ماذا لو كان لا یكن لي أیة مشاعر عندها سأكون رخیصة في نظره، وماذا لو كان یحبني ویظن أني خدعته وتزوجت أخاه؟ ظللت في حیرتي حتى قررت أن أستشیره كصدیق فأرسلت أستشیره في أمر زواجي من أخیه وأني مترددة لاختلاف طباعنا وأحتاج رأیه كصدیق وخاصة وأنه یعرف كلانا. أرسلت الرسالة مع خادمتي سهر التي تدین لي بحیاتها لأني أنقذتها ذات یوم من الاغتصاب على ید قطاع الطرق وأخذتها خادمة لي وكنت أحسن معاملة كل الخدم ولكني أخصها بمعاملة خاصة فهي أمینة سري، حتى أني جعلت والدي یصدر قرار بتغلیظ عقوبة قطع الطرق واغتصاب النساء. انتظرت طویلا عودتها وأنا بین الخوف والرجاء، كنت على استعداد لعمل أي شئ لأكون مع باسل بشرط أن یكن لي في قلبه مشاعر صادقة عندها لن أبال بأي شئ سوى أن أكون بجواره. عادت سهر بعد٦ أیام وقالت لي:
-عندما وصلت كان مسافرا وعاد في الیوم التالي فأصررت على لقائه وسلمته الرسالة ولم یظهر على وجهه أي رد فعل إنما طلب مني أن أنتظر رده في الیوم التالي، انتظرته طوال الیوم وفي المساء جاء رده مع خادمه في تلك الرسالة التي سلمتها إلیك وأصر على أن یرافقني حرسه حتى حدود مملكتنا.
-شكرا لك وأرجو ألا یعلم سوانا بما حدث
-كالعادة سرك في بئر عمیق
تذكرت كلماته تلك التي قالها لي سابقا وانصرفت سهر وفتحت الرسالة فوجدته فیها كلمات مقتضبة یقول فیها (كامل هو الأنسب لك وافقي ووفقكما اﷲ) نزلت كلماته كالصاعقة على قلبي فأحرقته، كنت أحلم أن یبوح لي بحبه وتمسكه بي لكني كنت مجرد عاشقة أعماها الحب عن حقیقة مؤكدة أنه لم یحبني إنما كان یجاملني لیس أكثروأنا من غرقت في الأوهام والأحلام الوردیة حتى أفقت على تلك الصدمة الموجهه لروحي.
بكیت طوال اللیل حبا ظننته سیسعدني، و وهما لذیذا غرقت به حتى آلمني بشدة، وفارسا ظننته فارس أحلامي حتى وجدته سرابا خادعا. في الصباح أخبرت والدي بموافقتي على الزواج من كامل فزواج العقل ربما یكون أفضل من اللهاث وراء أوهام القلوب.
الفصل الثالث
تحدد موعد زواجها بكامل بعد شهر وأنا أحترق فمنذ وقعت عیناي علیها في سباق الفروسیة وأنا أشعر باضطراب لذیذ في قلبي، أشعر معها بمشاعر لم أعرفها من قبل، فأنا لم أكن أهتم بالنساء من قبل، حتى لم أفكر في أن أتمتع بأیة جاریة ربما لخوفي من أن أنجب منها أطفالا یعانون في الحیاة مثلي. فأنا ابن الجاریة التي سلبت لب الملك بجمالها الأخاذ وتزوجها عندما أنجبتني وكانت زوجته الملكة قد حدثت لها مشكلة بعد إنجاب كامل فلم تعد قادرة على الإنجاب فصارت تمنح حبها واهتمامه لكامل حتى نشأ مدللا لا یهتم سوى بالشعر والأغاني والجواري الحسان. أما أنا فقد حرص أبي من صغري على تعلیمي الفروسیة وفنون القتال لأعوضه عن خیبته في كامل خاصة بعد وفاة ستة من الإخوة والأخوات الذین أنجبتهم أمي وكانت أسباب وفاتهم غامضة لكني لا أستبعد أن تكون الملكة هي من دبرت قتلهم فقد كانت تكره أمي كرها شدیدا لشدة حب أبي لها وتعلقه بها، حتى بعد مرضها بمرض احتار الأطباء في علاجه ووفاتها ظل أبي مخلصا لها ورفض أن تكون له امرأة بعدها.
حاولت الملكة قتلي عدة مرات فقد كنت أرى الكراهیة في عینیها دائما لكن تصدي أبي ووعیده لها أوقف محاولاتها إلا أنها اشترطت أن تكون ولایة العهد لكامل ولأولاده من بعده وألا أتولى الحكم أبدا فوافق والدي لیحفظ لي حیاتي، ولأنها كانت هي الوریثة الشرعیة لأبیها الملك وكان أبي قائد الجیوش الذي تزوجته للحفاظ على العرش.
ابتعدت عن كل النساء فبعد أمي تلك المرأة المحبة، الحنون بلا حدود، لم أثق في أیة امرأة ولم یكن یغویني جمالهن ولا فتنتهن وكنت أدرك أنهن یسعین وراء منصبي ونفوذي فقط فلو كنت مواطن عادي لما لفت انتباه بنات الأمراء ولا الوزراء. لم تستطع امرأة أن تذیب جلید قلبي سوى جوهرة التي كانت حقا اسما على مسمى فقد كانت جمیلة جمالا یخترق حصون القلوب، كما كانت مختلفة عن كل الفتیات التافاهات اللاتي لا یهتممن سوى بأنفسهن وجمالهن أما هي فكانت فارسة بارعة ومبارزة قویة وكذلك ذكیة وذات أراء مفیدة في شئون الحكم، وكأنها خلقت لتكون ملكة.
كنت أتمتع بصحتها وحدیثها المرح وشعرت بانجذاب نحوها لم أستطع مقاومته فكأنها كانت تكملني، لم تستطع أیة فتاة أن غزو أفكاري وتحتل أحلامي سواها.
ویوم أن خُطفت من قصرنا كدت أجن فلا أعلم من خطفها وماذا یرید وأخشى أن یمسها بسوء فأجریت تحقیقات قاسیة مع حراس القصر حتى اعترف أحدهم أن ملك المملكة الغربیة قرر خطفها لیوقع بین المملكتین ویمنع التحالف بیننا فصممت أن أعیدها ثم ألقنه درسا لن ینساه. بالفعل كنت أسابق الریح لأعیدها سالمة وبمجرد أن رأیتها ضممتها لصدري وودت لو أخفیتها عن العالم بأسره بقلبي، أحمیها بضلوعي وأفتدیها بروحي. عدت معها منتشیا بمشاعرها تجاهي التي ظهرت جلیة في عینیها لكن كان على أن أنفذ عقابي في ذلك الذي تجرأ على إیذائها كما تجرأ على انتهاك حرمة قصرنا وقلل من هیبة الملك.
أوصلتها للقصر وتأكدت من سلامتها وخرجت في حملة تعمدت أن تبدو تجاه الشرق وفي الطریق نصبنا الخیام للاستراحة وأثناء اللیل وصلتنا فرقة حراسة ملكیة خاصة أرسلها لي عادل وتركنا الخیام لیلا واتجهنا بسرعة نحو الغرب دون أن یشعر بنا أحد ولا یعلم بوجهتنا أي شخص سوى قائد حرسي الذي حل محلي في الخیام وادعى أني خرجت للصید حسب اتفاقنا.
توجهت مع مجموعة من الجنود المدربین جیدا للمهمات القتالیة نحو قصر أمیر الغرب، الذي كان وراء خطف جوهرة وقبل ذلك محاولة الهجوم على قصر والدها أثناء الحفل،وقررت أنه یحتاج أكثر من التأدیب الذي نفذه والد جوهرة حینها. تسلل الجنود لحجرة الأمیر وخلال نصف ساعة خطفوة ووضعوه في جوال وربطوا أعلاه بحبل محكم وربطوا طرفیه بأقدام الخیول التي جذبته خلفها حتى المنطقة الشرقیة. وسجنته في قبو مظلم أسفل القصر حتى تأتي أوامر الملك بشأنه، لكن الأوامر صدرت بقیادتي لجیش أرسله الملك لي وسیصل غدا، و مهمتنا أن نستولي على الإمارة الغربیة ونضمها لمملكتنا تأدیبا لذلك الأمیر الغادر وعند عودتي منتصرا أعود به للملك لیحكم في أمره.
استجبت لأوامر الملك طبعا وقدت الجیش نحو الغرب حیث كانت الفوضى تسود الإمارة بعد أنباء اختفاء الأمیر مما سهل استیلائنا علیها وأخذنا بعض الوقت حتى استتب لنا الأمر وساد الأمن البلاد بعد أن خضع الجمیع لحكمنا وتركت جزء من الجیش هناك وعینت على قیادته أحد رجالي المخلصین واخترنا لحكم البلد أحد المعارضین لحكم الأمیر السابق وأقسم بالولاء لنا وبعد استقرار الأمر عدت لمملكتنا ومعي الأمیر الغادر.
كنت منتشیا بالنصر وأظن أن الملك لن یرفض لي طلبا وقررت أن أفاتحه في زواجي من جوهرة لأني أحبها حقت، لكني كنت واهم فبمجرد عودتي سمعت بنبأ طلب كامل خطبة جوهرة لكنها مازالت تفكر فقررت أن أفاتح الملك برغبتي لكنه كان متوعكا قلیلا فقررت أن أؤجل حدیثي معه لوقت أخر. فاجئتني الملكة بطلبها لرؤیتي وهو أمر نادر جدا لأني أعلم جیدا أنها تكرهني.
ذهبت متعجبا فقابلتني ونظراتها تشع حقدا وكرها رغم أنها مُقعدة لكن قلبها لم یتغیر فلم تنس یوما أني ابن المرأة التي فضلها زوجها الملك علیها. بعد لحظات صمت قالت:
-أنا أعلم مكنون قلبك وأنك معجب بجوهرة ولكنها لیست مناسبة لك إنما هي تناسب كامل أكثر لذا لا تتدخل لتفسد ما بینهما والأفضل أن تبتعد عن القصر بعد زواجهما
-هل وصل بك الحقد أن تحرمینني ممن أحب إنتقاما من أمي المیتة؟ألا یكفیكي أنك حرمتها من كل أولادها
-وللأسف تركت أخبثهم وأكثرهم ضررا على ولدي
-أنا لا أخشاك وأفعلي ماتریدین
-ربما لا تخشاني على نفسك ولكن ألا تخشى على جوهرة؟ اعلم إنها إن لم تكن لكامل فلن تكون لغیره وللقدر أحوال عجیبة وأنت تعلمها مجداا
-أتهددینني بها؟ سأخذها ونذهب بعیدا عنك
-أخر كلام لدي إن لم تكن لكامل لن تكون لغیره انتهى اللقاء تفضل.
غادرت وأنا أترنح خوفا مما قد تفعله تلك الشیطانة بجوهرة فأنا لا أخشى الموت لكني أخشى على جوهرة من النسیم. قابلتني جاریة جوهرة برسالتها التي كانت بمثابة خنجر یمزق روحي، لكن لأني أعلم قدرة الملكة جیدا فقررت ألا أعاندها وفضلت أن تكون جوهرة لغیري وأحیا تعیسا لباقي عمري على أن أتزوجها وأفقدها وأعیش نادما بسبب أنانیتي لباقي عمري فكتبت لها رسالتي التي تشجعها على الزواج من كامل فأن تحیا مع غیري رغم شدة ذلك على قلبي إلا أن ألمه أهون ألف مرة من ألم فقدها للأبد.
طلبت من الملك بعد ذلك عودتي للمنطقة الغربیة لمتابعة الإصلاحات بها حتى نضمن ولاء أهلها لنا وعدم ثورتهم علینا فوافق أبي بعد جدل طویل لأنه لا یستغنى عني في شئون الحكم ولكني قلت له بحدة:
-لدیك ولي العهد
-لكن لیس له خبرتك
-لقد حان الوقت لیكتسب تلك الخبرة ألیس كذلك أم ستظل تدلله لأنه ابن الملكة؟ألم بأن الأوان أن يتعلم شئون المملكة التي سيتولى حكمها؟
ابتعدت لأرحم نفسي من عذاب قربها وحتى لا أحترق بنیران الغیرة عندما أراها مع كامل، وعندما حان موعد الزواج ادعیت المرض حتى یعفیني الملك من الحضور وأرسلت هدیة قیمة تلیق بالعروسین. بقیت وحدي أكابد ألام الشوق والحنین وأتلظى في نیران الغیرة وقررت أن أقیم هنا بعیدا عنهم.
الفصل الرابع
الیوم أسعد یوم في عمري لیس كملكة فقط بل كإمرأة فقد انتقمت أشد انتقام من غریمتي التي سلبتني حبیب قلبي وحرمتني من حبه وكانت عقبة في سبیلنا. الیوم تزوج ابني كامل ممن أحبها باسل ابن الجاریة وبذلك انتقمت من الجاریة التي سلبت لب الملك قدیما وجعلته یحبها هي وحدها ویهملني أنا الملكة التي أوصلته للحكم.
كنت ابنة الملك الجمیلة ذات الشخصیة القویة التي یتمنى الجمیع قربها لنفوذ والدها ویخشى البعض القرب منها بسبب قوة شخصیتها، لم أعر انتباها لأحد سوى لذلك المتعجرف قائد الحرس الملكي الذي لم ینظر إلى بإعجاب كغیره ولو لمرة واحدة. كان معتدا بنفسه كأنه هو الملك وأنا أحد رعیته التي لا یهتم لوجودها مما استفزني جدا وقررت أن أؤدبه وأوقعه في حبي ثم ألفظه بعد ذلك فتلك كانت لعبتي المفضلة. لكن قلبه كان محصنا ضد سحري وجمالي، حتى التهدید بالنفوذ لم یجعله یحرك ساكنا فلجأت لممارسة سحري على والدي وأخبرته أني أرید الزواج بقائد الحرس فرفض والدي الملك وقال:
-أترفضین الأمراء أبناء الملوك والوزراء وترغبین في قائد الحرس؟
-یا أبي إنه شاب قوي ومخلص لك ولم یفكر في نفاقي أو التقرب لي لینال ترقیة او مكافأة كما یفعل غیره، وذلك الذي تأتمنه علي وعلى الحكم خاصة بعد موت إخوتي الذكور كلهم في الحروب أو في الوباء
-دعیني أقابله أولا وأفكر جیدا ثم أقرر بعدها
بعد نحو أسبوعین وافقني والدي على رأیي واستدعاه وعرض علیه الزواج مني مقابل أن یكون شریكي في الحكم بعد موت أبي واشترط أبي علیه في أن یكون من یحكم بعدنا أحد ابنائنا أو أن یئول الحكم لرئیس الوزراء. بعد یومین من التفكیروافق على تلك الفرصة الذهبية وتزوجنا في حفل أسطوري تحاكى عنه الجمیع، وكنت في قمة سعادتي ورغم برود مشاعره تجاهي إلا أني كنت واثقة من أنه سیحبني یوما ما.
أنجبت ولدي كامل وكنت في قمة سعادتي فقد تحققت لي كل أحلامي وبعد عام توفي والدي ونصبني الجمیع ملكة للبلاد وأعلنت زوجي ملكا للبلاد وشریكا في الحكم ورحب الجمیع بذلك ماعدا بعض الأمراء الطامعین في الحكم، الحاقدین على زواجي منه، لكني لم أهتم بهم. أنجبت كامل بعد عام من زواجي مما أدخل السعادة على قلبينا وزادت الصلة بيننا قربا ومودة.كان كامل هو قرة عيني فهو ابن من أعشقه بكل جوارحي، وهو من سيرث عرش والدي ويحفظ الملك في أسرتنا.
ذات یوم كنت في جولة في أنحاء البلاد وخرجت في نزهة على ظهر حصاني الذي انطلق بي فجأة بسرعة مذهلة وفوجئت بانقطاع السرج مما جعلني أسقط من علیه بقوة ونزفت الكثیر من الدماء وبعد علاجي اكتشفت أني كنت حاملا وأجهضت وتسبب ذلك الحادت في صعوبة حملي بعد ذلك.
بكیت كثیرا ولكني أصررت أن أبذل كل جهدي لیكون لي أطفال أخرون، لكن في تلك الفترة ابتعد عني الملك كثیرا كزوج وحتى تلك المشاعر الباردة، التي لم تكفني أو تُشبعني يوما، اختفت وعندما بحثت عن السبب وجدته مشغول بجاریة اشتراها اسمها ورد فاشتعلت الغیرة بقلبي ولكني تمالكت نفسي وقلت ربما نزوة وتنتهي لكني كنت مخطئة فقد هام بحبها ولم یعد یفارقها لیلة بینما أنا یهجرني عدة لیال وعندما یأتي لجناحي یدعي الإرهاق بسبب ثقل المسئولیات الملقاة على كاهله.
زاد شغفه بها عندما أنجبت ذلك الفتى باسل فتزوجها وخصص لها جناح في أحد القصور البعیدة عني وزاد في تباعده حتى أصبح حضوره قلیل فثرت علیه ثورة شدیدة وواجهني بقوة وقال إنها زوجته وأم ابنه مثلي ولها نفس الحقوق فطالبته بالمساواة بیننا فوافق على مضض فكان یمضي معي ٣ أیام ومعها ٣ أیام، لكنها تفوقت علي في إنجاب ولدا تلو الأخر مما جعل كفتها الأرجح وخاصة مع عشقه لها وهجره التام لي كزوج مما ملأ قلبي بالكره تجاهها وبدأت خططي في التخلص من أولادها واستعنت بجاریة اعتقتها قبل زواجي بسبب انقاذها لي من الغرق، فكانت ذراعي في قصر ورد و تسببت في مقتل أولادها واحدا بعد الأخر حتى نظل متساویتین. فإن كانت حرمتني من حبیبي فقد حرمتها من أولادها وقرة عینها، وصحتها ضعفت بسبب كثرة الإنجاب ثم الحزن على فقد الأحباب، فكرت في قتلها والتخلص منها لكني خفت من أن أخسر زوجي نهائیا فقررت أن أتركها بعد أن ذبل جمالها واستنزفها الحزن.
لم یمض عامان حتى ماتت وتركت لي باسل لیذكرني كل لحظة بهزیمتي على ید جاریة فقد عشقها حبيبي ولم أستطع أن أشغل حیزا في قلبه. فكرت كثیرا في التخلص من باسل لكنه كان الذراع الأیمن للملك وهددني أن يقتلني إن أصاب باسل أي أذى، فاكتفیت بتجدید العهد بأن تكون ولایة العهد لكامل وأولاده من بعده وألا یتولى باسل الحكم أبدا.
وكأن اﷲ أراد أن ینتقم مني لكل ما فعلته فجعل كامل رقیق القلب مرهف المشاعر كالفتیات، یهوى الشعر والحكایات والطرب ولا یهتم لشئون الحكم رغم أنه من سیخلف والده، كذلك أصابني اﷲ بمرض لا علاج له وتسبب في إعاقتي عن الحركة، لكن كل ذلك لم یمنعني من كره باسل والتربص به لأصیبه في مقتل.
لم تكن لباسل نقطة ضعف تمكنني من السیطرة علیه وكسره حتى جاءت جوهرة وكانت نقطة ضعفه الوحیدة فانتهزت الفرصة وأوعزت للملك بخطبتها لكامل فهي الوحیدة القادرة على تغییر حاله ومساعدته في حكم البلاد فوافقني لشدة إعجابه بها ولخوفه على كامل من استهتاره، فكانت تلك وسیلتي للانتقام من ورد وباسل في آن واحد.
لم یجرؤ باسل على حضور حفل الزفاف فكان ذلك انتصارا كبیرا لي فقد انتقمت من غریمتي وأنقذت ابني من نفسه واخترت له زوجة تسانده في الحكم بعد موتي أنا وأبیه.
لست نادمة على كل مافعلته بورد ولو عادت الأیام سأفعل أكثر من ذلك لأنها حرمتني من الرجل الوحید الذي أحببته وجعلته ینفر مني ویبتعد عني حتى تحولت مشاعري نحوهما لكره ورغبة في الانتقام، وقد انتقمت منها ومنه ومن باسل أیضا فلو مت الیوم سأموت وأنا في قمة سعادتي.
الفصل الخامس
كنت أعلم أن زواجي من كامل مجرد زواج لمصلحة البلدین لیس أكثر فأنا لم أفكر فیه یوما، وكذلك هو ولكن أقدارنا وضعتنا في طریق بعضنا وعلینا أن نتقبل ذلك. كان حفل زفاف أسطوري حضره كبار رجال المملكتین وغاب عنه باسل وشكرت له ذلك لأني ما كنت أحتمل ألام قلبي في وجوده. انتهى الحفل وتوجهنا لجناحنا بالقصر الكبیر، فشعرت باضطراب كأیة فتاة في لیلة عرسها وخاصة أني لم تكن لي أم تنصحني أو تؤازرني في مثل تلك اللیلة.
جلست على سریري وأنا أنتظر ما سیفعله ویقوله كامل لكنه بقي واقفا عدة دقائق في صمت حتى قال أخیرا:
-تعلمین بالطبع أن زواجنا من أجل مصلحة بلدینا وأنا أكن لك كل تقدیر واحترام لكن قلبي لیس بیدي فأنا عاشق متیم ولا أستطیع خیانة حبیبتي التي لا أرى في الكون سواها لذلك زواجنا سیكون أمام الناس فقط أما فیما بیننا فسنظل مجرد صدیقین
رغم عدم رغبتي فیه إلا أن كلماته أذهلتني فلم أتوقع یوما أن أتعرض للرفض من أحد وبعد لحظات سألته:
-لماذا لم تتزوجها؟
-لأنها جاریة ولا تلیق للزواج بولي العهد من وجهة نظر الملكة.
-وكنت بالطبع أنا الأنسب فاخترتني أنا كواجهة لائقة وفقا لمقاییس الملكة أما هي فالأنسب وفقا لمقاییس القلب
-هل أغضبتك صراحتي؟
-لا بالعكس بل أراحتني فأنا أحب الصراحة والوضوح وطالما كان زواجنا بالعقل فقط ولأجل مصلحة البلدین فهذا الوضع یرضیني، لكن عندما یطالبك والداك بولد لیخلفك لا تأت إلي بل اذهب لجاریتك، من فضلك غادر جناحي لأني أرغب في النوم.
كنت أشعر بالضیق لتفضیله جاریة علي، ولكن بعد دقائق عندما صفا ذهني شكرت له مافعل لأني لم أكن لأطیق لمسته ولا قربه مني.
باشرت مهامي كزوجة ولي العهد فقررت أن أهتم بكل ما یخص النساء والأطفال في البلاد فلم أكتف بالاجتماع مع كبار رجال الدولة وقراءة تقاریرهم بل ذهبت في جولة في أنحاء البلاد لأتعرف على الأوضاع بنفسي، لكن حرصت على تجنب المنطقة الغربیة حتى أبتعد عن باسل.
استمرت جولتي نحو الشهر وعندما عدت أرسلت الملكة في طلبي فذهبت لها في جناحها فقالت وهي متجهمة:
-كیف تتركین زوجك كل تلك المدة وأنتم مازلتم عروسین؟ نظرت لها بتهكم وقلت:
-ما بیني وبین زوجي شأن خاص بنا ولا أناقشه مع أحد ولا أسمح لأحد بالتدخل فیه، كما أني كنت أقوم بواجباتي كأمیرة وزوجة لولي العهد ولا أكتفي بالمنصب وأتجاهل واجباتي وأتفرغ للمؤامرات.
قالت بغضب:
-من تقصدین؟
-أنت تعلمین یا جلالة الملكة
-یبدو أني أسأت الاختیار زوجة ولي العهد
-أطلبي منه الانفصال عني أو دبري مؤامرة لإغتیالي وعندها سیجتاح والدي وأخي مملكتكما وتصبحون جمیعا وأولكم ولي العهد أسرى لدیه ولا أضمن أن یحسن معاملتكم بل قد یبیعكم في سوق العبید، أنا الأمیرة جوهرة تربیة القصور وبنت الملك وأخت ولي العهد أفیقي للواقع.. أستأذنك في الانصراف
تركتها تغلي من الغضب وكنت علمت خلال فترة تواجدي كیف كان جبروتها بلا حدود وأنها كانت تتخلص من معارضیها وأعدائها بالقتل ولم یكن أحد لدیه القدرة على التصدي لها ولا حتى الملك، وأن نقطة ضعفها الوحیدة كانت كامل.
عدت لجناحي واغتسلت ونمت قلیلا وعندما استیقظت وجدت كامل یدخل جناحي غاضبا فقلت له بحدة :
-ألم أنبهك مرارا أن تستأذن قبل دخولك؟ فقال بذهول مرتبكا:
-أنت زوجتي أم نسیتي ذلك؟
-أنا لست زوجتك وتعلم أن تحترم رغباتي كما أحترم رغباتك.
-بإمكاني حالا أن أجعلك زوجتي وأخضعك لإرادتي وأسیطرعلى تمردك
ضحكت بشدة مما أغضبه حتى احمرت وجنتاه فقلت:
-لن تستطیع أبدا السیطرة على الأمیرة جوهرة وتذكر یا ولي العهد أني فزت علیك عندما تبارزنا وفكر فقط أن تقترب مني دون إرادتي وعندها سترى مالایعجبك
نظر إلي بذهول فقلت بحدة:
-دع سیطرتك الوهمیة لجواریك وأخبرني ما الذي أتى بك إلى جناحي؟ هل هو الشوق بعد طول غیاب؟ أم أن أمك بثت سمومها في رأسك فجئت لتنفیذ رغبتها؟
-الملكة شكت لي من سوء معاملتك لها
-لیتك تزوجت الجاریة لكنت الآن أنت وأمك وجاریتك وأنا سعداء، فأمك تصدر لي الأوامر متناسیة أني أمیرة وابنة ملك.
قال بضعف :
-الملكة اعتادت أن یطیعها الجمیع أنت وباسل فقط من تحدیتماها لذلك فهي تكره باسل ولا أریدها ان تكرهك.
-لا تخف علي وهیا اذهب لجاریتك حتى لا تغضب علیك.
تركني وخرج وجلست أبكي حالي فزوجي ولي العهد یخشى والدته ویخاف على غضب جاریته ولا یقدر على زوجته كم هي غریبة أقدارنا تحرمنا ممانحب وتمنحنا مالانرید.
مضت أیامي وأنا لا أبالي بالملكة وتحكماتها فقد تعلمت أني قویة ویمكنني مواجهتها وكنت بعد مواجهتها الأولي أرسلت لأخي عادل لیرسل لي فرقة حراسة تدین له بالولاء لحمایتي من مؤامرات القصور فأرسلها على الفور فكانوا دائما یحمونني في القصر وفي كل تحركاتي.
انشغلت بمشاكل النساء والأطفال في المملكة حتى لا یقتلني الحزن على حالي، حتى أفقنا جمیعا على كارثة هروب أمیر الإمارة الغربیة المسجون في سجن شدید الحراسة في قبو أحد القصور الملكیة المهجورة، واكتشف الحراس هروبه في الصباح عندما أدخلوا إلیه الطعام والشراب فوجدوه حفر حفرة كبیرة في الجدار تقوده لبهو قریب من الحدیقة وكان ذلك بین وجبتي المساء والصباح.
عندها عقد الملك اجتماعا معي أنا وولي العهد وكبیر الحراس وقال إن الوضع خطیر ولابد من تحذیر باسل وخاصة وأن الأمیر الهارب لابد له من أعوان ساعدوه على الهروب وأیضا سیدعمونه للهجوم على باسل وانتزاع الحكم منه وربما قتله.
فقلت:
-وبالتأكید له أعوان في الداخل ساعدوه على الهروب وأنهم یعرفون جیدا مداخل ومخارج السجن، وقد علمت من مصادر موثوقة أن المسجون انتقل من زنزانة لأخرى بحجة الصیانة، فیجب التحقیق أیضا مع المسئولین عن السجن لنعرف من المتآمر علینا من الداخل.
فقال الملك لكامل:
-الأمیرة محقة ابحث أنت عمن خان من الداخل وسأعد أنا فرقة من الجیش لمساندة باسل كما سأضع الجیش على أهبة الاستعداد.
انفض الاجتماع وأنا أدرك أن كامل لن یفعل شیئا وقد صدق حدسي فقد أوكل مهمة البحث لرئیس العسس، فقررت أن أوكل تلك المهمة لأحد الحراس المقربین مني لیعرف الحقیقة.
لم یخیب ظني ففي خلال یومین عرفت أن الملكة هي من تآمرت مع المسجون لإطلاق سراحه بشرط أن یقتل باسل ووعدته إن فعل أن یظل أمیرا على الإمارة الغربیة طوال الحیاة لأنها ستحمیه.
قبل أن أذهب لمواجهتها وفضح أمرها عند الملك، كان الملك أصدر أوامره بخروج الأمیر كامل على رأس الفرقة العسكریة الموجهة للإمارة الغربیة وأمره إن قابل السجین الهارب أن یقتله مباشرة وفي نفس الوقت أرسل رسولا لباسل لتحذیره. شعرت بانقباض في قلبي لا أعرف له سببا ودعوت اﷲ كثیرا ألا یصاب باسل بأي أذى.
في تلك الأثناء أرسل أبي جیشا بقیادة أخي لمساندة مملكتنا كما تقتضي الاتفاقیات بیننا فوجهه الملك مباشرة نحو الغرب لدعم ولي العهد. وقع ولي العهد وفرقته في كمین نصبه الأمیر الهارب لكن ظلت فرقة ولي العهد تقاتل ببسالة حتى یصل إلیهم الأمیر باسل بجیشه أو أخي عادل بجیشه، لكن قبل وصول أي منهما كان الأمیرالهارب استطاع قتل كامل بعد مبارزة غیر متكافئة بینهما حیث كان الأمیر الهارب أكثر مهارة من كامل فقتله وعندها وصل جیش باسل الذي ما إن علم بمقتل أخیه حتى ثارت ثائرته وراح یقاتل بجنون ولحقه جیش أخي عندما كان باسل قد قتل الأمیر الهارب ومعظم جنوده.
عاد عادل مع فرقة صغیرة من جیشه لممكلتنا مرافقا لجثمان الأمیر كامل، بینما ترك باقي جیشه تحت قیادة باسل الذي عاد للإمارة الغربیة بجثة الأمیر الهارب لتأدیب المتآمرین وللقضاء على بقایا أعوانه.
حزنت لمقتل كامل فقد قتله تدلیل والدته الزائد مما جعله ضعیفا لا یستطیع حتى الدفاع عن نفسه. عندما علمت الملكة بمقتل ابنها ظلت تصرخ منكرة ذلك وأقسمت أن تعاقب كل من یقول أنه مات حتى وصل الجثمان القصر وشاهدته فسقطت غائبة عن الوعي وقال الأطباء أن قلبها لم یحتمل الصدمة فماتت على الفور،فتكالبت الأحزان على قلب الملك وعم الحزن المملكة كلها.
الفصل السادس
خیم الحزن على القصر رغم مرور نحو الشهر على وفاة كامل وأمه خاصة بعد تدهور صحة الملك، كنت وحدي من أهتم به وكان أخي منشغلا بإدارة شئون المملكة حتى لا یطمع بها الطامعون لحین عودة الأمیر باسل الذي طهر الإمارة الغربیة من أنصار الأمیر السابق حتى خضع له الجمیع فعمل على إعادة تنظیم شئون المملكة ونشر الأمن بها، وعلمنا الیوم أنه على مشارف المملكة فشعرت بالاضطراب فها أنذا سألتقیه بعد فترة كبیرة لم أره فیها بعیناي لكني كنت أراه بقلبي وفي منامي.
وصل الأمیر للقصر فكان عادل في استقباله وأعطاه ملخصا عن أحوال المملكة وذهب باسل لجناح الملك الذي كان مریضا في سریره فانسحبت من الجناح قبل وصول باسل إلیه فقد خفت من ضعف قلبي ومن أن یبوح له بشوقي الجارف وحنیني إلیه. كان قلبي یخفق بقوة لفكرة أنه قریب مني فكیف إذا اكتحلت عیناي برؤیته ورویت ظمأ روح متلهفة إلیه؟!!!
في تلك اللحظة استأذن للدخول أخي فأذنت له فقال:
-أعتقد لم یعد لوجودنا هنا أي معنى أو فائدة سنعود غدا للوطن
-كما ترى یا أخي
قلتها وقلبي یتمزق ألما وحنینا فبمجرد أن تجمعنا الأقدار ماتلبث أن تفرقنا وكأن قدري أن أتعذب بحبه وأن یقتلني الحنین في قربه وبعده.
في الیوم التالي طلب الملك حضوري أنا وأخي لغرفته فذهبنا إلیه فوجدت باسل هناك فخفق قلبي بشدة وأشحت بعیناي عنه فلا قدرة لي على التماسك أمام عینیه رغم علمي انه لا یحبني، لكني مازلت أعشقه بجنون وأسأل اﷲ كل یوم أن یشفیني من حبه.
انتبهت على كلمات الملك بصوته الواهن عندما قال:
-مهما قلت أو فعلت لا أستطیع أن أوفیكما حقكما فقد كنتما حقا خیر السند في الشدائد وأثبتا لي أن وجهة نظري كانت صواب عندما صممت على هذا النسب صمت قلیلا فقال عادل:
-جلالة الملك نحن قمنا بواجبنا لما بیننا من اتفاقیات دفاع مشترك وكذلك لما بیننا من نسب فلا مجال للشكر بین الأسرة الواحدة
-فعلا نحن أسرة واحدة وأرغب أن یستمر النسب بیننا وألا ینقطع بوفاة كامل لذا أطلب منك أن تستأذن الملك في أن یقبل بزواج ابنتنا الأمیرة جوهرة من ابني الأمیر باسل الذي سأتنازل له عن الملك.
بهتنا جمیعا وحل الصمت علینا فقال الملك:
-أرجوكما استشیرا والدكما وأنتظر الرد في أسرع وقت فأنا أشعر أن أجلي قد حان
فقال باسل بلهفة :
-لاتقل هذا یا جلالة الملك ان شاء اﷲ ستقوم بالسلامة وتعود لك صحتك
-مایذهب یا ولدي لا یعود وأنا قد أكل الحزن قلبي بموت أخیك وأرید أن أطمأن علیك وعلى المملكة قبل موتي
خیم الصمت علینا حتى استأذن الطبیب بالدخول لأن وقت الدواء قد حان فانصرفنا بعد أن أذن لنا الملك. لم أستطع إخفاء اضطرابي بقربه وارتجافة جسدتي التي شعر بها أخي فضمني إلیه وقال هامسا:
-تأكدي أننا لن نفعل شیئا ضد رغبتك فنظرت إلیه ممتنة فقال باسل:
-هل تشعر الأمیرة بالإعیاء؟ سأرسل للطبیب فورا
فقال أخي:
-لاداعي للطبیب هو مجرد إرهاق بسیط سیزول بتناولها للطعام الذي أهملته
-سأطلب لها الطعام في جناحها على الفور
صعد معي أخي وقال:
-قبل أن أرسل لأبي بطلب الملك أریدك أن تعلمي أني لم أعرف أن والدنا أرغمك على الزواج فلو كنت علمت لكنت بذلت كل ما في وسعي لأجعله یغیر رأیه ولا یرغمك على مالا تریدین، والیوم إن كنت ترفضین ذلك الزواج فتأكدي أني سأكون معك أساندك في أي قرار
-أنا لا أرفضه لكني مذهولة من قرار الملك فلم أتخیل أن یطلب مني الزواج بعد كامل لكن یبدو أن مصلحة المملكة أهم من المشاعر الشخصیة
-وهل ستتزوجینه من أجل مصلحة مملكتنا فقط؟
-وهل نسیت ما تربینا علیه؟ فمصلحة البلاد مقدمة على رغباتنا الشخصیة، كما أن باسل لیس سیئا بل هو نموذج للأمیر وملك المستقبل، كما أني اعتدت على الحیاة هنا.
-جوهرة هل تحبینه؟
احمرت وجنتاي خجلا واضطربت ضربات قلبي فابتسم وقبل جبهتي وقال:
-أتمنى أن یكون جدیرا بحبك وأن یقدره
أرسل أخي بطلب الملك وجاءه الرد بالموافقة خلال یومین فأخبر به الملك وأراد ان یصطحبني معه حتى یحین الزواج بعد انتهاء عدتي، لكن الملك رفض وأرسل لأحد الفقهاء فأخبره ان المرأة تقضي عدتها في بیت زوجها المتوفى وهي ٤ أشهر وعشرة أیام، فطلب مني أخي أن أبقى بجناحي ولا أخرج منه إلا لغرفة الملك فقط وأمر الحراس الذین خصصهم لحمایتي بألا یدخل أحدا لغرفتي إلا الخدم وخاصة الأمیر باسل.
في الیوم التالي أعلن الملك أن الأمیر باسل هو ولي عهده، كما أعلن خطبتنا وحدد موعد الزواج في الیوم التالي لانقضاء عدتي.
سافر أخي وهو یؤكد علي ألا أضعف بسبب قربي من باسل وألا أستسلم لرغبات قلبي، فوعدته ألا أفعل وأخبرته أن باسل لا یحبني إنما یتزوجني إمتثالا لرغبة أبیه فقال غاضبا:
-ولم تقبلین بذلك الوضع؟ أنت لست قلیلة
-لأني أحبه وعندي أمل أن یبادلني حبا بحب مع العشرة
-وكأن قدر الأمراء ألا یستمتعون بالحب كالفقراء
-هل تعاني من ألام الحب انت أیضا؟
-نعم فقد أحببت ابنة الوزیر وعندما أردت أن أعترف لها بحبي علمت بخطبتها لابن عمها مجرد مواطن عادي یمتلك بیتا ومزرعة لكنها تهیم به عشقا وضعت یدي على قلبه وقلت:
-أسأل اﷲ أن یمن علیك بمن تسعد قلبك
قبل رأسي وودعني ووعدني بالعودة عند موعد زواجي.
مرت بي الأیام وأنا أتجنب اللقاء بباسل واعتزل الجمیع وأعیش في جناحي حتى جاءتني یوما نسمة جاریة كامل ومحبوبته وطلبت لقائي فأذنت لها فدخلت وهي متوجسة من رد فعلي علیها، تفحصتها لأرى ما الذي جذب كامل إلیها فلم أجد بها جمالا یخلب الألباب ولا شخصیة متمیزة، لكني تذكرت أن للقلب مقاییس تختلف عن العقل تماما، فسألتها عن حاجتها فقالت بصوت واهن:
-أنا مریضة من یوم فقدي لروحي وقلبي وأنتظر الموت كل لحظة لكن شئ واحد جعلني اتمسك بالحیاة ابنتي نور وهي ابنته أیضا لكننا كنا نخفیها عن عیون وجواسیس الملكة حتى لا تقتلها فقد أرسلتها مع صديقة لي تزوجت وحصلت على حريتها، نشات معها وصارت بیننا صداقة، إلى قریة مجاورة العاصمة وادعت انها ابنتها من أحد الجنود الذي مات في الحرب ولم یهتم احد بالبحث وراءها، وكنت أذهب خلسة لرؤیتها دون أن یشك بي أحد والأن وأنا أشعر بقرب موتي خفت علیها لذلك قررت مصارحتك بالسر حتى تتربى ابنتي في قصر أبیها ولا تعیش حیاة الجواري مثلنا، فهل ستساعدینني؟
سكت للحظات وأنا أنظر لوجهها الشاحب وجسدها المرتجف وأقول:
-ومن أدراك أني لن أتخلص منها ومنك ومن الجاریة صدیقتك وبذلك أنتقم منك لأنك حرمتني من زوجي وأمح كل أثر لحكایتكما؟
-لأن من تساعد الفقیرات والأیتام لابد أن تحمل قلبا كبیرا، كما أنك لم تحبیه یوما فلم انافسك في قلبه، ولأني سألت عنك كثیرا وعرفت أنك مختلفة عن الملكة
-ومن یدریني أنك لا تكذبین وأنها لیست ابنة كامل؟
-أقسم لك أني من یوم رأیته لم أخنه حتى ولو في خیالي
-دعیني أفكر وسیصلك ردي خلال یومین
-في انتظارك لكن أرجوك إن أردت الانتقام فانتقمي مني لكن دعي طفلتي
انصرفت فأرسلت لباسل أن یقابلني في جناح الملك عند الغروب حیث یكون الملك مع طبیبه الذي یفحصه كل یوم في نفس الموعد، فجاءني وهو متعجب وحاولت التغلب على اضطرابي لرؤیته وأخبرته بما حدث فظل صامتا للحظات ثم قال:
-اتركي لي هذا الأمر فقلت مندفعة:
-أرجوك لا تقتلهما
-وهل قال لك أحد عني أني قاتل؟ كل ما في الأمر أني سأتیقن من مدى صدقها لیس أكثر
-وإن أدركت انها صادقة ماذا ستفعل بالطفلة ؟
-سأخذها للقصر لتتربى كما الأمیرات فهي في النهایة ابنة أخي وحفیدة الملك ولیس ذنبها ان أمها جاریة ألیس كذلك؟
-طبعا لیس ذنبها فنحن لا نختار أباءنا سواء كانوا ملوكا أو عبیدا
انصرفت من أمامه مسرعة قبل أن أضمه لقلبي وأقول له أني أعشقه حتى لو كان مجهول النسب.
الفصل السابع
لم أره منذ ذلك الیوم حتى موعد العرس الذي أصر باسل أن یكون قاصرا على العائلتین فقط وأمر أن تقام الولائم في كل المملكة لیأكل الفقراء، كما أمر بنقل كل مافي جناحي إلى جناحه الخاص، وبعد انتهاء العرس توجهنا لجناحه وخیم الصمت علینا لكني استجمعت شجاعتي وقلت:
-أعلم جیدا أنك مرغم على تلك الزیجة لتنفذ رغبة والدك الملك وأنك لا تحبني وربما كنت تفضل أخرى عني لذا فأنا أعفیك من الحرج وأقول لك سأقوم بواجبي كملكة ولست مضطرا لتقوم بواجبك كزوج
-ومن قال لك ان اي شخص یستطیع إرغامي على شئ لا أریده؟ الزواج منك كان بناءا على رغبتي...فأنا...أحبك
نظرت إلیه متعجبة وقلت له:
-ألم تطلب مني من قبل أن اتزوج كامل وتخلیت عني؟ فهل أحببتني الأن؟
-لا بل أحببتك من أول لحظة رأیتك فیها لكن خفت علیك من مؤامرات الملكة فقررت أن أضحي بحبي مقابل ان تحیي بسعادة وسلام.
-لم أعرف طعما للسعادة بعدك اقترب مني وقال برقة:
-كفانا حدیثا عن ماض لن نستطیع تغییره ولنحیا الحاضر بكل روعته
-سمعا وطاعة أمیرقلبي
أمضینا عدة أیام ننهل من بحر العشق ولم نكتف بعد ولكن كان علینا أن نعود لمتابعة أعمال المملكة. عشت معه في سعادة بلا حدود فقد كان ملك قلبي وكل جوراحي، فارس وبطل ورغم ذلك يحمل قلبا يرفق بالضعفاء.
رزقنا اﷲ بأول مولود وكانت أنثى أسمیتها لینا وكنت سعیدة بها جدا لكني لاحظت ان باسل لم یكن سعیدا فقبلت وجنته وقلت:
-في المرة القادمة سیأتي الولد ولاتنسى ان الفتیات رزقهن واسع
ابتسم صامتا وبعد عدة أشهر توفي الملك وأصبح باسل هو الملك وصرت أنا الملكة، فزادت الأعباء على كاهلنا لكن ذلك لم یؤثر على قصة حبنا التي كانت تكبر یوما بعد یوم.
تزوج أخي في حفل أسطوري من ابنة أحد الأمراء زواجا تقليديا وتمنيت أن يجد معها الحب والسعادة ثم بعد تسعة أشهر أنجبت أنا وزوجته فكانت الطفلة الثانیة ندى بینما أنجبت زوجة أخی ولدا فشعرت حینها بالغیرة منها ولكني منیت نفسي أن الولد سیأتیني في المرة القادمة. لاحظت قلق باسل فالملك لابد له من ابن یخلفه وإلا ذهب الملك لمن لا یستحق او وقعت البلاد في براثن الفتن والحروب للتنافس على العرش، فطمأنته أن اﷲ سیرزقنا بالولد في المرة القادمة. لم ینقص ذلك من حب باسل لي بل كانت مشاعرنا تكبر وتتعمق بمرور الأیام. لم أتخلى عن عشقي للفروسیة بل كنت أحیانا أمارس المبارزة مع باسل وكثیرا ما كان یتركني أتغلب علیه لیسعدني، لكن عشقي للفروسیة تسبب في حرماني من الإنجاب عندما سقطت من فوق سلم القصربسبب شعوري بالدوار حیث كنت في بدایة حملي الثالث ولم أكن أعلم، فقضت تلك الحادثة على كل أمالي في الإنجاب مرة أخرى.
تعافیت من آلام سقوطي الجسدیة لكني لم أتعافى من الآلام النفسیة حیث ساءت حالتي النفسیة كثیرا وأصبحت أبكي وأصرخ باستمرار، ورغم كل ذلك لم یتخل باسل عني إنما كان یخفف عني ویواسیني ویبثني حبه وأشواقه حتى تغلبت على حزني وقلت له :
-إن واجبي كملكة للبلاد یفرض علي أن أطلب منك أن تتزوج أخرى لتنجب لك الولد لیرث العرش، رغم ان الألم یمزقني كزوجة لكن تربیتنا الملكیة علمتنا أن نتغلب على مشاعرنا من أجل مصلحة البلاد.
-لكني أحبك جوهرة ولا أرغب في امرأة غیرك
-وأنا أعشقك یاقلب جوهرة ولكن إن تركنا العرش بلا وریث تمزقت البلاد وصارت مطمعا لمن لا یستحق، لذلك فكرت أن أزوجك جاریتي سمراء
نظر إلي مندهشا حیث كانت إسما على مسمى سمراء البشرة بشعر أسود مجعد وعینان سوداوتین واسعتین بأهداب كثیفة فابتسم وقال:
-یالمكر النساء تعیشین في دور المضحیة وتختارین أقبح جواریك لأتزوجها، لا أنا أفضل أن تتمزق المملكة على أن یتمزق قلبي
-وهل ترید جاریة جمیلة لتأخذك مني؟ فابتسم برقه وضمني لصدره وقال:
-لن تستطیع أیة امرأة في العالم أن تاخذني منك أو أن تحتل مكانتك في قلبي فأنت الهواء الذي اتنفسه، دقات قلبي التي تمنحني الحیاة، الروح التي لو نزعوها من صدري فارقت الحیاة
-سلمك اﷲ وعافاك ودمت لي مالكا لقلبي.
الفصل الثامن
كنت أعيش أجمل أيام حياتي مع مالكة قلبي وعمري جوهرة وابنتينا اللتان تشبهانها كثيرا فكنت أعشق ثلاثتهن، لكن لابد للمملكة من ولي عهد وإلا تمزقت أواصرها أو يستولي على حكمها الغرباء.
لم أكن أرغب بالزواج من أخرى حتى لا أظلمها فأنا أعشق زوجتي ولن أحب سواها ، كما أني لا أرغب في الإنجاب من جارية ويعاني ابني منها نفس معاناتي ويُعاير بأمه مثلي. كنت حائرا تكاد الأفكار تمزقني تمزيقا فأنا أيضا لا أرغب في ابنة أحد الأمراء أو الوزراء فيطمعون بعدي في المُلك ويحرمون جوهرة والفتاتين من حقوقهما. لا أعرف ماذا أفعل لكني تركت الأمر للقدر لعله يرسل لي الحل الأنسب.
مرت الأیام وتناسیت فكرة زواج الملك لإنجاب الولد حتى ذهب في زیارته الشهریة لنورابنة كامل من نسمة التي خصص لها قصرا ومربیة تعتني بشئونها وأعلنها إحدى أمیرات الأسرة المالكة. كان یزورها كل أول شهر لیطمئن على أحوالها كما كان یرسل لها كثیرا لتقضي یوما في القصر مع لینا وندى وكنت أرحب بها فأنا أعلم أنها لاذنب لها كما أنها یتیمة الأب والأم فقد ماتت أمها حزنا على كامل بعد عدة أشهر من موته. وفي إحدى تلك الزیارات لمح عندها فتاة حسناء لفتت نظره وعندما سألها عنها قالت له أنها ملیحة ابنة صدیقة والدتها التي كانت تقیم عندها في صغرها وعندما ماتت أم ملیحة أحضرتها نور لتعیش معها وتؤنس وجدتها فهي بمثابة الأخت الكبرى لنور.
عندها قرر باسل ان تلك الفتاة هي المناسبة لإنجاب الولد له وجاء وصارحني برغبته فثرت علیه وأعلنت رفضي واتهمته بالخیانة فقال بهدوء:
-لقد كانت تلك فكرتك في البدایة وكنت تتحدثین عن التضحیة من أجل المملكة ورشحتي لي جاریتك
-لكنك رفضت
-رفضت سمراء ولم أرفض الفكرة فلم أرغب أن یكون لقب ابني ابن الجاریة السوداء، ونسیت الفكرة حتى رأیت تلك الفتاة الیتیمة وأدركت أنها الأنسب لأنها لیست جاریة إنما فتاة عادیة من الشعب كما أنها ستكون مجرد وسیلة لإنجاب الولد ولن تتسبب بمشاكل النساء وغیرتهن ومكرهن
-وإن لم تنجب لك الولد؟
-سأبحث عن غیرها
-كنت تقول أني روحك فهل ستنتزع روحك من جسدك؟
-مكانتك في قلبي لن تحتلها أیة امرأة، كذلك أنت الملكة وهي مجرد فتاة من الشعب
-عندما تنجب الولد قد تفضلها عني
-لن أفضل أیة امرأة في الكون عنك وهذا وعدي لك مادمتي جوهرتي الغالیة، لا أریدك أن تغاري فأنت عندي أغلى من كل النساء.
تزوجها وأنا أكاد أموت غیظا والغیرة تمزقني إربا وأصبحت شدیدة العصبیة، ورغم أنه خصص لها قصرا صغیرا بعیدا عني لكني كنت أود أن أعرف كل كبیرة وصغیرة تدور هناك فزرعت خادمة هناك كجاسوسة علیها وأخبرتني أن باسل حقا یحسن معاملتها لكن لیس كما یفعل معي.
أصبحت شدیدة العصبیة وأتشاجر معه كثیرا فكان یلتمس لي الأعذار أحیانا وقلیلا ما یغضب ویثور علي، حتى أنجبت له ملیحة الولد فسعد به سعادة شدیدة وأقام الولائم في أنحاء البلاد للفقراء وسماه كریم الدین.
لم أعد قادرة على التحمل اكثر من ذلك وتشاجرت معه خاصة بعد أن نصب كریم ولیا العهد بعد عدة أیام من ولادته واتهمته بأنه یفضلها عني وربما ینصبها ملكة علي وأني لن أسكت على ذلك، فنظر إلي طویلا ثم قال بحزن:
-أنتي لست جوهرتي التي أعرفها واعشقها بل أنتي الملكة زوجة أبي التي كانت تعمیها الغیرة والغضب عن الحقیقة وأخشي بعد قلیل أن تبدأ رحلة انتقامك من ملیحة وكریم وهذا مالن أسمح به أبدا هل تفهمین كلامي؟
-أنا أرغب في السفر لزیارة أخي وأسرته
-كما تریدین وأتمنى أن تعیدي التفكیر مرة أخرى وأن تستعیدي جوهرتي التي ضاعت في غیاهب الغیرة والغضب
سافرت واصطحبت معي ابنتي وقضیت نحو الشهر في قصر أخي مع زوجته التي كانت حامل للمرة الثانیة ومع طفله الصغیر الذي تعلق بندى التي تماثله في العمر. بعد عدة أیام حكیت لعادل كل ماحدث فصمت لدقائق وقال:
-والأن ماذا تریدین؟؟ هل تسعین للطلاق والتخلي عن لقب الملكة لتناله هي؟ أم تبغین أن یكرهك زوجك بسبب كثرة شجارك معه؟ ماحدث لن یمكننا تغییره فإما أن تقبلیه وتتأقلمي معه بلا شجار أو أن تتركي كل شئ، إنه اختیارك وحدك وسأساندك فیه أیا كان الاختیار لكن تذكري أن علیك احتمال نتائج اختیارك، ولا تلومي أحدا علیها.
بقیت عدة أیام أفكر وقررت أني أحب باسل ولن أفرط فیه لأیة امرأة أخرى، كما أني لن أسمح لها أن تفكر حتى في أن تنال أیة مكانة لا في المملكة ولا في قلبه.
عدت للمملكة وأنا حقا متلهفة لباسل ومشتاقة إلیه كثیرا،فوجدته يشتاق لي كأول زواجنا وتناسينا خلافاتنا وعشنا لفترة في سعادة بلا مشاكل وعندما أراد أن یأتي بكریم لزیارة أختیه رفضت بشدة فراعى مشاعري واصطحب الفتاتین إلى بیت ملیحة لرؤیة اخاهما لیعتادا علیه وتنشأ بینهما روابط الأخوة حاولت الرفض ففوجئت بغضبه الشدید لأول مروة حينما قال:
-لن أسمح لأحد بالتفرقة بین أبنائي، وغدا سنموت جمیعا وأرید أن یكون كریم هو سندهما وحامیهما.
سكت ولم أجادله مرة أخرى حتى لا أخسره، لكني لم أستطع حب كریم حتى بعد مرور السنوات ورغم أني سمحت له بدخول القصر إلا أني أغلقت قلبي أمامه، فكلما نظرت في وجهه رأیت ملامح المرأة التي أخذت مني زوجي، حقا قلبه مازال معي، لكنه یمنحها نصف وقته واهتمامه ورعایته.
احتفظت بكراهیتي لكریم في قلبي وكان یراها في عیناي كلما التقینا صدفة فلم یحبني أیضا. حملت ملیحة بعد كریم مرتین في المرة الأولى سقطت من فوق السلم مما تسبب في إجهاض الجنین وفي المرة الثانیة مات الجنین فتسبب لها في حالة تسمم وماتت معه، لم أنكر سعادتي أني تخلصت من غریمتي، لكنها كانت منقوصة بسبب نظرات الشك في عيون باسل حتى واجهني بعد موتها بظنونه وقال:
-بالطبع أنت سعيدة بوفاة مليحة وطفلها،لكن لو علمت أن لك يدا في وفاتها أو في موت طفلنا السابق سيكون لي معك حسابا عسيرا.
-هل تظن أن لي يدا في موتها حقا؟
-لقد غيرتك الغيرة تماما وأصبحتي إنسانة غريبة لا أعرفها فقد صرتي أكثر شبها بزوجة أبي نفس غضبها ونظرات الكراهية في عينيها ورغبتها في عمل أي شئ للتخلص ممن تشاركها زوجها، لم أعد أرى جوهرة ذات القلب الصافي إنما رأيت زوجة أبي،يبدو أن الغيرة تغير أحوال النساء وتملأ قلوبهن بالكراهية.
سكت ولم أجبه فقد كان محقا أعماني حبي له وغيرتي عليه عن التغيير الذي طرأ على روحي مما باعد بيني وبين باسل حبيب قلبي. لذلك قررت بيني وبين نفسي أن أعود كما كنت، لكن الزمن لم يمهلني فقد مرض باسل لعدة أيام ثم مات فجأة وفي مرضه كان يوصيني دائما بكريم وأنا أطمئنه بأنه سيتعافى ،لكن كانت للقدر الكلمة الأخيرة وسلب مني باسل حب عمري الذي لم أتخيل أن يفارقني ولو للحظة واحدة.
بموت باسل ماتت روحي وفقد قلبي قدرته على الحب والسعادة،فباسل كان هو كل حياتي ومصدر سعادتي وهنائي،شعرت أني ضائعة بدونه وأن الحياة فقدت معناها وقيمتها،حزنت كثيراً لكن حتى رفاهية الإنهيار لفراق الحبيب وشريك العمر لم تكن متاحة فكان دوري كملكة أن أحافظ على المملكة من أطماع الطامعين الذين استغلوا غضب بعض الخائنين في الداخل لإثارة البعض ضد فكرة حكم امرأة وطالبوا بانتقال الحكم لأحد أقرباء الملكة السابقة-زوجة والد باسل- بحكم أنها الوحيدة ذات الدماء الملكية وأن أقربائها أولى بالحكم منا، ووجدت تلك الفكرة مناصرين كثيرين من الداخل والخارج وكادت الثورة أن تندلع في البلاد لولا اتفاقي مع عادل على زواج ابنتي ندى من ابنه وبحكم التحالف بين المملكتين يتم تنصيب ابنه ملكا للبلاد وسأجعل مناصري الملك باسل يقتنعون بالفكرة كحل مؤقت حتى يبلغ ولي العهد السن القانونية لتولي العرش،ويكون ابن أخي هو الوصي على العرش، وبذلك يظل العرش في أسرتنا وأظل أنا الملكة في الظل وأكون المتحكمة في شئون البلاد وفي نفس الوقت يسهل على التخلص من كريم للأبد.
وافق أخي على فكرتي واستطعت استمالة أنصار باسل وإقناعهم أنة في ذلك حماية للبلاد من الفتن وطمع الطامعين وكذلك صيانة للعرش حتى يبلغ ولي العهد السن القانونية.تم الزواج وتنصيب ابنتي ندى ملكة وابن أخي ناصر كملك للبلاد، وفي بداية حكمه كان يحترمني كثيرا و يستشيرني في كل شيء ولا يتخذ أي قرار إلا بعد أخذ رأيي حتى تعرف على كل كبيرة وصغيرة في شئون المملكة ،واستطاع تكوين أنصار له وتخلص من كل معارضيه،وعندها بدأ يستقل برأيه ولم يعد رأيي ذا قيمة لديه بل أنه بدأ ينتزع مني صلاحياتي كلها، ولما فكرت في الاعتراض هددني بأن يرسلني لأخي عادل، الذي كبر وتولى ابنه الصغير آسر الملك بدلا منه، ليتمتع بصحبتي ونقضي الباقي من العمر معا في المنفى.
كانت صدمتي شديدة فأنا من أوصلته للحكم وجعلت منه ملكا وعلمته كل شئ وفي النهاية يهددني بالنفي خارج البلاد.
لجأت لندي لعلها تستطيع تغيير رأيه لكنها كانت ضعيفة الشخصية ولا تعلم شيئاً عن شئون الحكم فقد حرصت على إبعاد الفتاتين عن كل ما يخص الحكم وانفردت وحدي بكل شئ،كما أنها كانت متيمة بحبه ولا تقدر على غضبه منها، فتلاشت فرصتي في تغيير قراره.
ثم جاءت الضربة القاضية وكانت قرارا بخروجي من القصر الملكي وتخصيص قصر لي في الريف وتحديد إقامتي فيه فلم يكن مسموحا لي بالخروج أو التواصل مع أحد كان ذلك انتقام القدر لكل ما فعلته بكريم حين انتزعت الحكم منه وحرضت الملك ناصر على إرساله للجنوب بحجة التدريب على الفروسية وفنون القتال،لكن غرضي الحقيقي كان أن ينساه الناس حتى يستطيع ناصر فيما بعد أن يخلعه من ولاية العهد.
لقد دفعت ثمن ظلمي لكريم غاليا فهل أنا ذا حبيسة جدران أحد القصور الريفية والخدم جواسيس علي وفقدت كل شئ، فكما طمعت في حق كريم أرسل لي القدر من يطمع فيما أملك وينتزعه مني انتزاعا،كثيرا ما يأخذنا غرورنا حتى يُخيل لنا أننا نمتلك أقدارنا بأيدينا حتى نستيقظ على لطمة قوية تجعلنا ندرك أن مصائرنا مجرد لعبة في يد القدر.
الفصل التاسع
بقيت عدة أشهر أحاول التواصل مع أي شخص خارج القصر فقد كدت أجن من عزلتي عمن حولي، حتى خطبة ابنتي لينا حرمني من اختيار الزوج المناسب لها واختار ناصر أن يزوجها من ابن أحد الأمراء أقارب والدته ليضمن تأييده ومساندته هو وعشيرته،واقتصر دوري على مجرد حضور حفل الخطبة لاستكمال الاجتماعي. خلال الحفل قابلت كريم وأثناء انشغال الجميع اقتربت منه وقلت:
- لقد انتقم لك القدر مني وأدركت كم كنت مخطئة في حقك لدرجة أن الحقد أعماني وكانت النتيجة أن أضعت حقك وحقي.
نظر إلي ولم يتكلم فقلت برجاء:
-هل يمكنك أن تسامحني في يوم ما؟
-إن أجبتني بصراحة، هل قتلتي أمي؟
-أقسم بالله لم يكن لي يد في أي شئ حدث لها
-إذا قد أسامحك في يوم ما
لمحنا ناصر فجاء بابتسامة لزجة وقال:
-أعداء الأمس هل يصبحان حلفاء الغد؟
فقلت:
-وهل تركت لأحدنا فرصة ليكون له مساندين أو أنصار وأنت تعتقلني في الريف وتعتقله في الجنوب؟
-لا تنسي أن فكرة نفيه للجنوب لتنزعي عنه كل حقوقه كانت فكرتك
-لم أنس ذلك وندمت وكنت أعتذر له عما فعلته
-الملكة السابقة تعتذر!!تلك سابقة لم تحدث من قبل، هل اعتذرتي له عن قتل أمه؟
-أنا لم أقتلها ولم أفكر يوما في قتل أي إنسان
-ربما يا عمتي فأنت تجيدين إخفاء نواياكي وأفعالك،عموما وجودكما هنا لم يعد ضروريا لقد أمرت الحرس بإعادتكما
قبل أن ينصرف كريم قال هامسا:
-بين عشية وضحاها قد يغير الله الأحوال
فنظرت إليه صامتة وقد دوت كلماته برأسي، ترى هل يرتب لأمر ما؟ هل يستطيع استعادة ملكه أم أنه مجرد فتى متهور؟
انصرف بصحبة الحرس وأنا أفكر في كلماته، لكن ما سمعته في الحفل عن قبضة الملك الفولاذية على كل البلاد افقدتني الأمل،عدت لمحبسي وأنا يائسة من أن يتغير الحال فناصر يحكم قبضته على البلاد ويتحالف مع كل الدول المجاورة ليضمن حمايتهم إن تعرض لأي خطر، وحتى يزيد من ذلك التحالف تزوج على ابنتي من ابنة ملك المملكة الشرقية، وبعد وفاة والدها انتزع الملك من عمها الوريث الشرعي للعرش وضم مملكة الشرق لمملكتنا مما أوغر صدر عمها وبدأ في جمع أنصاره لاستعادة العرش منه.
كان زواجه من أخرى صدمة كبيرة لندى التي كانت تعشقه و تنفذ كل رغباته بلا تفكير حتى أنها وافقت على إبعادي عن القصر الملكي وقاطعتني من أجله بل وأجبرت لينا على الزواج رغما عنها لترضيه متناسبة أنها أختها ويجب أن تبحث عن سعادتها ، لكنها ضحت بأمها ألن تُضحي بأختها؟!!
لقد أطاعته طاعة عمياء وداست على كل الأواصر بيننا فكانت النتيجة أن غدر بها وتزوج بأخرى من أجل مصالحه.
كنت مدللة أبي وأمي فأنا الأميرة ندى الفتاة المشاكسة المرحة التي تشيع البهجة في القصر الملكي، حتى أخي كريم الذي يصغرني بعدة أعوام كان شديد التعلق بي وكنت أخفي عن أبي الكوارث التي نرتكبها معا، وكان يخفي عن الجميع عشقي الفروسية رغم منع أمي لنا من ركوب الخيل نهائيا، لكن كريم كان يصطحبني سرا بعد أن يجعلني أتخفى في ملابس الفتيان، فكنا نمرح معا كثيرا.
كنت فتاة مُدللة جامحة حتى قابلت ابن خالي الأمير ناصر ذلك الفتى الصامت ذو النظرات الغامضة فوقعت في مراهقتي صريعة لهواه.
ورغم أننا في نفس العمر إلا أنه يبدو ناضجا أكثر مني بكثير، فكان قليل الكلام، وإن تكلم ففي حدود وبعقل حتى أن كل من يراه يدرك أنه يوما سيصبح ملكا.
كان يفضل الجلوس مع الكبار عن مغامرات المراهقين وعبثهم مما زاد نضجه واختلافه عن غيره. كنا نتقابل مرة أو مرتين في العام ولا يتحدث فيهما إلا قليلاً لكن نظراته لي كانت تحمل أكثر من معنى لكني لم أستطع تفسيرها.
لم تمض الحياة بنا كما نحب فقد سلبتني سعادتي وإحساسي بالأمان بفقد أبي، الملك العادل، الرحيم برعيته، والأب الحنون الذي غمرنا جميعا بحبه ولكنه لم يكن الحب الذي يفسد الأولاد بل كان حبا عاقلا يعلم الكثير. بفقده فقدت جزءا من روحي، وسندي وأماني فصرت أتخبط في هذه الدنيا أبحث عمن يمنحني الأمان مثل أبي.
فوجئت بعد فترة قصيرة بأن أمي وخالي قررا زواجي من ناصرفشعرت بالسعادة فربما يكون هو عوض الله لي عن فقدي لأغلى من في حياتي. كان ناصر مختلفا عما تخيلته فقد غمرني بحبه ومشاعره وكلماته المعسولة في مقابل أن يمتلك قلبي وروحي وجسدي، كان كله لي بقلبه وكل جوارحه،في مقابل أن أتخلى عن الكون كله من أجله. صدقت حبه كالبلهاء وسلمته زمام عقلي وروحي يوجهني كيفما يشاء، وعندما وضع أمي تحت الإقامة الجبرية وحرّم على زيارتها أقنعني أن في ذلك مصلحة البلاد فلم أعترض، حتى عندما قرر أن يزوج أختي من أحد أقارب والدته ولجأت لي لأمنع ذلك الزواج أقنعني أنه يعرف صالحها أكثر منها فتخليت عنها وتركتها لمصيرها.
كان كل ما يعنيني في الكون هو حب زوجي ورضاه عني حتى لا أفقد سندي وأماني مرة أخرى. لكن ذلك الحب المزعوم سرعان ما ذاب وتلاشى أمام مصلحته ففوجئت به تزوج من أخرى وهي ابنة ملك أيضا، أي أننا متساويتان لكنها تصغرني في العمر،فكانت صدمة قاسية على قلبي، و أدمت روحي كثيرا.
عاتبته على مافعله به وذكرته بحبي الذي كان بقسم به ليل نهار وبالوعد الذي وعدني إياه وأنه لن يبيعني أبدا.
فاجئني رده بأن قال أني استنفزت رصيدي لديه وأن مصالحه أهم من عقلي الفارغ ومشاعري التي تجمدت عند المراهقة فقط، وأنه يحتاج لملكة ذات ذكاء وعقل نافذ لتشاركه الحكم، ولا يحتاج لطفلة مُدللة سخيفة مثلي تكون عبئا عليه.
دمرت كلماته القاسية صورته الجميلة التي حرصت على رسمها في ذهني، وجرحت كرامتي بشدة، ويبدو أنه نسي من أنا لكني، سأذكره بنفسي، فالمراهقة المُدللة السخيفة ستترك أثرا في حياته لن ينساه أبدا.
الفصل العاشر والأخير
أفاقت ابنتي من صدمتها وقررت أن تنتقم منه وأن تسلبه العرش الذي منحته له انتقاما منه على غدره بها وسوء معاملته لها،فأرسلت لي مع إحدى خادماتها رسالة بعد أن قامت برشوة الخدم حتى لا يبلغوه بتواصلها معي، فطلبت منها أن تأتي للقصر متنكرة في زي خادمة حتى لا يعرفها أحد.جاءت إلي وبكت وانتحبت بين يدي فتركتها لتفرغ طاقة غضبها وقلت لها بعد فترة:
-لا يفيد البكاء على اللبن المسكوب علينا أن نفكر كيف نتخلص منه ولكن هل تستطيعين القيام بذلك؟أم ستخذليني إن جاءك راجيا ومعتذرا؟
-من الذي يرجو ويعتذر؟لقد صفعني وأهانني عندما عاتبته على زواجه وقال أني بمثابة جارية عنده لا رأي ولا قيمة لي وأنه يعلم أني ضعيفة وليس لي سند،لقد احتملت نزواته وغروره لكن يهينني ويتزوج بأخرى هو مالا أغفره أبدا.
-هل تستطيعين التواصل مع كريم؟ أريده أن يحشد أنصاره وأنا لي أنصار داخل الجيش عليكي أن ترسلي لهم ليحاولوا التواصل معي كما فعلتي.
-خلال أيام سيكون لديك رد عن كل ما طلبتيه وسيرى ناصر إن كنت مجرد جارية أم ملكة ابنة ملوك
الغبي صور له غروره أن ابنة الملوك ستحتمل إهاناته وغدره في آن واحد إلا يعلم أن المرأة تغفر كل شئ إلا الخيانة والإهانة؟ ولقد ربيت بناتي على الإباء وعزة النفس بما يليق بالأميرات. لقد أعماه الغرور عن أن يكتسب قلب زوجته المحبة ، كما أعماه عن اكتساب محبة الشعب،وجعل كل همه قمع الشعب وكل من يعارضه مع زيادة نفوذه وتوسيع رقعة مملكته لكنه لا يدرك أن الأهم هو ترسيخ محبته في قلوب المحكومين ليدينوا له بالولاء ويفدوه بأرواحهم.
بالفعل تواصلت من خلال الخدم مع قادة الجيش الذين عزلهم الملك واستبدلهم بقادة مرتزقة يدفع لهم المال ليضمن ولائهم مما أوغر صدور القادة والجنود عليه وخاصة وأن هؤلاء المرتزقة يسيئون معاملة الجنود وأهل المملكة، وأعلن القادة ولائهم لي ولابنتي الملكة ولولي العهد المعزول.
كذلك جاء الرسول من عند كريم يبلغني بولاء الجنوب كله لولي العهد المعزول وكذلك ولاء الولاية الغربية للملك باسل الذي أهتم بأهلها بعد ضمهم للمملكة وأدخل فيها العديد من المشروعات التي رفعت من مستوى معيشة أهلها واهتم بتحسين الخدمات وعندما تولى ناصر الحكم عاد الإهمال والفساد يدب في أنحاء الولاية، فكان أهلها يناصرون كريم وابنتي كخلفاء شرعيين لباسل.
كذلك تواصلت ابنتي مع عم ضرتها الذي سلبه ناصر ملكه فأعلن عن استعداده للتعاون معنا للتخلص من ناصر.
فأعددنا خطة للانقلاب على ناصر من الشرق والغرب والجنوب ومن داخل العاصمة مما فاجئ ناصر الذي كان في جولة في الشمال واستولى الموالون لنا على معظم أنحاء البلاد ماعدا المنطقة الشمالية وعندما صور الغرور لناصر أن يعود للسيطرة على البلاد فوجئ بتخلي المرتزقة عنه وبقاؤه وحيدا مع فرقة صغيرة من جنود يدينون له بالولاء.
فأرسل له كريم يخيره بين الاستسلام والمحاكمة أو اللجوء لمملكة الشمال حيث يحكم أخوه ولا يعود مرة أخرى وفي الحالتين أعلن كريم عزل ناصر من الملك ونصب نفسه ملكا شرعيا للمملكة مناصفة مع أخته.
اختار ناصر الفرار الشمال فأرسل كريم تحصينات قوية للحدود كما أرسل لابن أخي يطالبه بالالتزام بالتحالف بين المملكتين تجنبا للحروب والدمار، كما أعاد لملك مملكة الشرق ملكه المسلوب ووقع معه معاهده صلح وتحالف.
بعد استقرار الأوضاع جاءني كريم وقال لي:
-كنت دائما أريد أن أعرف لم تكرهينني؟
-لأنك كنت ابن المرأة التي استطاعت أن تمنح حبيب عمري الشئ الوحيد الذي لم أستطع أن أمنحه له وهو الولد، اختارها بنفسه لأنها أعجبته مما يعني أني لم أعد أملأ عليه كل قلبه، حقا لم يمنحها قلبه كما فعل معي لكنها شاركتني فيه وتفوقت عليها بحبه ونسبي الملكي،بينما هي تغلبت على بالولد،لم يكن كرهي موجها تحديدا لك ولكنها كانت غيرة عاشقة على معشوقها. كل مرة كنت أقول لنفسي هو طفل صغير ليس له أي ذنب لكن ملامحك التي تشبهها كانت تقف حائلاً بيننا.حاول باسل كثيرا أن يجعلني أتخطي ذلك لكني لم أستطع وعندما مات شعرت بالضياع بعده فقد كان بوصلة روحي كلما ضللت الطريق،لذلك تغلب على شيطاني وزين لي أن أتخلص منك وأنكث بوعدي لحبيب قلبي -وتلك أول مرة- وأنتزع منك حقك وأنت الضعيف بدلا من حمايتك والوقوف بجوارك كما أوصاني باسل، فتحالفت مع أخي وابنه الذي ظننته بمثابة الابن لي، لكنه كان ثعبانا يدعي المسالمة والبراءة حتى تملك زمام كل الأمور فغدر بي كما غدرت بك. لقد أنساني غروري أن الإنسان كما يدين يُدان، فأذاقني القدر من نفس كأس الغدر الذي سقيته لك، ورأيت في منامي باسل غاضب مني ويقول لي أهكذا الأمانة؟أهذا وعدك لي؟؟ بكيت كثيرا وأدركت حينها مدى الجريمة التي ارتكبتها في حقك وجاء الانتقام أقسى من كل توقعاتي.لكن أتمنى أن تستطيع يوما أن تسامحني وربما تتذكر أني ساهمت في إعادة الملك لك.
سكت قليلا ثم نظر إلي بأسى وقال:
-كنت دائما أسأل أمي لماذا لا نعيش مع أبي الملك في القصر الملكي فتقول لأني لا أحب المظاهر الفخمة والبروتوكول المفروض على القصروساكنيه، كنت أصدقها. فقد كانت امرأة بسيطة جدا وكل هدفها في الحياة إرضاء زوجها الذي كانت تعشقه عشقا وهو كان يحترمها ويحسن معاملتها وعندما أثقل عليها الحمل الأخير أوصتني بطاعة والدي وحسن معاملة أختاي اللتان كنت أحبهما بسبب رقتهما وحنانهما ،وهي كذلك كانت تحب حنانهما علي واهتمامهما بي، وبعد موتها شعرت بالخوف والضياع فهي كانت كل حياتي ، أمي وصديقتي ومعلمتي، وأبي كان بعيدا عني تماما لذلك شعرت بالخوف والوحدة بدونها حتى جاء أبي وخصص لي جناح في القصر الملكي وخدم ومعلمين، فتعجبت من حال الدنيا هاهي تحقق حلمي بالحياة في القصر الملكي وفي مقابل ذلك حرمتني من أمي . من يومها تعلمت أن الدنيا تمنحنا أشياء لكنها ستحرمنا من أشياء مقابل ذلك، فلن يمنحنا القدر كل شئ ولن يحرمنا من كل شئ. كنت خائف من حياتي في القصر لكن حب أختاي ورقتهما معي كان بلسما لكل جروح قلبي، لكن كنت أخاف كلما التقيتك صدفة فنظرات الكره في عينيك كانت مرعبة وسمعت من بعض الخدم أنك قد تكونين السبب في قتل أمي وقد تحاولين قتلي مما زادني رعبا منك لذلك كنت أتجنبك بقدر الإمكان، وكأن القدر يرفض أن يتركني أنعم بالسعادة ولو لحين فحرمني من أبي سندي وأماني في هذا العالم وتركني فتى تائه ضعيف لا حول ولاقوة له
فكانت الصدمة الثانية هي نزعي من ولاية العهد ونفيي للجنوب. هناك بدأت مرحلة جديدة من حياتي تعلمت أن أعمل وأعتمد على نفسي فعملت بالصيد وتعلمت منه الصبر وتحدي الصعاب، وعملت بالتجارة وتعلمت كيفية التفاوض والاقناع، كذلك أتقنت فنون القتال والدفاع عن النفس فقد كنت مصمما على استعادة حقي المسلوب ولو دفعت حياتي في سبيل ذلك. بحكم تعاملي مع أهل الجنوب نشأت بيني وبينهم علاقات قوية وتزوجت ابنة حاكم الجنوب التي ساندتني بكل قوتها وعوضتني حنان أمي وكانت لي زوجة وصديقة ووطن أنتمي إليه رغم صغرسنها. كنت أعد نفسي للحظة المناسبة لاستعادة حقي المسلوب فوطدت صلاتي بكل من كان يدين بالولاء لأبي في كل أنحاء المملكة ، حتى أرسلتي برسالتك فأدركت أن لحظة الحسم حانت فشجعتني درة زوجتي وقالت لي ستعود إلى وأنت ملك المملكة.وهاهو الحلم تحقق لكن على بذل الكثير من الجهد لإصلاح ما أفسده الظلم والطغيان، وعلي أن أؤمن الحدود جيدا لأن ناصر لن يسكت عما فعلناه به، والأهم من كل ذلك علي أن أسامح وأغفر حتى أتمكن من التفرغ للحكم بقلب نظيف وذهن صاف،ولأن الكراهية والرغبة في الانتقام تدمر صاحبها قبل الأخرين وقد رأيتي ذلك بنفسك، كما أني لولاك لما استطعت استرداد ملكي الأن. لذلك قررت أن أرفع شعار التسامح لنتفرغ لبناء المملكة.
-وهل ستنزع أختك من الملك لتنصب زوجتك ملكة؟
-من ذاق مرارة الظلم لا يرغب في أن يُذيقه للأخرين، زوجتي لا تستحق منصب الملكة إنما أختي هي الأحق به وستظل شريكتي في الملك حتى تقرر هي أن تتخلى عنه بإرادتها.
-وأنا هل ستتركني في الريف رهن الإقامة الجبرية؟
-إكراما لما فعلتيه ولمكانتك في قلب أبي سأمنحك لقب الملكة الأم و أترك لك حرية اختيار المكان الذي تقيمين به ولك حرية التنقل بشرط إن علمت بتواصلك مع أخيك أو ابنه بدون علمي سيكون لي تصرف قاسي معك.
-موافقة ولكن لي رجاء أخير أختك الكبرى زوجها ناصر رغما عنها وعنا فعلا أرسلت في سؤالها إن كانت ترغب في الانفصال أو استكمال حياتها؟
-تواصلت معها منذ أول زواجها وعلمت منها أن زوجها رجل محترم وذو مكانة مرموقة ويحبها ويقدرها وأنها تريد أن تكمل حياتها معه.
-شكرا لكرم أخلاقك حقا أنت ابن باسل المتسامح كريم الخلق.
كرست الباقي من عمري لمساعدة الفقراء والمحتاجين وخاصة من النساء، وقد علمتني تجربتي أن كل شئ سيزول ولن يبقى إلا العمل الطيب وأن أقدارنا ليست بأيدينا وإنما نحن لعبة في يد القدر.
تمت
٣٠-٩-٢٠٢٠